أكتب الحياة كما أراها

جدل - ورشة القصّة القصيرة بصلالة

9 2٬966

مفيدة جاء بالله – تونس

كنت، ولا زلت أؤمن أن العلاقة بين القراءة والكتابة جدلية؛ فبداية تكون القراءة نوافذ للروح يطل منها القارئ على عوالم أخرى، ويبدأ بتحسس مسالك ودروب كانت بالنسبة له غير مطروقة، حتى إذا ما تمكن الشخص من القراءة وتراكم داخله وعي عميق بأهمية الكلمة؛ صارت الكتابة أمرًا لا مفر منه. هكذا، كانت بدايتي مع الكتابة. لم يتوفر لي من الترفيه إلا نافذة واحدة هي القراءة التي أودت بي حتمًا إلى الكتابة. كنت أكتب نصوصًا قصيرة، ومذكرات يومية. كنت لفرط تعلقي بما أقرأ، كلما قرأت كتابًا، تلبست بلغته وأسلوبه، حتى أدركت بوعي فطري سحر الكلمة وسطوتها وسلطتها، ومن هنا بدأت أكتب.

كانت قصتي الأولى قصيرة جدًا، ونشرت في مجلة المعهد الثانوي رفقة قصيدة نثرية. أذكر أنها نالت إعجاب أساتذتي والمشرفين على المجلة. أما البداية الفعلية، والتي تضمنت تكوينًا واطلاعًا على أساسيات كتابة القصة القصيرة، وكتابة تحت التجريب والنقد، فكانت بمديرية التراث بصلالة بسلطنة عمان، ضمن ورشة كتابة القصة القصيرة تحت إشراف الأستاذ والروائي التونسي نصر سامي. كانت قصتي الأولى ضمن الورشة أقرب إلى الخاطرة بلغة شعرية؛ والسبب وراء انزلاق قلمي إلى الخاطرة والشعر هو ممارستي وقراءتي سنوات طوال لهذين الجنسين من الأدب، وأخذ مني الانسلاخ من هذين الجنسين في الكتابة وقتًا ليس بالهين.

في حقيقة الأمر، لا يصير الإنسان كاتبًا، وإنما أعتقد أنه يولد كاتبًا باستعداد فطري للكتابة وظروفه المحيطة به واستعداده، إضافة إلى تشكل وعيه وعمقه يجعلانه كاتبًا. أما إذا كان أمرًا يستحق العناء، فالواضح أن الكتابة هي حدث جلل يمارسه الإنسان، فيجعل منه شخصًا عابرًا للمكان والزمان. الكاتب يصنع وعي أجيال لاحقة؛ فكيف لا يستحق العناء وهو آخر أداة صمود في وجه الزمن وفي وجه الآخر عمومًا. والقصة القصيرة بالنسبة لي هي أن تمتلك القدرة على قول ما يسكت عنه الكثير بالقليل جدًا من الكلمات والشخصيات والأحداث. هو أن تقول – بطريقة ما – ما لا تقوله الرواية ولا القصيدة، ولا أي جنس أدبي آخر.

كتابة القصة هي أيضًا حياة قائمة بذاتها تتحول وتتغذى من تحولات الحياة الفعلية؛ فعند مقارنة ما طرأ على حياتنا بما طرأ على سيرورة كتابة القصة؛ سنجد أن أحداثًا من حياة البشر من حروب وصراعات، واضطهاد، وفقر وانتشار الأوبئة، ألقت بظلالها على عالم القصة القصيرة، فاتخذت مناهج تتلاءم مع الحياة؛ فما كتب مثلًا إبان الحروب الفعلية والممكنة ليس هو ما كتب خلال الحروب الجرثومية، ولعل ما كتب خلال جائحة كورونا هو أوضح دليل على ذلك.

تعرفت على ورشة كتابة القصة القصيرة عن طريق القاصة التونسية والصديقة دلندة الزغيدي. مارست معهم فعل الكتابة في البداية على سبيل الترفيه، ومزاولة الكتابة النثرية؛ إذ لم يكن ذلك في خاطري. كان كل اهتمامي كتابة قصيدة النثر، وبتتابع الحضور والاستماع للحصص؛ وقع تآلف بيني وبين أعضاء الورشة، وبيني وبين محتوى حصص الورشة، حيث كان الجميع يعمل بروح الفريق الواحد وكانت تسند لكل منا مهمة.

كتبت في البداية بعيدًا عن مقاييس الأقصوصة المتعارف عليها. كانت كتابتي في البداية أقرب إلى الخاطرة منها إلى القصة، بحكم تأثري بقراءاتي الشعرية المستمرة. بمرور الوقت، واشتغال الأديب التونسي والشاعر نصر سامي (مؤسس ومدير الورشة) على عناصر البناء القصصي من خلال حصص مدروسة سميت بـ “علبة الأدوات”؛ تبلور فهمي للبناء القصصي الكلاسيكي، فتم توجيه تركيزي كمتدربة إلى خصوصية الزمان والمكان في القصة القصيرة. بعد ذلك، تعرفنا على الحبكة، والهدوء الأول، وهدوء ما بعد العقدة والشخصيات. تعرفنا إلى أصناف الرواة داخل القصة، وخصوصية كل منها وكان يرفق كل ذلك – طبعا – بأمثلة لأبرز الكتاب العالميين من الغرب والعرب. وفي إطار هذا الزخم الجميل من المعلومات والتصحيح خلال قراءتنا لمحاولات كتاباتنا ولدت أول قصصي.

كتابي الأول هو في حقيقة الأمر بصدد الإنجاز – أو هو في المراحل الأخيرة – كان في البداية حلمًا تعرض في أوقات كثيرة للإجهاض، بسبب ظروف انشغالي بعملي كمدرّسة، وطبعًا كما سيلاحظ القراء من بعد قراءة مجموعتي القصصية أن هناك قصصًا كتبت بقلم مبتدئ، وأخرى تطورت فيها كتاباتي، لأنها كتبت بطلب ثيمة معينة وتحت شروط محددة، حسب حلقات الورشة ونسأل الله لها القبول عند القراء.

حقيقة الأمر، أن الكتابة برمتها تجعلك ساكنًا في ضمير الأبد. وبالنسبة لي، كانت الكتابة دائمًا سواء أكان ذلك شعرًا أو نثرًا هي بالضبط كأن أخرج لساني للعالم المقيت، وأستفزه بقدرتي على ممارسة حياتي برغبة دائمة؛ كأن يقدم لي العالم بعض الخيانات فأردها بثباتي على المبدأ، أو أن تتلون عوالمنا بكل هذه الفواجع اليومية المعتادة، فأرد عليه بأني قادرة على الفرح بقلب طفل. أن أكتب القصة هو بالنسبة لي أن أكتب الحياة كما أراها، وأعريها وأكشف زيغها وزيفها؛ لا أبحث عن حلول؛ أنا فقط أثير الأشياء حتى لا تصبح اعتيادية. وكما قال محمد شكري في الخبز الحافي – والتشبيه هنا مجاز لا غير- “أكلت من القمامة ونمت في الشوارع، فماذا تريدون؟ أن أكتب عن الفراشات” كل منا سيكتب من جرابه وأنا أكتب من جرابي”.

التغيير الذي يجب على الكاتب أن يحلمه هو مقاومة البشاعة البشرية. إن بشاعة البشر هي البشاعة الوحيدة المزودة بالعقل، وهي الوحيدة المزودة بالقدرات العلمية وبقدرات المكننة والصناعة؛ وبالتالي، فهي الوحيدة الخارجة عن الطبيعة بإرادة البشر والمنظر لها عبر إيديولوجيات وأجندات متكاملة. لذلك، كلما أرست قبحها في العالم وجب على الكاتب أن يرسي آلية دفاع ذاتي تدافع عن الجمال والفكر، وعن حق الحياة أن تستمر في خط سيرها الطبيعي، لا أن تنجرف نحو الظلامية والقسوة الممنهجة تجاه الحياة نفسها.

ما يشغلني هذه الأيام، هو أن أطور وأجد مسالك جديدة للكتابة عندي. كلما كتبت أكثر؛ صار لزامًا على أن أسلك دروبًا وتجارب جديدة، حتى يكتسب إنتاجي خطًا متطورًا، فليست الكتابة عملًا أوتوماتيكيًا أو فعل عادة، بقدر ما هو نظرة غير اعتيادية لظروف تبدو عادية؛ ومهمتي ككاتبة أن أعري الأحداث وأنزع عنها ثوب القبول لدى الناس واستقبالها على أنها حدث طبيعي، فتصبح بعد كتابتي حدثًا إشكاليًا قابلًا للنقاش وقابلًا للرفض، وأحيانًا يستوجب المقاومة.

واجهتني صعوبات – ولا زالت – لعل أهمها كيف أجد وقتًا للكتابة وسط هذا الكم الهائل من الأحداث والانشغالات اليومية التي تسرق مني وقتي وأحيانا عمري. أما ثاني أهم صعوبة كانت البداية، إذ لم يكن من الهين أن أنتقل من كتابة الشعر إلى كتابة القصة القصيرة؛ لابتعاد العالمين عن بعضهما البعضِ؛ فالشعر حَينِي مباغت بالسليقة، أما القصة فلها عالمها ودراستها ولغتها الخاصة، فعندما تكتب لا بد أن تضع تخطيطا للحبكة والشخصيات والزمان والمكان، كل ذلك التحول أخذ مني بعض الوقت.

فكرة الوطن بالنسبة لي ليست هي تلك الحدود التي خلفها المستعمر. الوطن أكبر من ذلك بكثير؛ هو التاريخ المشترك؛ هو الانتماء لنفس الفكرة ولنفس القضية؛ هو الانتماء لنفس اللغة ونفس الهموم؛ فعلى عكس الكتاب الفرنسيين أو الكتاب الأمريكيين الذين قد يمتلكون أوطانًا محددة جغرافيًا منفتحة على عدة ثقافات وروافد، ويمتلكون مجالات واسعة للكتابة؛ فإن العربي، على سعة “أوطانه” وتعدد قضاياه، آفاقه ممنهجة تضيق على حسب الرغبة السياسية، أو خضوعًا لا إراديًا منه لضوابط أكثرها وهمية، وتحد من آفاق كتابته، وبذلك يكون مصير أغلب الكتاب غربة واغترابًا وكلاهما قادح للكتابة.

قد يعجبك ايضا
9 تعليقات
  1. إبراهيم عباس يقول

    أحسنت أ. مفيدة، استمتعت حقا بالطرح الأدبي الفلسفي، والمتمرد أحيانا..
    كل التوفيق في مجموعتك الأولى، وقريبا نسعد بها موقعة منك إن شاء الله..

  2. نورا الرواس يقول

    كل التوفيق لك أ.مفيدة و دائما مبدعة في كل المجالات بفضل ثقافتك و إخلاصك.

  3. نورا الرواس يقول

    كل التوفيق لك أ.مفيدة و دائما” مبدعة في كل مجال تدخلي فيه لثقافتك الواسعة وإخلاصك .

  4. سيدة جاءبالله يقول

    مداخلة جد رائعة ونحن بشوق لاولى اصداراتك دمتي متألقة حبيبتي

  5. مفييده يقول

    تسلمي عزيزتي

  6. مفييده يقول

    شكرا اصدقائي

  7. roka يقول

    احسنتم استاذة مفيدة
    مقالكم فعلا شيك
    الكاتب هو شخص ذات موهبه ربانيه. فانا اعتبره رسول من عند الله. فالولا الماتب ما كانت هناك قراءة.
    الكاتب ادواته نورانيات من السماء قلم اقسم الله به واحرف ايضا منزله من السماء
    هم من حدثونا عن نباء الاولين
    وهم من يسطرون لابناء المستقبل
    ان صلح اتجاه الكاتب صلح اتجاه قراءه
    دمتم موفقين

  8. الصباحيroka يقول

    احسنتم استاذة مفيدة
    مقالكم فعلا شيك
    الكاتب هو شخص ذات موهبه ربانيه. فانا اعتبره رسول من عند الله. فالولا الكاتب ما كانت هناك قراءة.
    الكاتب ادواته نورانيات من السماء قلم اقسم الله به واحرف ايضا منزله من السماء
    هم من حدثونا عن نباء الاولين
    وهم من يسطرون لابناء المستقبل
    ان صلح اتجاه الكاتب صلح اتجاه قراءه
    دمتم موفقين

  9. ام عمر يقول

    احسنتي استاذة مفيدة بارك الله فيكي ونفع بكي الاسلام والمسلمين

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.