هجرة عابرة: قراءة في رواية (مهاجر من ظفار) لعلي كفيتان

0 698

الدكتور محمد المهري -عمان

“لقد عافت نفسي الراحة منذ أعوام، فالديون تتراكم وتجار المدينة يطالبون بحقوقهم… والخريف لم تعد تمطر سحائبه طوال ثلاث سنوات، والثوار بدأوا يخوضون نضالهم في الجنوب… لم تعد هناك خيرات أخرى ممكنة غير الهجرة” (ص9)

     بعد عامين من خروج كتابه (ظفار الإلهام الأبدي) إلى النور، فاجأ المؤلف جمهور قراءه برواية (مهاجر من ظفار) عن دار بورصة الكتب المصرية؛ عنوان يشي بمعنيين (الهجرة/ ظفار).

في لسان العرب، قال الأزهري: وأصل المهاجرة عند العرب خروج البدوي من باديته إلى المدن، يقال: هاجر الرجل إذا فعل ذلك؛ وكذلك كل مُخْلٍ بمسكنه منتقل إلى قوم آخرين بسكناه، فقد هاجر قومه… فكل من فارق بلده من بدوي أو حضري، أو سكن بلدًا آخر فهو مهاجر، والاسم منه الهجرة. والهجرة تعني : الانتقال من مكان إلى آخر بشكل مؤقت أو دائم في الإقامة، سواء تمت الهجرة من قبل شخص واحد أو من قبل مجموعة من الناس

أما الشطر الثاني من العنوان – ظفار-  منطلق الرحلة ومنتهاها؛ وبهذا لم يعد للقارئ أن يخمن المكان، أو فعل المكان، بل إن الزمان حاضر من البداية حتى النهاية. العنوان يسجل حضورًا  قويًا في أعماق الذاكرة الجمعية  في عمان، وخاصة في الركن الجنوبي منها؛ فسيرة المهاجرين وحكايتهم صفة عامة عند الكثير من أبناء محافظة ظفار في خمسينيات القرن المنصرم “حزمت رأيي قبل الفجر بقليل، ورغم الخوف من المجهول إلاُ أن تباشير السرور باتت على وجهي المتجهم منذ عدة سنوات” (ص9 ).

إن علاقة  السير(الذاتية / الغيرية)  في البناء الروائي “علاقة ملتبسة وخلاقة بين جنسين سرديين، كثيراً ما تفضي التفاعلات بينهما إلى نصوص إبداعية متميزة”،( معجب الزهراني – السيرة الذاتية رواية- مجلة القافلة عدد مايو/يونيو 2005). هذه العلاقة أوجدت تقنية وسعت من الإطار الخيالي المطعم بالواقع، فغدت السيرة الذاتية تشكل المساحة الكبرى من الأعمال الأدبية العربية، سواء أكانت من الوضوح البائن دون أي رتوش ك(الخبز الحافي) لمحمد شكري، ورواية  (بقايا صور) لحنا مينا، أم سيرة ذاتية خضعت لآلية الإعادة ومحاولة تخليقها بصورة تبعد الكاتب عن الأحداث كالذي نجده في رواية (الطلياني) لشكري مبخوت؛ على أن السيرة الغيرية في المجال الروائي لم تكن بذلك الحضور البارز إذا ما قورنت بمثيلتها الذاتية، ومن أمثلتها رواية (العٌلامة) لبنسالم حميش التي تناول فيها شخصية ابن خلدون التي استأثرت باهتمام الناس، ورواية (مهاجر من ظفار) لعلي كفيتان وهي سيرة لشخص وازن الظروف الصعبة التي تحيط به، فوجد الديون تلح من جانب، وحكايات  فرص العمل في جانب أخر، وبين هذين المعطيين وطن وأسرة لم يفارقهما مذ خلق، سيرة رجل مكافح تحمل مشاق السفر، وأهوال الغربة، وحين عاد أكمل طريق الكفاح والمشاركة في بناء وطن يأن من الحرب والفقر والجهل.

التزمت رواية (مهاجر من ظفار) السردَ وملاحقة الأحداث، والدخول في تفاصيل مظاهر الحياة اليوميّة، مستعينةً بالذاكرة تارة، وما جادت به أفواه الرواة تارة أخرى. ذلك السرد المتتابع الذي لم يحرك في القارئ ساكنًا على أقلها في المحيط الفني للنص، رحلة عادية كأي رحلة لأهلنا حين ضاق بهم الحال فتوجهوا إلى دول الخليج العربي التي اكتشفت النفط مبكرًا، فأوجدت فرصًا للعمل. أعني أن المؤلف لم يوفق في سرد هذه الرحلة فنيًا، بل جاء بها من أفواه الرواة مباشرة فوضعها على الورق، حيث تبدأ سلسلة الأحداث بنزول المهاجر إلى المدينة لأخذ الإذن من الوالي- يا لهذا المهاجر الملتزم – وظفار كلها تهاجر خلسة وهروبا؟ ولكن لنقل أن هذا المهاجر خالف قواعد اللعبة بين السلطان وواليه والرعية.

       تمخر السفينة بالمهاجرين عباب البحر ويصف المؤلف محطات الوقوف التي مر بها على لسان (الراوي / المؤلف)، ويأخذ كفيتان قصيدة (كحيلان) التي تصف مدن وحواضر عمان الواحدة تلو الأخرى إلى أن يصل العاصمة مسقط؛ لم تكن أي إثارة تدهش القارئ على امتداد (26) صفحة.

    كذلك  السفر إلى دبي، ومنها إلى قطر حيث ألقى المهاجر عصا التسيار هناك؛ ليكون عاملًا للآبار في بادئ الأمر، ثم في خدمة حيوانات الشيوخ، وما أن أكمل مدته حتى عاد المهاجر إلى وطنه، لم يتخلل تلك الفترة أي حدث يحرك ساكن الرواية؛ لم تكن الأحداث تصاعدية لننظر في حبكة ونصل منها إلى النهاية التي يريدها المؤلف، كعادة السير فإن السرد فيها  “يتصف  غالباً، بالتعاقب الخطّي المتصاعد زمنيّاً (الكرونولوجي)، وإذا ما تراجعَ للخلف كي يربط الراهن بالماضي فإنما يفعل هذا لِماماً، وعلى نحوٍ تقريريٍّ مباشر، دون اللجوء لأيّ وسيلةٍ روائيّة تندرجُ ضمن ما يُعرَف بالانخطاف للوراء (فلاش باك)” (إلياس فركوح، السيرة الذاتية والرواية، مجلة الجديد، عدد يوليو 2016). فلا رواية تسي فيي خط مستقيم أشبه بجهاز تخطيط القلب الميت ولا أظنها إلا أهنا بعد عودة المهاجر ماتت والسلام.

        لقد كانت الرواية تسرد عبر صوت واحد هو سالم، وأغلب الظن أنه الشخص الذي أُهدي إليه الرواية، هو البطل المهاجر الذي تقوم عليه جل الأحداث، وهذا ليس باليسير في خط الرواية إذا استمرت في الصعود والهبوط، إلا أن الخط الذي وضعه المؤلف فيه جعل منه كالآلة التي تقوم بأعمالها بتراتبية مملة؛ الأمر الذي عز أن يثير خيال القارئ. ومما زاد من بساطة  شخوص الرواية ذكره للأسماء كما هي معروفة للجميع ( الوالي حمود/ الشيخ سليم بن طمطيم/ ابن النقيب/ ابن محاد صيراد…إلخ) مما حوّل الرواية  إلى سرد عاجز عن أن يكون نصًا روائيًا.

 موت الهجرة :

 إن صفة المهاجر تنمحي بوصوله إلى أرض الوطن، وهنا نعود إلى شطر الرواية الثاني (ظفار). هذا إذا تجاهلنا حرف الجر الذي يعنى هنا النسبة، حيث تقابلنا العودة التي تعني الاستقرار؛ هي بدورها تأخذ جل صفحات الرواية (75-123)، وهنا يمكن أن تجزئة الأحداث إلى ( السفر /العودة)، لو أردنا أن ننصف الكاتب لقلنا أن المهاجر اختصر الزمان  وطرح صفة المهاجر عند شواطئ ظفار، بل إن الدموع قد تكون إذانًا بموت الهجرة ودفنها في آن؛ حينها سنقول أن الرواية لم تعد تمتلك الأحقية بعنوانها (مهاجر)، إذ كيف يقال للمهاجر مهاجرًا وهو وسط أهله إلى إذا أردنا أن ندخله في مصطلحات التصوف فهذا أمر أخر.

       ختامًا، كانت رواية مهاجر من ظفار البداية التي لا بد أن يتخطاها المؤلف إلى عوالم أخرى من الإبداع، وكنت أتمنى أن تكون (مهاجر من ظفار) الجزء الأول ويكون كتاب (ظفار الإلهام الأبدي) الجزء الثاني تحت مسمى أوراق الذكريات لعلي كفيتان، أما ميدان الرواية فإني  لازلت أومن بأن علي سالم كفيتان فارس في ميدان الخيال والإبداع، ولن تكون هذه الرواية إلا ممهدًا أو جسرًا إلى عالم الروائي المميز اسمه علي.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.