القصة “رصاصة”

جدل - ورشة القصّة القصيرة بصلالة

3 1٬959

دلندة الزغيدي – تونس

كانت البدايات طفولية منذ نعومة الأظافر، لكن لم يكن هناك اهتمام لذلك. كان نصيب تلك القصص هو الإهمال. أما البداية الحقيقية فكانت متأخرة جدّا. كانت منذ سنتين فقط، 2018، عندما أخبرتني صديقة لي بأن هناك “ورشة كتابة القصة القصيرة”. انضممت بدون تردد؛ ومنذ الأسبوع الأوّل كتبتُ أوّل قصّة لي بعنوان “خيوط متناثرة”، تقبّلها أعضاء الورشة قبولًا حسنا وأشادوا بجملتي الأدبية، وهكذا كانت الانطلاقة متأخّرة ولكنّها كانت جدّية.

صرت كاتبة؟ لا أجزم بذلك. بكل تواضع أنا أحاول الكتابة، ولا أدعي أنني كاتبة لأن الكتابة لها متطلّباتها. أن أكون كاتبة هو ميزة تستحق العناء فعلًا؛ فالكتابة مسؤوليّة تجاه القارئ، وتجاه الناّقد، وتجاه المجتمع بأسره. القصّة هي منتج يجب أن تتوفّر فيه صفات حتى يتقبل تقبلًا حسنًا، ولن يتحقق ذلك إلّا إذا توفّرت شروط جودة هذا المنتج. الجودة اللّغوية والفنية والفكرية، وكيفيّة صياغة الفكرة وجعلها مميّزة وجديدة. هذا هو هاجس الكاتب. الكاتب يتحمّل مسؤولية تقديم إنتاج أدبي فريد ومجد، وممتع ومؤثر. ومن هذا المنطلق فإن الكتابة كلّها عناء. إضافة إلى أنّ الكاتب لا يمكن أن يكون كاتبًا إنْ لم يتشرّب من أمّهات الكتب، وضروب الشّعر والنّثر. فقبل أن تكون كاتبًا جيدًا يجب أن تكون قارئًا جيّدًا، وباحثًا جيّدًا، والأكثر من ذلك يجب أن تكون خلّاقًا. ففعل الكتابة هو فعل خلق.

القصة “رصاصة”، لها هدف محدّد، والرّصاصة يمكن أن تصيب ويمكن أن تخيب. أصعب أنواع الكتابة هو كتابة القصّة القصيرة، باعتبار أنها عادة ما تتّصف بوحدة الزّمان والمكان والحدث والعقدة وقلّة الشخوص. وتتّسم أيضًا بالاختزال والتّكثيف، وقوّة كاتب القصّة القصيرة تكمن في أن يسيطر على قلمه بحيث أنّه يوجّهه مباشرة إلى الهدف فيلجأ إلى اختزال الأحداث، وصياغتها بطريقة مختصرة، ولكن مكثفة، بحيث أنها تولّد ذلك الإحساس بقوّة الصّراع وشراسته من خلال حيّز زمني ومكاني وحدثي ضيّق وقصير، مع الحرص على ألّا تتلاشى قوّة الحدث بالإطناب في السّرد أو الوصف أو إدراج حوار غير صادق.  كلّ هذه الأشياء يجب أن توجد في القصة لكن بالمقدار المناسب من دون زيادة ولا نقصان. في الحقيقة، لا يمكن أن أحدد هدفًا واحدًا من خلال كتابة القصّة القصيرة. فكل الأهداف مقبولة كالهدف الجمالي الإبداعي، كأن تحقق المتعة للقارئ، يمكن أن تكون متعة لغويّة أو فكريّة أو حكائيّة. بالنسبة لي، أهم هدف هو أن أؤثّر في القارئ، وذلك من خلال الولوج إلى اهتمامات الناس، والخوض في المسائل التي تشغلهم، وخاصة في تلك المسائل المسكوت عنها.

إذا كانت الكتابة لا تعبأ بالهمّ اليومي فتبًّا لها من كتابة. ما خُلق القلم إلّا ليسجّل، بل ويحفر في متقلّبات الحياة، وهمومها وتناقضاتها؛ وما تصنيف القصص إلى واقعيّة وخياليّة وسحريّة ورومنسيّة إلّا تصنيفات منهجيّة، لكن في الحقيقة فإنّ في القصّة الرّومنسيّة مسحة من الواقع، وكذلك هو الحال بالنّسبة للقصّة الخياليّة، ولعلّ القصّة الموغلة في التّخييل هي القصّة التي تنخر في مآسي الحياة، وتكشف خباياها وآلامها. القصّة على اختلاف تصنيفاتها هي الوعاء للمشاغل اليوميّة، من عاطفة، وفكر، ومشاكل، والقصّة التي لا تطرح قضيّة ولا تستفزّ القارئ بأبعاده الوجدانيّة، والفكريّة والفنّيّة والتّعبيريّة فهي ليست بقصّة.

أعتبر نفسي التحقت بورشة الكتابة متأخّرة بعض الشّيء، منذ سنتين فقط، أي سنة 2018. على الرّغم من ذلك، فإنّ ذلك كان مجديًا وأضاف لي الكثير. الورشة هي فضاء فكري زاخر بالنّقاش في المسائل الأدبيّة وخاصّة فن القصّ. كنت أكتب بدون وعي قبل الورشة أي أكتب بالفطرة، والورشة فتّحت بصيرتي لأن أكتب بوعي أو لنقل بحرفيّة. تعلّمت منها أن أخطّط للكتابة، وأن أفكّر في معايير القصّة الجيّدة، وأن أبحث إذا كان الأمر يتطلّب ذلك، وأن أضع نصب عيني القارئ سواء كمحبّ للقراءة أو كناقد أدبيّ، كلّ هذه الاعتبارات حفّزتني على أن أصقل قلمي. إضافة إلى ذلك، المادّة المقدّمة استفزّتني لأتّخذ موقفًا من الكتابة، فأصبحت أحسّ بأنّ الكتابة مسؤوليّة، وأنّ القصّة منتج يمكن أن يؤثّر في القارئ وبالتّالي في المجتمع بأسره؛ وعليه فإنّه يجب أن تتوفّر فيه شروط معيّنة لترقى بالقرّاء. الورشة، كذلك، ساهمت في الحراك الثّقافي في مدينة صلالة، باعتبار أنّني مقيمة هنا، ولكن أيضًا مدرّب الورشة الكاتب “نصر سامي” طوّر هذه الفكرة وطار بها إلى تونس حيث أقام ورشتين مماثلتين، أنتجت كتابين قيّمين أحدهما “أهازيج النّسيان”. والورشة هي أيضًا نافذة على عالم الأدب، فلم يقتصر نشاطها على التّدريب على الكتابة، بل تعدّت ذلك إلى إقامة أمسيات أدبيّة مثل القراءات القصصيّة، والأمسيات الشّعريّة والقراءات النّقديّة وغيرها. كل هذه الأنشطة هي تحفيز للقلم باعتبار أنّ هذه الورشة كتبت أبجديّات، وأورقت كلمات، وأنتجت مجموعة محترمة من الكتب الجماعيّة والفرديّة.

للكتاب الأوّل دائما له طعم خاصّ، فالحب الأوّل هو أصدق حب، والمولود الأوّل هو أحلى خلق، والكتاب الأوّل هو ألصق للذّات باعتبار أنّ حرفه يخرج من صميم الذّات. أحسست بكلّ كلمة، بل وبكلّ حرف كتبته. على الرغم أنّها التّجربة الطّفوليّة والأولى، التي قد تشوبها بعض النّقائص، إلّا أنّها تكتسب طعمًا خاصًّا. كتابة فيها بعض مشقّة من بحث وتنقيح وتجميل، واهتزاز ثقة أحيانًا، وخوف أحيانًا أخرى. هي مخاض بما يحويه من ألم وفرح أيضًا. كتابي الأوّل هو “ضناي” الأوّل الذي أدخلني إلى عالم من الجمال، ومن المعاناة أيضًا، وجعلني أحسّ بتلك المسؤوليّة تجاه القارئ وتجاه المجتمع، وأضفى عليّ الكثير من البهجة، خاصّة عندما وجدت أوّل مولود لي في معارض الكتاب في مختلف أنحاء الوطن العربي. كتابي الأوّل هي فرحة أمّ بمولودها البكر.

أقول إنّ للقصّة القصيرة عروقًا ممتدّة فيّ الكون بأسره، وليس في واقعها الضّيّق فقط، وأقصد بالضّيق التّربة التي نبتت فيها القصّة، فالكثير من القصص متجذّرة في محيطها إلى درجة أنّها تصل أحيانًا إلى اعتمادها كوثيقة للتعريف بحيّ ما، أو بلدة ما أو مدينة ما، فتفوح منها رائحة مكان ما أو حقبة زمنيّة ما، ولكن أيضًا القصّة القصيرة يمكن أن تحلّق خارج ذلك الحيّز الضّيّق، فتأخذ بعدًا إنسانيًّا كونيًّا، بحيث يجد فيها القارئ في أيّ مكان في العالم جزءًا من ذاته في هذه القصّة أو تلك. فعندما تقرأ قصّة “البؤساء” مثلًا لفيكتور هيجو، وعلى الرّغم من أنّها تروي أحداثًا محدّدة في فترة محدّدة، وفي ظروف محدّدة إلّا أنّ قضيّتها الرّئيسية تجد صداها في كل الأزمنة والأمكنة، فقضيّتها قضيّة إنسانيّة بامتياز، فالبؤس لم ينته يومًا، والاستغلال لم ينته يومًا قد يأخذ أشكالًا جديدة، أو مسمّيات جديدة ولكنه لن ينتهي أبدًا. لذلك، القول أنّ القصّة تسكن في ضمير الأبد أراه قولًا صائبًا.

الكتابة نشاط محفوف بالمتعة الذّاتيّة، وهي لحظة غبطة؛ غبطة أن ترى مخلوقًا بعد مخاض أليم، ولكنّها أوّلًا وقبل كل شيء رسالة، شأنها شأن كلّ الأعمال الفنّيّة كالسينما والمسرح والرّسم والغناء. الكاتب يشبه الرّسول لأنّه يريد أن يبلّغ فكرة ما إلى القارئ، وبغضّ النّظر عن ماهيّة الأفكار التي يريد أن يبلّغها، هو يسعى بوعي أو بغير وعي إلى أن يغيّر شيئًا ما في عالمه، وهذا التّغيير يبدأ بحلم؛ فالكاتب يرى الأشياء بعين مختلفة، ومن زاوية مختلفة وغير عاديّة، فهو ليس مجرّد ناقل للواقع، بل هو يسعى إلى إعادة إنتاج هذا الواقع بشكل مغاير. إذن، هو يحلم بواقع مختلف، وبالنّسبة إليّ أحلم بعالم نظيف، وبهيج يرتقي فيه الإنسان إلى مرتبة الإنسانيّة، عالم نقي، مليء بالعدل والقسط بعد أن مُلئ ظلما وجورا، أحلم بعالم يسود فيه الجمال بكلّ معانيه.

هذه الأيّام زاخرة بالاهتمامات، وما يشغلني كثيرًا، أشياء شخصيّة عائليّة، وأخرى متعلّقة بإنجاز الأعمال العالقة، والتي يجب أن تُنجز في الآجال المحدّدة. بالنسبة لي، كعضو في ورشة كتابة القصّة القصيرة يجب تسليم الأعمال الموكلة إليّ في الآجال المحدّدة، وهو المجموعة القصصيّة، إضافة إلى كتاب ثان يتضمّن مجموعة من المقالات الأدبيّة المنبثقة عن الورشة منذ تأسيسها. هذا العمل يتطلّب جهدًا، وعليّ أن أجمّع هذه المقالات التّالفة وأنسّق الكتاب، إضافة إلى أعمال أخرى عالقة يجب إتمامها؛ إتمام روايتي التي شرعت في كتابتها منذ أشهر، وتنسيق كتاب الأمثال الشّعبيّة وتبويبه وإخراجه بطريقة فريدة لكي يجلب القرّاء ويحقّق إقبالًا محترما.

الصّعوبات التي واجهتني في البداية هي تقنية في الأساس، فقبل الالتحاق بالورشة والشروع في الكتابة بشكل جدّي، كنت أكتب ما أحسّه دون أن أنتبه إلى تقنيات وأدوات الكتابة، لكن من خلال الدّروس والنّقاش والنّقد الذي نمارسه في الورشة حدث فيّ زلزال. كنت أكتب بعين وقلب الهاوي؛ أصبحت أكتب بعين الكاتب والنّاقد والقارئ، وأصبحت أولي اهتمامًا للبناء والأدوات والأساليب التي تساعد أعمالي على أن تُتقبَّل تقبّلًا حسنًا من قبل القارئ. أصبح القارئ طفلي المدلّل الذي يجب عليّ إرضاؤه. استطعت مواجهة هذه الصّعوبات؟ نعم، ولكن هل تغلّبت عليها؛ لست متأكّدة من ذلك. واجهت تلك الصّعوبات بتكثيف نشاط المطالعة، ونقاش بعض المسائل غير الواضحة مع فريق الورشة، والمداومة ممارسة نشاط الكتابة.

الوطن مغروس فينا سواء كنا بين أحضانه أو بعيدين عنه، هو شيء منّا وفينا. على الرّغم من البعد الجغرافي، يبقى الوطن معشّشًا في القلب والذاكرة، ولا يمرّ يوم دون أن أذكره وأراه وأشمّ رائحته، ولكم تتشوّق صديقاتي العمانيّات عندما أحكي لهنّ عن تونس؛ يقلن “إن إحساسك ينقلنا إلى هناك إلى الخضراء، هيجتِ فينا الرغبة لزيارة هذا البلد المبارك”. بكل بساطة، أنا أعيش كلّ لحظة وصورة بلدي بكل تفاصيلها حاضرة فيّ. والكتابة والحنين توأم. فأغلب قصصي مشبّعة بروح تونس، فالمكان والشّخصيات والنّكهات والرّوائح التّونسية حاضرة وبقوّة، واللغة والشّعر والأغاني والأمثال التونسية هي البصمة الواضحة في قصصي. وإن كانت الغربة تساعد كاتب القصة أم لا، فذلك موضع جدل لأنّنا نرى العديد من جهابذة كتّاب القصة يقيمون في أوطانهم ويبدعون في كتابة القصة، ونجد العديد من المغتربين وحتّى الموهوبين والقديرين منهم لا يكتبون، والسّبب هو الغربة. على العكس من ذلك، الغربة هو محفز قوي للكتابة. بالنسبة لي، قد تكون الغربة محفزًا، بل وموضوعًا للكتابة، وقد تكون عائقًا للكتابة أيضًا، ولكن ما هو أكيد هو أنّ الغربة تضفي على القصّة طابعًا خاصًّا، لأنّ الكاتب المغترب يعيش وضعيّة خاصّة، وضعيّة يشوبها التّمزق بين المادي والمعنوي. يعيش في مكان، لكن وجدانه متعلق بمكان آخر. يعيش مع أناس، وصورة الأهل والأحباب حاضرة معه، ولكن ذلك الحضور المنقوص لأنهم حاضرون كفكرة وكإحساس فقط. يحسّ المغترب بالحاجة إلى تلك التّربة، وأولئك النّاس ولكن لا يجدهم فعليّا؛ والأهمّ من ذلك كلّه، أنّ الغريب يعيش حالة من الفرح مع وقف التّنفيذ، فكلّ أفراحه مؤجّلة إلى أن تحين ساعة الرّجوع إلى وطنه، فلا العيد عيد، ولا الفرح فرح، ولا الحزن حزن. قد يعيش المغترب أيضًا حالة من الصّدمة والضّياع عند العودة إلى الوطن، فلا يعرف كيف يحقّق الفرحة وهو في الغربة، ولا كيف يحققها عندما يعود إلى بلده؛ فيعيش ذلك التّمزق التّشتت الذي يصل أحيانًا إلى نوع من الانفصام؛ يعيش حالة غربة في كل الحالات. لهذا، من المؤكد أن يكون لهذا الإحساس الغريب صدى في كتاباته، وهذا الاختلاف موجود في أدب المهجر.

قد يعجبك ايضا
3 تعليقات
  1. إبراهيم عباس يقول

    كل التحية أستاذتنا الموهوبة دلندة الزغيدي.
    كعادتك في حديثك وقصتك أفضتي في نقل تجربتك المكثفة الثرية.
    كل أمنياتي ودعواتي لك بتحقيق الإنجازات العالقة، وخططك وخطواتك الآتية..

  2. نصر سامي يقول

    وددت لو اشرت إلى أنّ فكرة ربط القصة بالرصاصة هي فكرة ليوسف إدريس. الذي قالها في سياق فعالية القصة القصيرة في إدراك هدفها.

  3. سعد يقول

    صديقتي و زميلتي ، أراك تبدعين .. هنيئا لك بكلّ هذا التّألّق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.