سعاد خليل – ليبيا
خيال الظل فن من الفنون الذي لا تنطبق عليه مقاييس وتعريفات مسرح العلبة الإيطالية؛ رغم أنه شبيه بالمسرح من حيث الجمهور النظارة، وأيضًا وجود نص، إضافة إلى بعض التقنيات المساعدة للعرض.
فمسرح خيال الظل هو أحد الفنون المسرحية الذي نال شهرة واسعة خصوصًا في الوطن العربي، وكذلك انتشاره في الشرق الأدنى. ما هو مسرح الظل وكيف يتم عرضه؟
هو عبارة عن ستارة بيضاء رقيقة مشدودة على قوائم خشبية، ويقف المخايلون و(اللاعبون) خلف الستارة ومعهم مجموعة من الشخوص (الدمى)، وهي أحيانًا كشكل حيوانات أو أشياء كالسفن والاشجار والبيوت. لهذه الشخوص مفاصل وثقوب يدفع فها اللاعب عصيه لتحريكها. عند العرض، تطفأ الأنوار في أماكن المشاهدين الذين يجلسون امام الستارة، ويلصق اللاعبون عرائسهم بالستارة، ثم تضاء الانوار خلف العرائس؛ وهنا يري المتفرجون ظلالها واضحة في الجهة الأخرى. هذا وصف بسيط سنأخذ بعض القراءات في هذا النوع من اللعب.
يقول الأستاذ احمد محمد عطية:
في رحلة البحث عن الأصول والجذور التراثية للمسرح العربي، وعن كيفية فن المسرح لدى العرب، تتعدد الاجابات وتختلط الموضوعية العلمية بالحماسة القومية والعاطفية؛ لذا فثمة من أفقد العرب كل صلة بالأشكال المسرحية، وهناك من يؤكد وجود أشكال مسرحية متعددة في التراث العربي، حيث أنه لم ينشأ عربيًا عن أصوله التراثية بل قام على دعائمها الراسخة في الوجدان والضمير العربي.
وفي هذا الصدد، يقول يعقوب لنداو، في كتابه دراسات في المسرح والسينما عند العرب، أن مسرح خيال الظل، والحكايات العربية، والمقامات العربية، والحكواتي العربي تتمثل فيها جميعًا أشكال تمثيلية وحواريات مسرحية. ويمكننا أن نعثر، في زمن العصر العباسي، على نماذج شبه مقطوعة (المحاكاة)، وهي الحكايات العربية التي لا تختلف كثيرًا عن مضمون المحاكاة الحديثة؛ وهناك صيغة أدبية اخرى شائعة تحمل غالبًا عناصر المحاكاة في المقامة العربية، حيث تعرض موضوعاتها غالبًا في أسلوب المحادثة، كما أنها تقلد في أداء منها انماطا مختلفة من الشخصيات. كذلك، هناك دلائل قاطعة تؤكد معرفة العربي بفن المسرح عن طريق خيال الظل؛ وهو مسرح عربي أصيل تتمثل فيه كل سمات الفن المسرحي؛ ويرجع لبعض الباحثين مثل الدكتور سليمان قطاية في كتابه نصوص من خيال الظل بعروض مسرح خيال الظل العربية إلى القرن التاسع الميلادي، كما وجد باحثون آخرون اشارات في التراث العربي ترجع مسرح خيال الظل إلى العصر العباسي. يقول الدكتور علي الراعي، في كتاب المسرح في الوطن العربي، أن مسرح خيال الظل هو أول مسرح عربي يرتبط بالتراث العربي عن طريق المقامة، وأن محمد بن دانيال هو أول من استخدم المقامة في التراث العربي في انشاء مسرح عربي اصيل هو مسرح خيال الظل.
يضيف الأستاذ احمد عطية، في هذه الدراسة، أن دانيال أخذ ما تكون في حضن المقامة من دراما أيًّا كان شأنها وجعل منها مسرحًا حقيقيًا له نظرية واضحة وممارسة أوضح؛ ويضيف الدكتور علي الراعي قائلًا بأن أهمية بدايات ابن دانيال ترجع بعد هذا إلى أسباب تتصل بالماضي كما تتصل بالحاضر؛ حيث استقطبت ما في المقامات من امكانيات الدراما، وهذه الامكانيات هي أهم ما استطاع الأدب العربي أن ينتجه على سبيل المسرح قبل ظهور ابن دانيال، وقد أقامت في مصر مسرحًا حقيقيًا؛ ليس فقط بما قدمته من أمثلة تطبيقية لفن المسرح، بل وبما زرعته من تقاليد مسرحية غرست فكرة المسرح في نفوس الناس، وحفظها من الضياع إلى أن جاء الوقت الذي عرف العرب المحدثون المسرح البشري نقلًا عن أوروبا.
مسرح خيال الظل قدمت فيه بحوث ودراسات في الغرب لمعرفة جذوره وتاريخه، منها بحث للمسرحي الروسي داكروب. ف.، في جامعة بطرسبورغ، حيث قدّم بحثًا تحت عنوان مسرح خيال الظل في البلدان العربية، تناول فيه رصدًا شاملًا للمبادئ الفنية والتقنية الكامنة في أساس مسرح الظل التقليدي، وتحديد طبيعته الفريدة المرتبطة بتاريخ عريض، وتناول أيضًا تاريخ المنطقة العربية، وفلسفتها ودياناتها، وكذلك على مواد أنثروبولوجيا، وعلى التراث الشعبي وتاريخ الفن العربي؛ واستشهد بانطباعات ووصف الرحالة الاوروبيين ومذكراتهم حول مسرح الظل العربي، وعلى مقالات واعمال الباحثين العرب والاوروبيين ونقاد مسرح الظل والأدب، ومذكرات الممثلين العرب.
يقول في مقدمة أطروحته: مسرح خيال الظل، في بلدان حوض البحر المتوسط، كان أحد أنواع الفن الشعبي الأكثر انتشارًا على مدار قرون عديدة، وانتشر هذا المسرح في الوطن العربي، ومؤخرًا في البلدان الغربية قادمًا من جنوب غربي آسيا وشرقها، بأن حافظ فيها بعض أشكال مسرح الظل على تقاليده القديمة، بينما ضاع هذا الفن في ثقافة الشعوب العربية، ومع ذلك نلاحظ اهتماما متزايدًا بين المسرحيين العرب ببعث تقاليد مسرح الظل، التي كانت مرتبطة بالوعي القومي.
في دراسة كتبها الأستاذ أحمد محمد عطية يؤكد فيها على أهمية مسرح خيال الظل كمسرح عربي اصيل، كان الجسر الذي عبر عليه المسرح إلى الوجدان العربي لدى الجماهير العربية؛ وفي هذا السبيل، يأتي كتاب الدكتور سليمان قطايا (نصوص من خيال الظل) ليقدم إضافة جديدة عن مسرح خيال الظل في حلب، ويضمنه دراسة نظرية وتطبيقية عن هذا المسرح، ويورد بعض النصوص عن مسرح خيال الظل الحلبي، لم تكن معروفة من قبل ونشرها في كتابه وجمعها من مصادر حية خلال لقاءاته مع بعض الشخصيات المتبقية من فناني مسرح خيال الظل. لقد كان كتاب د. قطايا مليئًا بالمعلومات عن مسرح خيال الظل، ومن مصادرها الأصلية مستندًا على بعض التسجيلات، وأيضًا يناقش الدكتور سليمان قطايا آراء النقاد والكتاب العرب حول مسرح خيال الظل، وهل هو مسرح أم لون من ألوان الملاهي الشعبية، أو أنه أقرب إلى الوثائق التاريخية منه إلى المؤلفات الأدبية؛ فيقرر الدكتور قطايا بأن مسرح خيال الظل هو مسرح حقيقي ينطبق عليه تعريف المسرح كما حدده (اتيين سوريو) بأنه صالة يجتمع فها جمهور ما لمشاهدة ممثلين على خشبة المسرح يقدمون مقاطع من الحياة، ويجد الدكتور قطايا أن هذه الشروط متحققة في مسرح خيال الظل العربي؛ بمعني أن المسرح مؤلف من صالة وجمهور وممثلين وخشبة ونص. هذه العناصر كلها موجودة في مسرح خيال الظل، حتى لو أن الممثلين هم دمى من الجلد الملون، ويتكلم عنها ممثل واحد أو يساعده شخص آخر في عمله. هذا، وحاليًا فإن جلّ النقاد والمؤرخين الأجانب يعتبرون مسرح الدمي بكل أنواعه بما فيه خيال الظل فنًا مسرحيًا بدون شك. فيدافع الدكتور سليمان قطايا دفاعًا حارًا عن مسرح خيال الظل، فيرفض الآراء التي تقلل من شأنه لتفشي التعبير الجنسي في حواره وأشعاره كما انتقده البعض.
ما يهمنا في هذا هو أن نؤكد أن مسرح خيال الظل مسرح شعبي تمامًا وعربي ولغته هي اللغة العامية التي يتكلمها الناس في الأسواق والدكاكين، وما علينا إلا أن نستمع إلى ما يقال حولنا. ويؤكد مع مؤرخي المسرح لخيال الظل في تاريخهم لبداية مسرح خيال الظل العربي أنها كانت بالقرن التاسع الميلادي، وهو زمن سابق على قيام الدولة العثمانية في القرن السادس عشر. ويشير إلى محمد بن دانيال شاهر كتاب مسرح خيال الظل في مصر في القرن الثالث عشر الذي بقيت بعض أعماله العربية المخططة محفوظة في اسطنبول، والقاهرة والاندلس، وصورت في مصر. كما احتوت النصوص على شروح لطريقة الأداء والإخراج. وعودة إلى الباحث داكروب، والذي يعد الأساس الأدبي للمسرحيات بمثابة دراسة نظرية لعناصر عروض الظل، فأكثر الأعمال المكرسة لمسرح الظل العربي مبنية على التحليل الأدبي لنصوص ومحاور مسرحية مُعلّم مسرح خيال الظل ابن دانيال الموصلي، وأول من حقق وبحث في مخطوطات مسرحيات ابن دانيال هو الباحث المصري ابراهيم حمادة، وذلك في كتابه مسرح خيال الظل ومسرحيات ابن دانيال. يقول الباحث أن المستشرقين الألمانيين باولو كالة وجورج ياكوب قاما بتسجيل محاور مسرحيات خيال الظل العربية من مصر وسورية ولبنان وليبيا وتونس.
مسرح خيال الظل اعتمد مكانين للعروض: في المنازل وفي المقاهي؛ إذ ان المقهى أشبه بصالة المسرح فهي تتضمن الجدران والكراسي، والمدخل والمنصة والإضاءة وغير ذلك. إن فضاء المكان والزمان في مسرح خيال الظل نوع من إيجاد الربط بين مختلف الدلالات التي يشتمل عليها العمل المسرحي لتوضيح لسمات متشابهة، وأن أول ما يمكن الإشارة له هو أن دلالات الزمانكية في مسرح خيال الظل اصطناعية، ولكن ما هو أهم أن احترام وحدة المكان من قبل النظارة سواء في المقاهي قديمة أو أحد المنازل؛ فمجرد ما يعلن عن العرض حتى يتغير سلوك المتواجدين في المقهى من حيث الجلسة والتوجه والانتباه والتأمل والصمت والترقب والتحفز.
’’مسرح خيال الظل مسرح شعبي تمامًا وعربي ولغته هي اللغة العامية التي يتكلمها الناس في الأسواق والدكاكين’’
يقول هيثم الخواجة في دراسة عن مسرح خيال الظل: في الدراما كما هو معروف تكتسب الدلالة معاني لدي الحضور قد تكون سلبية وقد تكون ايجابية، ولهذا يتحدد نجاح العرض في دقة الدلالة وإصابتها للهدف، ويخفق العمل المسرحي ويتشوه إذا أدت الدلالة عكس ما خطط لها ورسم لوجودها، وتكتسب العلامة المسرحية البارزة من وراء الدلالة أهميتها عندما يردها النظارة إلى معان قيمية أو وجدانية أو فكرية. مما تقدم، يمكننا القول أن الزي المسرحي في خيال الظل والديكور والمساعدات الفنية، كل ذلك يصوغ علاماتٍ تُشكِّل خاصياتٍ لها مثيل أو شبيه واقعي يشيع دلالة ما منفردة أو مركبة، معنوية أو مادية، نفسية أو شكلية… إلخ. فهذه الدالة تحقق تأثيراتها الفاعلية ضمن نسيج العمل الدرامي؛ فمثلًا الملابس أو الشوارب كل ذلك يدل على الشخصية التراثية أو على الأقل الماضوية، والتاج مثلًا دلالة على الملك، والكرسي دلالة على السلطة، وتتسع قدرة الدلالة في الإبداع خصوصًا إذا اندمجت في العرض مع أداء الممثل لخيال الظل.
عرض خيال الظل يعتمد بالدرجة الأولى على اللغة، ولكن لا ننسي أن المحسوس مهم جدًا؛ فالمقهى الذي ينفذ فيه العرض هو ديكور العرض ومكانه، والشاشة البيضاء وكراسي القش والصمت والإطفاء أمور لها دورها في المحسوس لعرض خيال الظل، الذي يكمل دور اللغة وإشاراتها وتصوراتها. هنا، نؤكد على ضرورة الانسجام بين كل ما تقدم؛ لأن التصوير المرئي مكمل للتصوير اللغوي، وتبقي قدرة المخايل على الايحاء والمحافظة على وحدة عالم العرض التي يحس بها النظارة احساسًا كاملًا رهيفًا.
رغم أن شخصيات خيال الظل ليست حقيقية، فإن تواصل الجمهور يتأتى عن طريق الربط بينها وبين اشخاص حقيقيين، وعن طريق المخايل نفسه الذي يؤدي جميع الأدوار وحده (راوي، ممثل، مخرج، مؤلف مدير مسرح) ومن هنا، نجد أن المتلقي في خيال الظل ذهنه في التخييل والتخيل ليحقق متعته ويجد ضالته في الوصول إلى الهدف الأعلى من البابة، وأول سؤال يجب أن يُطرح في مجال المسرح هو ما إذا كان العرض المسرحي حقق تواصلًا أم لا.
اذا كانت الصورة في خيال الظل خيالًا حقيقيًا لصورة تشبه كائنًا حيًّا، فإن لهذه الصور معانيها وقدرتها على التأثير في ربط الواقع بالمتخيل، وفي تجاوز الصورة حدودها للتماهي في الكائن الحي في ذهن النظارة في اعطاء المتلقي حالتين متطابقتين في خياله، منفصلتين في وعيه، ولكنهما تؤديان الغرض نفسه. من هنا، تتجلي أسباب اعجاب الجمهور بخيال الظل، وإذا أضفنا إلى ذلك النص الذي يؤديه المخايل عن طريق اللغة التي تتميز بسمة أساسية هي أنها أحد مكونات عملية التواصل ذاتها، ولكن باتجاه واحد ينطلق من المخايل دون أن يرد المتفرجون عليه باللغة ذاتها، ورغم هذا لا نستطيع نكران تعبيرات وجوههم وتعليقاتها ومللها وإنشاداهم، وهذا جزء من التعبير والتواصل.
هذه بعض التعريفات عن مسرح خيال الظل، كونه يعتبر من التراث العربي، وعرف منذ القرن التاسع الميلادي، ولكنه تراجع مع ازدهار المسرح الحديث؛ ذلك لأن هذا المسرح بسماته وإمكانيات أقدر على شد الجمهور، وإذا أضفنا إلى ذلك التطور الذي طرأ في عصرنا بعد ظهور السينما والتلفاز والانترنت ما يؤكد بأنه لا يمكن لخيال الظل أن يبقي ويصمد أمام هذه التكنولوجيا والمخترعات الجديدة. بالمقابل، هذا المسرح لم يختفِ أو يتلاشَ كليًا، حيث لم يمنع المسرح الحديث أنه أعتمد في بعض اعماله على خيال الظل واستغله استغلالًا منطقيًا، بحيث أدخل المخرجون خيال الظل ضمن عروضهم لغايات عدة ككسر الرتابة والخلاص من الملل، وإبراز بواطن الشخصيات، وتثبيت فكرة، وأحيانًا للتجريب المسرحي، وكذلك للربط بين التراث والعصر الحديث، وتحقيق المتعة والاثارة، إضافة للزخرفة كما يقول: هيثم الخواجة الكوميديا، الارتجال، الشعر، الزجل، الموسيقي، النقد، الفضاء، الاجواء الخاصة الاعتماد على المقامة، تعدد الأصوات، تعدد الشخصيات، الاسقاطات تعبيرات عن فعل غير مسموح على الخشبة، وغيرها، كلها نجدها في بعض العروض المسرحية وقد ادخلت من خلال توظيف خيال الظل في العرض.
نؤكد أن مسرح خيال الظل كانت له ايجابيات في بعض عروضه الساخرة، والتي كانت تجمع بين العروبة والقيم النضالية في مواجهة التسلط العثماني؛ والبضع واصل بهذا المسرح النضالي دوره في مقاومة الاستعمار الفرنسي لسورية، وبإسلوبه الساخر معبرًا في ذلك عن ضمير الشعب العربي وروحه ومشاكله ممثلًا لها بسخرية، فكان يُعرض في المقاهي وفي الأسطوانات المسجلة، مما جعلها عرضة لهجمات الحكام والسلطات الأجنبية، وعجل بإيقافها في تلك الفترة الزمنية التي مرت بها الأمة العربية.
علينا أن ندرك أن مسرح خيال الظل يمتلك بنية سيميائية غنية، وأن إشارات الشخصيات وحركاتها وأفعالها في عرض الخيال تؤدي غرضًا وهميًا لا يترجم إلى حقيقة إلا إذا استطاع المتلقي الربط بين هذه الشخصية والشخصية الحقيقية أو الواقعية التي أرادها المؤلف وبالتالي المخرج.
وبهذا يكون التأكيد بأن مسرح خيال الظل يعتبر من التراث العربي استنادًا على الدراسات التي اعتمد عليها الباحثون العرب والغربيون.