الدكتور عبيد لبروزيين – المغرب
خريف، مسرحية في قالب درامي مثير، سيدة في عقدها الثالث أو الربع تكتشف إصابتها بمرض السرطان، تجد صعوبة بالغة في تقبل الأمر في بادئ الأمر، وتستسلم للوضع يائسة. وفي قالب درامي سريالي، يشكل الرقص والاستعراض أهم أداة للتعبير عن حجم الألم الذي لا يطاق جراء هذا المرض الخبيث الذي فقد فيه جسد المرأة كل ملامح الأنوثة، حاجباها وشعر رأسها، وثدياها، لتجد المحيط قد تغير أيضا، لاسيما زوجها الذي تنكر للحب الذي جمعهما، فاستكبر إسماعها حتى كلمة أحبك.
يستمر الجسد في البوح، فهو أحق بالكلام، لأنه من يتحمل آلام العمليات الجراحية، آلام يؤديها بتعبير جسدي مبدع، إنها لغة جديدة للتعبير في المسرح العربي المعاصر. التفكير في الرحيل والانتحار بعد انتكاساتها من كل العلاقات الاجتماعية، لاسيما الحب (الحب تقاس بالسرطان)، لكن إلى جانب الموت هنالك حياة، الأمل الذي جعل المريضة/الشخصية تقاوم على جبهات عدة، مقاومة المرض والتمثلات السلبية لمحيطها عن المرض، وهكذا يتحول خطابها إلى صرخة في وجه الجهل، انتقاد حاد للتعامل السلبي مع مرضى السرطان، سواء تعلق الأمر بالذين يرفضون السلام والاقتراب خوفا من العدوى أو الذين يرمون المريض بنظرات التعاطف والشفقة.
وفي غمرة عواطف متناقضة، وثنائيات ضدية تؤثث معالم العرض المسرحي، لاسيما بين الموت والحياة، والتفاؤل واليأس، استطاعت المخرجة أسماء هوري أن تبدع في تقنيات التعبير الجسدي لمسرحة تقلبات حياة مريضة بالسرطان، تتطور الأحداث في قالب دراماتيكي لتستطيع الشخصية الانتصار على المرض الخبيث، لتقرر الرحيل والبدء من جديد، بعد أن خذلها الجميع عندما كانت تكافح من أجل البقاء على قيد الحياة.
لقد سلطت أسماء هوري، من خلال مسرحيتها خريف، الضوء على فئة اجتماعية تعاني في صمت، إنها تسائل بعملها هذا، المجتمع الذي يزيد جراحات مرضى السرطان، دون اكتراث لمعاناتهم، غير أن المخرجة اختارت التعبير الجسدي، وهو ما برعت في تصميم تشكيلاته بأسلوب فني لتناول مثل هذه القضايا الشائكة.
شعرية التعبير الجسدي
لقد استطاعت أسماء هوري أن تنقل معاناة مرضى السرطان من خلال لغة الجسد والرقص التعبيري، الجسد بمعناه الفلسفي والإنساني، فتبدو جراحاته من خلال الرقص التعبيري الجنائزي الذي يناسب هول صدمة تقبل مرض عضال كمرض السرطان، وما يخلفه هذا الخبر على المريض جراء جهل المحيط بطبيعة المرض وأسبابه، الأمر الذي يفاقم الألم والانتكاسة.
كل هذا أدى بالمخرجة إلى اعتماد شخصية رئيسية تسرد حكايتها، وجسد يشخص حجم العذابات والالام، بواسطة رقصات تعبيرية ولوحات كوريغرافية غير معهودة في المسرح العربي والمغربي، وها هو الجسد يصرخ من خلال رقصات ترسم ملامح عذاباته، بلغة الجسد استطاعت المخرجة والممثلتين نقل الفرجة في قالب درامي جمالي يمتح من اللغة البصرية أكثر من الملفوظات على خشبة المسرح، فقد الجسد لأنوثته، الإصرار على مجابهة الموت، كلها حكايات جسد أنهكه المرض، الأمر الذي يتجلى في الصورة التالية:
إنها صورة أبلغ من الكلمات، توغل المرض في الجسم يفقد الجسد نهداه، فيفقد بالتالي أنوثته وطراوته، ليستوطنه العذاب اللانهائي، إنها العلامات الإشارية التي تخلق المعنى، لتكتب ملامح عرض مسرحي لغته التعبير الجسدي، والرقص. لقد أصبحت اللغة المنطوقة لغة ثانوية في العرض المسرحي، ليكون الجسد، حاملا لعلامات مكثفة تعبر عن فئة اجتماعية تعاني في صمت، إن طرح المخرجة بهذا المعنى يندرج ضمن جماليات الألم أو المعاناة ما يقابه جماليات القبح في الفنون التشكيلية.
لقد استطاعت المخرجة أسماء هوري الانتقال من اللغة الملفوظة إلى توظيف لغة الجسد والرقص التعبيري، لتخلق عوالم جمالية جديدة، جمالية تتأسس على المعاين والمشاهد، لا سيما جسد الممثل الذي أصبح أداة للتعبير وخلق المعنى المراد في مراعاة لتطور البناء الدرامي للمسرحية.
شعرية السينوغرافيا
لقد أصبحت السينوغرافيا تقوم بأدوار كبيرة في عروض المسرح الحديث والمعاصر، وكان سبب هذه المكانة طروحات كثير من المنظرين للفعل المسرحي أمثال مايرخولد وأبيا وغريغ وغيرهم، لقد تم التخلص من السينوغرافيا الكلاسيكية التي يكون دورها عادة تزييني، أو إحالة إلى مكان وقوع الأحداث المسرحية، إلى سينوغرافيا جديدة تهتم بخلق المعنى والإسهام في البناء الدرامي، والتأثير الجمالي في المتلقي.
ولعل هذا ما انتبه إليه فريق مسرحية خريف، لاسيما السينوغراف الذي حاول خلق معالم خطاب بصري يقوم على العلامات البصرية من ديكور وإضاءة وإكسسوارات وأزياء، وهي العناصر التي خلقت جمالية هذا العرض المسرحي، وجعلت المتلقي يصاب بالدهشة والانبهار من تفاعل العلامات السينوغرافية.
كل هذا يجعل نص العرض يمتاز بسماكة دلالية أو كثافة أجناسه وانقطاع مستوياته الفضائية الزمانية، وهو في الوقت نفسه شديد الالتباس، ذلك أنه يسمو على التحديد دلاليا في أية لحظة منه ويستحيل كذلك تكراره[1].
شعرية الديكور
يؤثث ديكور بسيط عوالم الركح في مسرحية خريف، خشبة شبه فارغة إلا من خزانة الملابس، والتي توظفها الشخصية وجسدها لجمع أغراضها حين كانت تبدي رغبتها في الرحيل، بما يحمله الرحيل من معاني ودلالات عميقة الموت/الحياة/الرحيل، فكانت هذه الخزانة التي تؤثث عوالم الركح علامة مكثفة.
خزانة لها باب مغلق دائما، والذي يحيل إلى الأمل المفقود في ساعات اشتداد الألم، باب يخفي خلفه قطع ملابس ممزقة، في إشارة إلى ذات الشخصية المريضة المنشطرة والمتشظية، وتعبيرا عن حجم المعاناة، وهكذا جاء الديكور بسيطا حتى يمنح حيزا كافيا للرقصات التعبيرية، وإيقاعات الجسد الراقص على جراحاته.
والصورة التالية توضح ذلك:
إنه ديكور بسيط في خشبة تكاد تكون فارغة، لكنه معبر وموح أيضا، الفراغ والعزلة والصمت والوحدة الموغلة في المكان، فها هو الجسد الأنثوي يتلون في عذابات لا حد لها، الجسد الذي ليس له إلا خزانة الملابس يلجأ إليها بين الفينة والأخرى، ليتذكر ماضيه وتاريخه، الخزانة بهذا المعنى هي تلك الشرفة التي يطل من خلالها الجسد على نفسه، أصبح كل هذا لا معنى له، لا معنى للماضي أو الحاضر أو المستقبل، فلا يوجد في الدولاب غير ملابس ممزقة، لعلها الذات المتشظية نفسها، أو ربما ذكريات الماضي الجميلة التي اختفت فجأة لتتحول إلى قطع من فساتين ممزقة.
الديكور باعتباره علامة مسرحية، منفتح على قراءات عدة، لأنه علامة أيقونية تتجاوز الدلالة المباشرة، غير أنه جزء من العمل المسرحي ككل، ولا تتشكل ملامحه إلا بتفاعله مع باقي العلامات الأخرى فوق الركح، العلامات التي أثثت بها أسماء هوري خشبة المسرح لسرد قصة مريضة بالسرطان.
جماليات الإضاءة
قامت الإضاءة المسرحية بدور هام في بناء الحدث الدرامي، وذلك من خلال التبئير على الشخصيات، فضلا عن الاعتماد على الإظلام المحيط بالخشبة، والإضاءة البيضاء، وهو ما يكشف عن تناقضات موغلة في التضاد، الموت والحياة، علاوة على الإضاءة الزرقاء، لون المحيط الذي لا يبدو منه قرار، السفر عبر المجهول، تتواسج هذه الإضاءة مع حركة الممثلتين المضطربتين وتحركهما يمينا ويسارا في تعبيرات خلقت الإضاءة أبعادها الجمالية والفنية.
إن اعتماد الإضاءة الأفقية الجانبية والعمودية نحتت أجساد الممثلين، وهو ما يذكرنا بإسهامات أبيا وغوردن غريغ، إضاءة تكشف عذابات الجسد وجراحاته، وظلال تخفي هزائمه وانكساراته، كما أنها إضاءة خافتة عمقت الإحساس بالحسرة والحزن لدى المتلقي، لتكون بذلك جزءا رئيسيا في خلق المعنى العام للمسرحية.
والصورة التالية توضح ذلك:
صورة من مسرحية خريف
لقد استطاعت الإضاءة في مسرحية خريف تعميق إحساس الألم والوجع، لأنها مثل الموسيقى، تخاطب مشاعر ثاوية في النفس، وهذا لربما سبب اعتماد الألوان الباردة في الإضاءة، ألوان تتناسب والتعبير الجسدي، ظلام وظلال وإضاءة بيضاء خافتة، لغة بصرية تخلق عوالم مسرحية تؤسس لحساسية جمالية جديدة، يمكن أن نطلق عليها شعرية الجيل الجديد، وهكذا كانت الإضاءة جزءا من رسم معالم تجربة جديدة في العرض المسرحي المغربي.
الأزياء
فستان أحمر داكن، كان هذا لباس الشخصية الرئيسية وشخصية الجسد وباقي الشخصيات المنبثقة عن الشخصية الرئيسية، إن المسرحية تدور حول شخصية واحدة تنشطر إلى شخصيات فيما يشبه انفصاما في الشخصية، وهذا هو سبب هذا اللباس الموحد، لباس يدل دلالة واضحة على الوضع المتأزم، لا سيما أنه يظهر ملامح الجسد الأنثوي موضوع العرض المسرحي، بلون أحمر يدل على الصراع والمواجهة.
كما يكشف الزي المسرحي عن المكانة الاجتماعية للشخصية وانتماءاتها الإيديولوجية، فهي امرأة متحررة من براثن العادات والتقاليد، فستان ذو مرجعية واقعية، غير أن اختياره في علاقته بجسد الممثلات، جاء ليكشف عن بعض تضاريسه، التي ستعاني بدورها من مرض السرطان.
خلاصة تركيبية
لقد اختارت أسماء هوري التعبير عن موضوع تراجيدي بحساسية جمالية جديدة، شعرية تمتح من الجماليات البصرية التي تعد أهم عناصر الخطاب المسرحي فوق خشبة المسرح، فامتزج الرقص التعبيري بالإضاءة والديكور والأزياء لإبداع لغة مسرحية جديدة تعبر عن ماسي مرضى السرطان.
مرضى السرطان الذين يعانون في صمت، في العالم الثالث، الاما مضاعفة نتيجة ما يلاقونه في محيطهم من معاملات تكرس المرض والحزن، وتجعل جراحات الجسد تنزف باستمرار، لا سيما عندما يكون هذا المحيط زوجا أو أحد الأقارب المقربين…
وهكذا استطاعت المخرجة أن تنتقل من التركيز على اللغة الملفوظة وما يرافقها من البكاء والنحيب عندما يرتبط الحدث المسرحي بمثل هذه المواضيع إلى إيقاعات جديدة في خلق الفرجة المسرحية، هذه اللوحات التعبيرية المعبرة عن لحظات مؤلمة ما كانت اللغة الملفوظة لتبلغ جمالها، أو لتمتلك القدرة على بلورة هذا الصراع بين الشخصية وجسدها.
إن الحساسية الجمالية الجديدة هي شكل من أشكال الشعرية المغربية التي بدأ الجيل الجديد يرسي أسسها من خلال عروض تجريبية تعتمد على اللغة البصرية، ثائرة على قواعد المسرح الأرسطي، وهو ما يمنحه إمكانات هائلة في التعبير بأسلوب جمالي يتناسب مع مكونات الخطاب المسرحي الحديث.
[1] كير إيلام، سيمياء المسرح والدراما، م س، ص: 72