إبراهيم عبّاس – مصر
بدأت رحلة الكتابة في العِقد الثاني من عمري. بدأت بكتابة المقال، ثم الكتابة الخبرية الصحفية، ثم الخاطرة. وفي الربع الأول من 2020م، بدأت خوض رحلة القصة مع فريق ورشة القصة القصيرة التابع لوزارة التراث والثقافة العمانية. في الحقيقة، بدأت قصتي الأولى بعد معاناة طويلة متفرقة في محاولة فهم ومعرفة البناء القصصي والحبكة القصصية، وفيما وصلني أن قصتي الأولى والتي تحدثَت عن مشهد من المشاهد التي تدور في إحدى دور الأيتام، كانت بداية جيدة، حسب تقييم المهتمين والمختصين بالأدب والنقد الأدبي. أما عن الانطلاقة الحقيقية الجديدة، فلا زلت أخطو نحوها، وأرتقي درجتها الأولى، متمنيًا أن أخوض هذه الغمار بروح وثابة ثابتة، ومجموعة قصصية أولى تحظى بالقبول إن شاء الله.
الحقيقة، إنك قد تظل طويلًا لا تدرك أن لديك تلك الموهبة، وقد تدركها، لكن لا تحسن كيف تبدأ في صقلها، لذلك فالفضل يعود إلى عدد من الأوساط المحيطة بي. حين سلكت الطريق، رأيته ممتعًا رائعًا، حتى بما فيه من مشقة. الحقيقة أن اللذة في المشقة تعلو عن اللذة في غيرها؛ اللذة في الكتابة وسبر أغوارها، وتغذيتها المستمرة بالقراءة في المجال الأدبي تحديدًا، وإحاطة كل ذلك بالقراءة في المجالات المتعددة الأخرى كالفلسفة والتاريخ وعلم النفس وغيرها، كلها ميزات للقارئ الذي لا يكتب، فكيف بمن يقرأ ويخط بقلمه ما تعتلج به مشاعره؟ إنه العناء العذب الشيق.
أرى أن القصة القصيرة قِطع من الحياة المتسعة المتشعبة وصور لها، بكل ما فيها من مشاعر وأحداث تصوغها الكلمات، ويحيطها الأدب بعذوبته، وميزة القصة؛ التي ربما تفوق ميزة المعاينة المباشرة لأحداث الحياة؛ أن الكاتب لا ينقل صورة الحياة فحسب، بل يبدع في إخراجها بصورة تدغدغ الروح، وهو بذلك يجمع بين الجمالين. أما عن الكتابة بالنسبة لي، فقد ظلت لفترة علاجًا ومتنفسًا قبل أن أسلك احترافها عن طريق ورشة القصة القصيرة. الكثير ممن تمتلئ نفوسهم بالأحداث (مؤلمها ومفرحها) إن لم يخرج ذلك الزحام، ويفرغ تلك الزحمة النفسية، ربما تتأزم مكوناته النفسية (عقله وقلبه وحتى جسده) إلى الدرجة التي يحتاج معها لتدخل عميق من متخصصين، ربما يفلحون في تفريغها وربما لا! وقد وجدت في الكتابة ذلك المتنفس، فأتنفس فرحي وترحي وهمي وخواطري. أحدّث نفسي بقلمي، وأقرأ نفسي والواقع بين سطور أوراقي؛ وما خوضي غمار القصة القصيرة إلا استزادة في الدخول إلى أعماق نفسي ونفوس القراء الكرام؛ فالقارئ الكريم قد يجد من يشرح روحه، ويحكي حياته، ويسبر أغوار نفسه بالقدر الذي لا يستطيع فعله بنفسه. نعم، للكتابة صلة بالحياة، والحياة متحوّلة وقاسية، وفيها الكثير من الآلام والتجارب. فكيف يحضر ذلك في القصة القصيرة؟ حقيقة؛ هذا السؤال مهمّ، وروعته تكمن في أنه إما أن تكون إجابته صعبة للغاية، أو أن تكون سهلة للغاية. وأحسب أنني قد أشرت في ثنايا حديثي السابق إلى بعض تفاصيل الإجابة. أما إذا أردنا الإجابة الواضحة المختصرة، فالقصة صورة الحياة، والحياة عدد من القصص الرهيبة -وهذا ما أقصده من أن تكون الإجابة من كلمتين- لكن بين هذين الكلمتين حياة بشر بطولها وعمقها، وجهود كُتاب وسهرهم لنقل تلك الحياة بأروع بيان ممكن، وفيها كذلك أعمار القراء وأوقاتهم، بل وفيها تفاعلهم الذي يدفعه للرغبة في الحذف والتعديل لتصل القصة بالحياة والحياة من خلال القصة إلى الدرجة القصوى من التماس.
لابد من الاعتراف بالجميل لكل أفراد أسرة الورشة، فبينهم تتعلم كيف تحول الحياة لقصة، كيف تكتبها، كيف تحكيها، كيف تفرق بينها وبين غيرها من سائر الفنون الأدبية والسردية. ولقد بدأ حضوري للورشة بدعوة كريمة من صديق حبيب، وقد كان يعلم أنني أبحث عن مثلها، ثم قابلت هناك أساتذتي جميعًا، وللحق فقد استفدت من الزملاء الكرام، ونقدهم وتوجيههم؛ ما لو ظللت أتعلمه وحدي شهورًا طويلة ما أفلحت. وللسيد الأديب، والعلم الكريم الأستاذ نصر سامي فضل كبير في إحاطتي لجوانب القصة، ولازال يفيض عليّ بما ينفعني في طريقي، وأذكر على سبيل المثال جُملة قالها لي مشجعا على السؤال والنقاش، قال: حفزني على البحث، واسألني أسئلة عميقة وصعبة، لأتعلم معك. وفي ذلك فرط تواضع منه، فهو الشاعر الأديب، الحائز على عدد من الجوائز الأدبية التي تدلل على قيمته الأدبية، وعلى رأسها الجائزة الأدبية الكبرى (كتارا).
تجربة الكتاب الأول لا زلت أعيشها الآن، ولا أملك إلا الاتفاق مع هذا التعبير البديع “القصة القصيرة تجعلك مثل شجرة الأبدية ساكنا في ضمير الأبد”، ومع مضمونه. فقط إن أردت أن أزيد شيئًا، فهو أن هذا الوصف ينطبق على كل كتابة أدبية غائرة في النفوس حد الكشف والاكتشاف لميولها وهمومها وخباياها، والأمر نفسه مع أحداث الحياة المختلفة.
أسعى من الآن إلى الاطلاع على المدارس الأدبية المختلفة، العالمية والعربية، وألمس مفاتيح كبار الكتاب. وما كل ذلك إلا للرغبة في الوصول إلى التغيير الذي يلهمني لمس الحياة ومفرداتها بحلاوتها وكدرها. وأعمل حاليًا على مجموعتي القصصية الأولى وهي على مشارف الإنجاز ولله الحمد والفضل. فأنا من هؤلاء الذين لا يرضون عما يكتبون مطلقًا، ولا أخفيك سرًا؛ فقد تصل قراءتي للقصة الواحدة التي أكتبها عدة مئات من المرات، وفي كل مرة، وبعد كل فترة أقرأها بعين الناقد، وأرى بنفسي مواطن قوتها وضعفها (من الناحية الأدبية أو من ناحية المضمون)، وأصادف عددًا من الصعوبات، مجملها فنية، كشأن المبتدئين، ولا زلت أحاول التغلب عليها بكثرة القراءة القصصية، والقراءة النقدية التي تبرز لي فنيات القصة والسرد والحكائية وغيرها.
حين بدأت بكتابة القصة، والواقعية منها تحديدًا بشقيها الاجتماعي والسحري، أدركت أنني كنت منغمسًا في بلادي في تراث عظيم يستحق اكتشافه، هنا تحديدًا وجدت أن الغربة عائق عن معايشة ذلك التراث بالرؤية القصصية الجديدة. لكن بالنظر إلى الغربة فأنا حقًا نادرًا ما أشعر بالغربة، فقط تلك النوادر تتمثّل في فقد عزيز أو حبيب لا أقدر على رؤيته ولو مسجى، فأعود بتلك المشاعر الصعبة فأكتبها وأكتب ذلك العزيز المفقود. وأحسب أن الغربة تساعدني على الكتابة بالصورة التي يسميها الأدباء (كتابة المتألمين).
حوار راق ينم عن التفكير العميق والالمام بفن القص. ثلة مشرفة. من الكتاب. أكيد ستحدثون الفارق في الساحة الأدبية. دمتم مبدعون