رائحة الورق الملون

0 566

فضیل احمد – السودان

لم یسعفه الوقت لأن یدون اسم اللافتة المعلقة على جدران المبنى من الخارج.. اسمه شریف ..(شریف الخَتاّي).. یكرر دائماً أن وجوده في هذا الوقت خطأ، ووجوده في هذا المكان أیضاً خطأً آخر، وخطأ زمانه وخطأ مكانه یؤدیان به الى الحقیقة. یعتقد أن الحقيقة تخرج من صلب الخطأ، وأن الصواب بذرة الخطيئة عینها. كل بوم یتعمق شریف الختاي في الأسرار الربانیة للخطأ. فهو یعتقد أن هناك أسراراً عظیمة أسكنها ﷲ داخل الخطأ، ویؤمن بقدسیته.

 یقول إنه لولا الخطأ لما وجد الصواب من أصله.. ویقول إن أوائل الناس الذین آمنوا بالقمر وجعلوه إلهاً كانوا محقین، لأنهم تطوروا في معرفة ﷲ عبر الخطأ.

 أول مرة في حیاته یستسلم لقدسیة الخطأ عندما رأى في المنام – قبل سنوات – امرأة عاریة تصلي برجال ملتحین في فضاء لا غرار له، منذ لحظتها عكف یدون في مذكراته عن أسرار الخطأ وقدسیته. أجمع الناس في المدینة أن یسموه (شریف الختاّي) لإیمانه بالخطأ فاشتهر بالأسم. لم یستغرب أن تصلي امرأة برجال، طالما آمن أن الخطأ التعبدي لهو أقدس الاخطاء. دخل المبنى لأول مرة صباح یوم الأربعاء في وظیفة ذات صلة مباشرة بالأموال النقدیة. أحضروا له كرسیا كبیراً یلیق به، فهو الرجل العامل في مجال تصویب الخطأ وتقدیسه. كل المدینة تعرفه بذلك.

كان یلبس أجمل ما لدیه عندما جلس على الكرسي الكبیر بمعاونة مدیر المنظمة لابتدار وظیفته، ظل ینظر إلى الأعلى حیث سقف المكتب، بینما كان المدیر یشرح له دروساً مبسطة في كیفیة التعامل مع الأموال وجهات صرفها. ظن المدیر أن الرجل یسكنه َمسخ شیطاني خفیف، اذ كیف به یظل مشدوها نحو سقف المبنى هكذا، بینما أنا أشرح له أبجدیات العمل. بعض أصدقاء شریف تنحوا جانبا ً بالمدیر وهمهموا له بأن الرجل لم یكن مجنوناً، وإنما هو صدیقنا شریف.. شریف الختاي، صاحب تقدیس الخطیئة في المدینة. المدیر – وهو أمریكي الجنسیة – لا یعرف شریف الختاي، ولم یقابله من قبل، أو حتى یسمع به، لكنه عاد وتعامل معه بلطف.

أرجع شریف الختاي بصره إلى درجه وحدق في الأموال الضخمة التي تقبع في الصنادیق، وجال ببصره أرجاء مكتبه الجدید بتوتر..راقت له الفكرة والعمل هنا بعد أن ظل یرفض – ومنذ وقت طویل – أي وظیفة ذات صلة بالأموال، أیقن أنه سوف یمارس الخطأ مجدداً في هذه الوظیفة، على الأقل سیقنع آخرین بالخطأ وقدسیة الخطأ.

ظن المدیر أن الموظف الجدید- وهو شریف الختاي- سوف یدُخل المنظمة في مشكلات مالیة طالما أنه یعتزم الاستمرار في ممارسة الخطأ وتقدیسه.. وبما أن المنظمة هي مؤسسة دولیة ونزیهة في عملها؛ لا نقبل العبث بالعمل هنا، وربما نضطر الى توقیفه عن العمل. قال المدیر. شریف الختاي لم ینزل بأفكاره إلى هذه الدرجة من السفالة. فهو یفكر عكس ما یفكر فیه المدیر. قال لأصدقائه ذات مساء في مطعم شارع السباّكة، إنه لا یفكر كما یفكر مدیره في ممارسة الخطأ في الأموال.. وإن مسالة تصویب الخطأ لدیه مختلف تماماً عما یقوله المدیر. كل المدینة تعرف شریف الختاي ونوایاه الطیبة. لأجل ذلك لم یهتم أصدقاؤه بما كان یقوله لهم، لكنه استمرفي شرح الاختلاف الجوهري بین ما یقصده من استحباب الخطأ وتطویره، وبین ما یظنه المدیر. كان یرمي إلى أن تصل فكرته إلى المدیر عبر أصدقائه لیخلق معه ثقة معقولة كما ثقة  المدینة به.

 في فاتحة شهر أبریل یوم الأربعاء اصطف زهاء الأربعین رجلاً وامرأة أمام مكتبه لصرف مستحقاتهم لشهر مارس. أغلبهم من البیض القادمین من الغرب، والسود القادمین من أعماق أفریقیا یعملون في ذات المنظمة. حتى هذا التاریخ منذ بدایة عمله – شریف الختاي – لم یلمس الأموال المودعة في خزانته.. كان یقشعر منها، وظل منتظراً لحظة صرفها لأصحابها. كان یضحك في قرارة نفسه كل دقیقة.. یستغرب كیف برجل مثله أن یقبع في غرفة كهذه لغرض العمل.

اللوحة للقاص نفسه (فضيل أحمد)
اللوحة للقاص نفسه (فضيل أحمد)

في لحظة ما، فكر أن یلقي بالدُرج ویخرج من المكتب إلى حیث شارع السباكة لیعلم الناس عن جمال القبح، أو یواصل في تصویب معنى الخطأ بدلاً من البقاء في هذه الغرفة، لكنه تراجع وبقي ینتظر قدوم أول عامل لإعطائه راتبه. أغمض عینیه للحظة، كان یقشعّر من رائحة الورق المنبعثة من الخزانة، إنها الأوراق الملونة.. حزمٌ متراصة بعضها فوق بعض تنتظر طریقها إلى العاملین. یا لها من أموال ضخمة ورائحة مثیرة، قال شریف الختاي.

حاوَل جاهداً عد مبلغ من خزانته، لكنه لم یتمكن. لم یعرف السبب في أول الأمر، لكنه استدرك لاحقاً قیمة الخطأ الذي یؤمن به.. ابتسم صادقاً مع نفسه حتى ظهرت نواجذه.. لأنه لاحظ بالصدفة – في وظیفته- خطأً جدیداً، فقد تهیأ له أن الرائحة التي تفوح من النقود الورقیة هي رائحة ثیاب الموتى لحظة الموت.!. كان شیئاً غریباً بدأ یحدثه من أعماقه عندما استل فئة نقدیة برفق وبدأ یستنشقها. ترك صفاً طویلاً من الموظفین الذین كانوا ینتظرون صرف مستحقاتهم أمام نافذته، وألقى بنفسه في شارع السباكة حیث المطعم.

لم یكن بوسع مدیر المنظمة إلا الاستعانة بموظف آخر لصرف رواتب العاملین في حینها.  وهناك في مطعم شارع السباكة التف – لأول مرة – مئات من سكان المدینة – نساء ورجالا حول شریف الختاي یستمعون إلیه.

قال لهم إنه التقى بآلاف من الموتى والقتلى الیوم في مكان عمله. وإن المبالغ المالیة التي یصرفها أبناؤكم العاملین في المنظمة؛ ماهي إلا مواطنون اعتصرهم الألم فأضحوا بائسین على صور نقود ورقیة بفعل فاعل. لاحظ شریف الختاي أن الحضور لم یتبینوا جیداً ما قاله   لهم للتو.. فأضاف بصیغة أخرى:

هل تذكرون رائحة موتاكم لحظة الحریق العظیم؟

قالوا له نعم، نذكرها.

هل تذكرون رائحة النقود الورقیة التي بین أیدیكم؟

 قالوا نعم، نعم..

 إذاً هي أرواح موتاكم موتاكم ُ ردت إلیكم.. أخرج فئة ورقیة من جیبه وأشار بها إلى الحضور وقال:

– لكن لا أوصیكم أن ترفضوا مستحقاتكم المالیة رغم أنها العائد المباشر لموتاكم.. إنها الخطیئة المقدسة بعینها.. لا ترفضوا قبول ثمن موتاكم، اعملوا، إن الحق یوُلد من قبول الألم. كان مدیر المنظمة واقفاً بین الحضور یستمع عندما ختم شریف الختاي حدیثه بأن الخطأ هو أصل الأشیاء، وان محاولة الناس لتذنیب الخطأ هو الخطأ عینه.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.