رحلة أطراف، مع جسد واحد

0 433

مبارك المبارك – العراق

فوق كتف القرصان ببغاء، وإحدى عينيه مفقوءة، أما كفّه اليمنى فعبارة عن منجل حديدي لامع: أيَدُ القرصان مبتورة أم أنّه يتظاهر فقط؟

هذا المشهد طالما أرقني في طفولتي، وكنت أخافه وأتذكره وقت الغروب، وبخاصّة عندما يومئ القرصان بيده، ويظهر نصل المنجل.

يقول جعفر، وهو ويحكي لأطفاله الأربعة الملتفين حول سريره الذي يرقد عليه في مستشفى (فاقدي الاطراف والمعوّقيـــن):

– الكف تتجمع مع كفوف أخرى أتت من فوق إحدى سطوح المنازل المقابلة لفضاء الساحة، التي اتفقتوا بأن يتجمعوا فيها، بعدما انفجرت قذيفة هاون على السطح الذي كان يشكل ثكنه للجنود، حيث أن قوة الانفجار فصلت بعض الأطراف عن أصحابها، كفّ آخر بإصبع السبابة الوحيدة الدامية المتبقية فيها يشير عليهم بأن ينتظروا المجموعة الثانية من الأعضاء، قبل أن يبدأوا مسيرهم باتجاه النهر؛ فالمجموعة الثانية تخلفت عنهم في البداية، بحكم التصاقهم الشديد وتيبسهم، لأنهم انفصلوا عن أصحابهم منذ زمن ليس بالقليل، على إسفلت الشارع، وعلى الجدران، فهم عبارة عن قطعة من لحمٍ وشعر متبقية من صدرِ شهيد، أُذُن، جزء خلفي من دماغ لضابط من أهالي البصرة اخترقت جزءًا من رأسه الامامي رصاصة، وغيرها من القطع المتبعثرة هنا وهناك…

تجمعوا عنوة، بهيئة كرة لحم شكلتها يدٌ غير مرئية من روح لجندي كانت تائهة، بعدما اتفقوا معها على اصطحابها معهم، وأباحوا لها بسرّ، فالمكان المتجهون إليه فيه باب مقدّس، تصعد الارواح التائهة من خلاله الى السماء.

وصلت كرة اللحم والكف والروح المتبقية من الشهيد، الى المجموعة الاولى التي كانت تتجمع في الساحة التي تطل على نهر دجلة، فالرحلة سوف تبدأ في العاشرة الا دقيقتين مساء الخميس الى الجمعة. الوصول والدفن وصعود الروح سوف يكون مباركًا في ذلك التوقيت للشهداء وللأطراف الشهيدة على السواء.

وقبل أن يبدأوا المسير، تفطنت كفُّ (جعفر) السمراء المختنقة بالتراب وبرائحة الرصاص، على أنّهم يحتاجون زورق أو (عوّامة) يطفون من خلالها على النهر، وكذلك دليلٌ يبصرون من خلاله الطريق الذي سوف يشقّونه، شرط أن يكون الدليل طيرًا أو حيوانًا آخرَ طاهرًا، عسى أن لا يصيبهم أذى.

جميع الحاضرين احتاروا من أين يحصلون على عوامة؟ وأصابهم يأس عارم وبكاء، فالرحلة قَرُب موعدها.

فجأة لمعت في رأس (روح الشهيد) فكرة، وقالها بصوت متقطّع: إن جسدي المادي الذي خرجت منه يرقد هناك، وأشار بأصبعه نحو باب موارب لمنزل في الطرف البعيد للساحة:

–  إنه جثة هامدة… قالت الكفّ مبتور الاصابع.

– إذا كيف ذلك؟ قالت كف (جعفر)

مجموعة من نوارس غير معروفة العدد، تنتشل الجسد بمناقيرها، تصعد به الى أعلى ثم اختفت، الكل تفاجأ…  من ضمنهم روح الجسد.

وازداد البكاء!

لا شيء ينقذنا، لا جسد نحتمي بكنفه، لا أرض تحفظنا، الكلّ سواء، حتى دجلة الذي تجرد من عاطفته صار نهرًا مظلمًا شاحب المياه، كم ابتلع أجسادًا على مرّ الأزمنة، منذ الجدّ الأول وحتى إيانا، وأنت أيّتها النوارس المحلّقة: كم وقفت فوق الجسور عندما كنت ضمن جسدي أنثر لكِ من أرغفة خبز أطفالي قطعًا لتأكلي؟ ألا تذكرين… ألا تذكرين؟

وتفطّن الكفّ إلى قول جدّته حيث كانت تردد دائمًا مثلها الشهير: (لا غزر ولا فـــــــاد).

وجاء صوت آخر غير معروف من قطعة اللحم، قد يكون لقطعة دماغ الضابط… يظهر أنّه كان ملمًّا بالشعر وخاصة الثوري:

“حاصر حصارك لا مفر..

اضرب عدوك لا مفر..

سقطت ذراعك فالتقطها

وسقطت قربك فالتقطني

واضرب عدوك بي

فأنت الآن حرٌ وحرٌ وحرٌ”*

وسكت الصوت بعدها… فاستذكر الجميع أصوات أحبّائهم، وأصابتهم حالة عارمة الحنين للماضي، وتوق إلى ماضٍ غير عائد.

الجميع، أرادوا العودة من حيث جاءوا، واستسلموا لليأس، وكرة اللحم من بقايا الشهداء والمصابين، سال منها بعض الدم، وشارفت على التفكك…

نعيقٌ عالٍ، من جانب النهر، انتبهت جميع الأعضاء، نورسٌ، ينادي عليهم…

(كف خالد، أصبع سارة، أيتها الاذن، كرة اللحم، أيتها الاقدام… تعالوا جميعكم).

جاء موعد الرحلة، رُكّبت جميع الاعضاء المبتورة، فوق جسد الشهيد، فالنوارس طارت به إلى النهر وأصبح كزورق أو سفينة أسطورية، يتقدمهم النورس كدليلٍ للرحلة نحو شط العرب، قاطعين أغلب محافظات الوطن، للسلام على الاهل بصورة لا مرئية،

واختاروا شطّ العرب، إضافة الى بوابته المقدسة نحو السماء، فإن كثافة تربته الملحية تحفظ الاعضاء المبتورة… بطريقة تكفل بقائها الى يوم القيامة، حيث النشور، وقصاص كل شهيدٍ من قاتليه….

قطعَ الحكاية صوتٌ أخرج الأطفال الأربعة من سكونهم فانتبهوا:

– جعفر عزّ الدين،

–  (نعم). أجاب جعفر

– الطرف الصناعي الذي سجلت عليه، غير متوفر مع كل اسف، فميزانية الوزارة، لا تسمح بهكذا نوع من (كفّ لامع).

أصواتٌ أخرى اختلطت جميعها في الممرّ أمام غرفة جعفر، إنها لجنود آخرين أتَوا من المعركة، وكانوا جميعهم أنصاف أجساد، وبجنب كل منهم عضوه المبتور….

فحكاية جعفر لم تنتهِ، واستمرت رحلة الأطراف الابدية، والجسد الذي يركبون فوقه… في دجلة… ولم يصلوا شط العرب مطلقاً…

[أنت لن تفهم هذا، هذا أمر لا يفهمه إلا من فقد أحد أطرافه، وحده يعاني من ظاهرة الاطراف الخفية، احساس ينتابه بأن العضو المبتور ما زال موجودًا، بل هو يمتدّ في بعض الأوقات إلى الجسد كله، إنه يؤلمه. ويشعر بحاجة إلى حكّه.. أو تقليم أضافر يد لا توجد….].**

—————

* من قصيدة مديح الظل العالي لمحمود درويش.

** من رواية (عابر سرير) لأحلام مستغانمي.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.