حبر الأسرار

ورشة فن - تشكيل

0 340

يثرب الصدير – السعودية

-هل بدأت بلون معين في لوحة ثم اختفى هذا اللون حين انتهت؟

كان هذا السؤال (28) ضمن (70) سؤلا وجهها الكاتب (عبد الرحمن منيف) لصديقه التشكيلي (مروان قصاب باشي) ورغم أن منيف لم يكن رساما عدا عن محاولات بسيطة وصفها بالحماقة حاول بها أن يتجاوز معضلته السردية المؤقتة، إلا أن إدراكه للحالة الإبداعية التي بمقتضاها لا يسير المبدع على خط مستقيم منحته تلك الرؤية التساؤلية المبدعة التي تواصلت من خلالها أسئلته التي وجهها لمروان فنفض بها الغبار عن ذاكرته و نتج عنها لاحقا مخطوطته (رحلة الحياة والفن) والتي لاحق فيها ابداعات مروان منذ نشأته.

كل هذا الحديث وهذا التساؤل تحديدا يعيدنا للجدل الكبير بين الابداع والابتكار في وضع تجاربنا الشخصية تحت مجهر الأفكار التي دارت حولها حياتنا السابقة واتصالها بعالمنا الحالي. ولأن الفنون ليست اكتشافات أو اختراعات، بل هي شيء من هذا وذاك، خيال مبهم يسبح بين كل التيارات ويجعلك مأخوذا ومنبهرا في عوالم بلا أسقف ولا سطوح. تتطلع دوما للمزيد في سبيل وضع رؤيتك ولن أقول (الشخصية) حيث أن هذا المفهوم بات وهميا منذ أن وضع أول أنسان بصمته الأولى على هذا الكوكب ثم تكونت بعده الثقافات وانقسمت وباتت تتجدد بكل الطرق والأشكال وأضحى الخيال هو إحدى محركات العلم الذي تتولد منه الأفكار والتساؤلات.

ولأن الحديث عن الفن في شتى مجالاته بات فعلا ثقافيا وفنيا ينظر له على أنه من صميم المسيرة التطويرية لما حدث ويحدث، كانت الحوارات دائما هي المفتاح الذي يفتح لنا الباب على مصراعيه لنبحث عن الأسئلة ونتناقش في أجوبتها المتعددة وبالتالي محرضا ومحركا للعملية الإبداعية التي تعاني في أوقات كثيرة من المخاض.

من رسائل مروان قصاب باشي
من رسائل مروان قصاب باشي

– سطوة الذاكرة السمعية

كنت قد حضرت قبل فترة عدة دورات متخصصة في هذا المجال تحدثنا فيها مع المدربين. بالإضافة للحوارات التي تطايرت في الهواء بيننا نحن المتدربين عن ما يمكننا قوله عن عمل فني، أو كيف نستطيع القبض على فكرة من الماضي أو الحاضر نصف بها ذواتنا أو نعبر من خلالها عن أعمالنا. تناقلنا الكرة بيننا وامتدت الأفكار وانسابت وهي التي كانت عصية على التدوين كذاكرة مادية، وهذا كان أكثر ما أثار المتدربين عن الأجوبة الهاربة والتي استطعنا القبض عليها أثناء تمرير كرة الحديث بيننا.

-الزمن ثقب أسود يبتلع ذاكرة الكلمة

يشكل الصمت جزءا واسعا من حياة الفنان، فهو أحد مكونات العزلة التي يقتضي العرف الفني السائد بموجبها شيئا من الإبداع، ويشكل الحديث مجهودا عقليا يزيح معه وهميا عبء العمل، فيذهب أدراج الرياح كردة فعل مساوية له في المقدار ومعاكسة بالاتجاه. مع إضافة أن مغامرة الفن تبدو دوما غير متوقعة، فتحيل كل الكلمات إلى صوت قديم صالح للتأريخ فقط، بدون أفكار ثابته يستطيع بها أن يصنع مسارا محددا يتجه نحوه. فتشعر كأنك تدور في فلك (سيزيف) الذي يحمل صخرته للأعلى وما أن يصل للقمة حتى تنفلت منه صخرته للأسفل فيعود ليحملها من جديد للأعلى في دائرة لا نهائية للأفكار الكثيرة التي تدور حولها الحياة. وهي صورة عبثية للحركة تدعو للتوقف عن محاولة فرض النظام دائما والبحث عن الإجابات لأسئلة لا إجابات لها كما يراها الفيلسوف (ألبير كامو)، وهذا الاعتقاد هو ما يجعل كفة الصمت دوما راجحة فنيا وإبداعيا.

-اللامكان ورقة بيضاء وقماشة فارغة

“إننا لا نعرف مقدما الأسئلة الصائبة التي ينبغي طرحها ولا نستطيع أن نعرف غالبا قبل أن نقترب من الإجابة” هذا النص للعالم الفيزيائي ستيفن وينبرج يأخذنا للحفر عميقا حول النظرة الإبداعية التي تحيلنا دائما للنظر لزوايا لم تكن موجودة، ليس ذلك من أجل النظر بطريقة مختلفة، ولكن من أجل اكتشاف طرق جديدة نستطيع بها خلق مساحات واسعة.  كان تنفيس (منيف) و(مروان) في رسائلهما قد منحهما هذه المساحة الأوسع وهو مشابه أيضا لما فعله (فان غوخ) في رسائله (لأخيه ثيو)، لا تحمل المعادلات الفنية حلولا حقيقية، بل هي في وضع التساؤل دائما دون وضع إجابة لذلك كان لا بد أن تحصل تلك الحوارات التي تدفعنا للإقتراب ليس من الأجابة ولكن لطرح تساؤلات جديدة تجعلنا أقرب. حتى لا نبدو كأننا مازلنا متوقفين عند حدود معينة تعطل حركتنا.

-التأرجح بين الأشياء من نقطة ثابته

كتب (فكتور هوجو) كثيرا، ولكنه التجأ للفرشاة والألوان لتصوير أحلامه، وكان رساما غزير الإنتاج لأكثر من 4000 رسما نفذها على الورق بالحبر وألوان الماء، ورسم مروان بوفرة، ولكنه كتب أيضا حين وجد بعض الحلول تنساب مع الكلمات التي مكنته من اقتحام ذاكرته، ورسم منيف حين عجزت الكلمات أن تبدو له واضحة وقال “لو لم أكتب لرسمت. أعرف أني لست موهوبا في هذا المجال، لكن الغليان الذي يملؤني، والذي يفيض باستمرار لا يمكن أن تستوعبه الكلمة”، تبدو فكرة الأرجوحة الإبداعية منطقة آمنة نلجأ لها حين نعجز عن التواصل مع ما أحببناه لأننا نتقنه، حتى نعيد تواصلنا مع أنفسنا في محاولة للعودة له من جديد بروح أفضل وأكثر نضجا. وعلى الرغم أن الجزء المتأرجح يبدو منطقة غير ثابتة إلا أنها تنطلق من نقطة ثبات واحدة في محاولة للتنقل والعودة من جديد باتساع أكبر وتسارع أفضل. الإتقان ليس ضروري أثناء هذه التجربة، ولكننا سنتعلم معه كيفية التأرجح باتساق. ونتقن شجاعة الخروج من مناطقنا الآمنة، ثم التقاط ما نراه مناسبا للاستخدام والتطويع أثناء عودتنا لمناطقنا المحببة.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.