كاظم النصار- العراق- سماورد
منذ التغيير وسنواته لم تجرَ مناقشة جادة لثقافة العرض المسرحي العراقي. لقد شغلتنا أزمة المسرح وواقعه ومشكلاته وانعكاس التحولات السياسية والمجتمعية على مجمل الاوضاع، وندوة أو بحث تخصصي عن التجريب وأزمانه في العراق ظلت محصورة في داخل أسوار الدرس الاكاديمي.
والتجريب هو ثقافة وفهم مبتكر لآليات العرض المسرحي وطرائقه وأساليبه وهو ايضا كل جديد على مستوى الشكل والمضمون كما يقول الشاعر والمخرج نجيب سرور. والتجريب هو بحث في المجهول وخروج عن المألوف السائد وقد ورثناه من تاريخ المسرح، حيث يعتني ستانسلافسكي بأهمية الممثل واعتنى كوردن كريج بأهمية أن الاستغناء عن الممثل ممكن، واعتنى ابيا بالضوء كما اعتنى بسكاتور وبريشت بالمسرح التعليمي.
أحاول هنا ان انقب عن تجربتنا ما بعد منتصف الثمانينيات من زوايا مختلفة واطرح أسئلة، لأن التجريب هو سؤال دائم من خلال معيار ذوقي جمالي وليس معيارا اكاديميا علميا …واذن ما هو معيار الجديد ؟
ومن هو الذي يقرر الجديد ؟
وهل حراكنا النقدي استطاع ان يحدد الثابت من المتحول ؟
ما دور النقد والصحافة في تاشير غير منحاز ولا يساهم في خلط أوراق التجريب وسماته وملامحه، وهل يمكن للفنان أن يكون شاهد زور ويلعب دور المروج والخالط للأوراق لاعتبارات اجتماعية وذوقية وايديولوجية تضيع الروح الموضوعية والمعاينة الحقة حد الاختلاف.
ومن هنا وبالفهم العام للتجريب ليس هناك فصل حاد بيننا نحن الاجيال المتأخرة وبين روادنا واجيالهم لانهم هم من درسونا المناهج والاساليب وهم من اشاعوا عبر عروضهم ودرسهم الاكاديمي اسرار وخفايا التجريب وكيمياءه …لكن الاختلاف يكمن في المزاج والعوامل الضاغطة الزمنية التي حكمت عقدين واكثر من الزمن الذي انتجنا فيه عروضنا، واعتقد كمراقب اننا كلنا وكل المسرح العراقي المعاصر هو نتاج ستة مدارس مسرحية عالمية وهي :
اولا :مرحلة التاسيس، مدرسة فرنسا ومن روادها حقي الشبلي .
ثانيا :مدرسة امريكا، ومن روادها ابراهيم جلال وبدري حسون فريد وجعفر السعدي.
ثالثا :مدرسة لندن، ومن روادها سامي عبد الحميد
رابعا :مدرسة روسيا، ومن روادها قاسم محمد
خامسا :مدرسة المانيا، ومن روادها عوني كرومي
سادسا :مدرسة اوربا الشرقية، ومن روادها فاضل خليل وصلاح القصب وعقيل مهدي.
وهذه المدارس أضحت مادة للدرس الاكاديمي وتنوعه واختلافه، كما انتجت عروضا مختلفة. وأقول ست مدارس لأن بلاد المغرب العربي مثل تونس والمغرب تطغي على عروضهم المدرسة الفرنسية لوحدها ربما . وكمعيار جمالي اعتقد ان هذه المدارس اختزلت لاحقا بمنهجين وملمحين هما:
اولا :مدرسة الممثل: قاسم محمد وفاضل خليل وعوني كرومي وعزيز خيون
وثانيا :مدرسة العرض والمعمار البصري في عروض ابراهيم جلال وسامي عبد الحميد وصلاح القصب وجواد الاسدي.
وأما النقد والبحث فقد افرز طرق تفكير وآليات اشتغال وتوصيفات للمخرجين، فسامي عبد الحميد يمثل انتقائية اسلوبية، وفي عروضه (عطيل في المطبخ) مثلا كانت قد مثلت انتقالة تجريبية للاشتغال على النص الشكسبيري وتطويعه ومقاربته مع الواقع العراقي أيام الحصار والجوع، وانتقالة اخرى الى اشعار آخر، ونصوص عبد الكريم السوداني (ساعي البري)د وغيرها وهي تمثل قراءة مبتكرة للواقع العراقي عبر النص المحلي المكتوب باللهجة المحكية والقريب من نكبات الشارع ، وقاسم محمد وانفتاحه على التراث العربي والاسلامي من خلال الحكواتي وخيال الظل والصوفيات، وصلاح القصب في ازاحته للأشكال الواقعية ، ومحسن العزاوي وفاضل خليل في الشعرية والاسطورة، وعزيز خيون عبر التجريب في النص المحلي ونسق الاداء.
وهنا اعود الى الضاغط الرؤيوي والذي عمل تحولا في رؤية المخرجين وبالتالي تحول في الاساليب، واعتقد ان مفتاح التحول لديهم ليس كما يشاع لأن جودة الانتاج ممكن أن تحسن من الشكل لكنها لا تحسن من الرؤيا، وحتى التجربة العالمية فالبلدان التي حدثت فيها هزات مثل فرنسا وروسيا وايرلندا صار فيها تحول في الرؤية، تحول مثل الحرب العالمية الثانية ….بمعنى أن مفتاح التحول هو تحول اجتماعي وسياسي، والذي انتج اشكالا جديدة مثل المسرح السياسي ومسرح الغضب والمسرح التسجيلي ..وفي المانيا صار هناك تحول على يد بيسكاتور وبعده بريخت ثم بيتر فايس فانتج بسكاتور التاريخ والوثيقة، وبريخت الحالة العقلية ، وبيتر فايس منطق البناء السينمائي.
واذا سحبنا فرضية أن التحول السياسي يخلق تحولا في الرؤية والمزاج وفي التفكير وفحصنا المناخ المحيط الذي شكل تجربة اجيال الثمانينيات والتسعينات وما تلاها، فإننا نجد :
أولاً: 8 سنوات حرب انتجت مسرح الحرب ومسرح ما بعد الحرب .
ثانيا: حصار13عاما.
ثالثا: هيمنة المسرح التجاري وانحسار العروض الجادة.
رابعا: تراجع قيمي وانحسار للتقاليد المسرحية وانشغال بالدراما التلفزيونية وخاصة البدوية الاستهلاكية منها في التسعينات والدراما في سوريا بعد 2006.
خامسا: شح الممثلات وتراجع دورهن وخاصة بعد 2003.
وهنا أريد أن أقول أن المسرح العراقي المعاصر ومنذ سبعين عاما لم يقدم وفرة من الممثلات وخاصة ان المرأة هي شريك اساسي في التجريب ولان الجسد المحنط لا يمكن ان يذهب باتجاه المجعول وكسر التابو والمألوف، ومن زاوية ثانية فان الضاغط الرقابي للنص اوجد رد فعل قوي بالتوغل في المعالجة البصرية والغرائبية وكانه رد على سلب حرية المضمون …وحتى المضمون كان يعالج عبر الترميز والتشفير والدلالة عن نتائج الحرب وعن الاستبداد والتسلط والديكتاتورية، والمفارقة هنا وبعد 2003 عندما انفلت زمام الرقابة وغابت، هرول بعضنا الى المباشرة وتسمية الاشياء بمسمياتها ولم تعد هناك تشفيرات او ترميزات ولم نعد نرى مقاربة لنصوص اجنبية الا نادرا فالملفات جميعها على الطاولة.
لم يكن هناك فضائيات ولا تواصل اجتماعي ولا تقنيات حديثة ولا يوتيوب، والمخرج يعتمد على ما يشاهده من عروض حيثما توفرت ومصادر، وظللنا نتحدث طويلا عن عروض زارتنا في بغداد عروض مختلفة وتجريبية مثل العوادة للجعايبي والخنفساء لفرقة فرنسية وعروض فرقة الرور الألمانية.
ابرز ملامح مسرح التسعينيات :
أولأ: عناية بالسينوغرافيا وتطور مفهومها وتنافسه وصار يدخل في لون الازياء والماكياج لإحداث هارموني في الشكل.
ثانيا: الفنون الرديفة صارت تدخل في بنية العرض التسعيني مثل البانتومايم والكيروغراف كما في عرض (عرس الدم) لكاظم النصار وعروض اخرى.
ثالثا: هناك عروض صارت تهمل النص الدرامي التقليدي وتذهب الى الشعر مثل عرض (الذي ظل في هذيانه يقظا) لغانم حميد.
رابعا: صرنا نتعامل مع مسرحيات قصيرة جدا كما عند خزعل الماجدي وجبار المشهداني.
خامسا: الاستفادة من اعداد الروايات الحديثة كما عند كاظم النصار في رواية (ولم يقل كلمة) لهاينرش بل اعداد عبد الخالق كيطان. وبعض عروض قاسم زيدان مع قاسم محمد عباس.
سادسا: البحث عن فضاءات خارج العلبة مثل ضفاف نهر دجلة او بلاتوه السينما والمسرح او شارع المتنبي والقشلة لاحقا.
’’هناك فرق بين السياسة اليومية المتحركة والمتحولة وبين الظاهرة السياسية التي تكرست مثل العنف والارهاب والاقصاء السياسي والهجرة والديكتاتورية’’
وهناك اسماء بدأت منذ نهاية الثمانينيات واستمرت في عقد التسعينيات مثل ناجي عبد الامير وتجربته في التعبيرية المحلية وفي نصوص شكسبير والخادمات والحريم، وباسم قهار في تجربته (في انتظار غودو) ومعالجته المبتكرة لهذا النص وهو يكشف عن وعي تجريبي مبكر وكذلك كريم رشيد وتجربته المميزة في (الحر الرياحي)، وحيدر منعثر في استمرار تجاربه من الثمانينيات في (ليلة موت شاعر) و(الليلة نلعب) الى (حرية المدينة) و(الصابرون في تحولات التسعينات) وهو الاقرب للمسرح السياسي الرمزي، ثم احمد حسن موسى في تجاربه (ضحايا الواجب) و(سمفونية الانتظار) و(نزهة في جماليات الاداء والشكل)، وقاسم زيدان في (الطيور ايضا) في البحث عن المكان وفيه.
ثم جيل جديد واشتغالات تنبثق من محنة الارهاب والعنف والتحول السياسي بعد 2003 مثل جبار جودي في تجاربه (سجادة حمراء) و(خيانة) و(حصان الدم)، ومناضل داود في (روميو وجوليت) في التصارع السياسي والعنفي العراقي ثم تجارب ابراهيم حنون في (الموت والعذراء) وغيرها ثم حاتم عودة في (اسود وابيض وفلانة)، وعماد محمد في (رائحة حرب) و(عربانة) وقاسم السومري وعلاء قحطان وتحرير الاسدي.
وأفرزت مرحلة ما بعد 2003 ملامح اخرى مثل :
اولا: انزياح الخطاب الرمزي والشعري .
ثانيا: بروز الشخصية الهامشية.
ثالثا: بروز عروض الكوميديا السوداء.
رابعا: بحث خارج العلبة من جديد.
ومن زاوية اخرى هناك فرق بين السياسة اليومية المتحركة والمتحولة وبين الظاهرة السياسية التي تكرست مثل العنف والارهاب والاقصاء السياسي والهجرة والديكتاتورية، وطبعا المخرج هنا يقدم رؤية لتلك الظواهر ولا يقدم بلاغا صحفيا كما في بعض العروض لأن المشاهد يريد ان يعرف كيف تنظر انت الى تلكم الظواهر وكيف تعالجها رؤيويا.
هذه بعض الملامح لمسرح ما بعد الحرب وما تلاها من مسرح ما بعد التغيير، آمل أن أفحص وأنقب عن التجربة في مناسبات قادمة .