سوابيط مظلمة*

0 384

موسى الثنيان – السعودية

صديقي هلال رأيته غير مرة وهو يحمل في قفصه أنواعًا من الطيور المهاجرة، صياد ماهر، لم أعرف أحدًا من أهل حينا يصطاد الطيور بمثل  مهارته، يصطاد العديد منها، ويطلقها قبل الغروب وأحيانًا يبقيها عنده ليلة واحدة، إذا كانت من الطيور التي يصعب وقوعها في الفخ، ليشاهد أصحابه انتصاره، ولكن بعد عمله في أرامكو لم أشاهده يحمل ذلك القفص إلا نادرًا.

عند العصر، ذهبت لأراه في المقهى، ولكن لم أجده، سألت خميس صاحب المقهى بينما كان مشغولًا بإعداد النارجيلة لأحد الزبائن، قال: لا أعلم، من المعتاد أن يحضر إلى هنا، ولكنه لم يحضر اليوم.

لأنه سوء طالعي، ومن حسن طالع العقعق الذي سيبقى له يوم آخر حرًا طليقًا. جلست على كرسي من الخشب، وطلبت كأسًا من الشاي؛ اتأمل أمر صاحب المقهى الذي واصل طريق حياته، فهو عبد أعتق أخيرًا مثلي؛ بقي أشهرًا لا يلوي على شيء، كان خميس يقطن مع والديه العجوزين وأختيه في حي “الزريب” الفريق الذي يقع في الشمال الغربي من حي القلعة، كان مهمومًا بالتحول الذي حصل في حياته بعد تحررنا، فكر في أمر عائلته التي بات مسؤولَا عن الانفاق عليها، قابلته مرة في أحد السوابيط المظلمة وسالته: ما الذي تنوي فعله؟ صمت وكأنه يبحث عن جواب، وبعد أن قطب حاجبيه وزم شفتيه قال: لا أدري! قلت له: ماذا قال لك سيدك؟ قال: اقترح علينا البقاء في منزله، وأن استمر في خدمته حتى يفرجها الله. بعد أن علمت أنه فتح فتح مقهى صغيرًا، وأتبع ذلك بزواجه بامرأة من بني جلدتنا، صرت أتردد إلى ذلك المقهى حيث نتبادل أخبار من تربطنا بهم علاقة من أبناء جلدتنا، أخبرني أن بعضهم التحق بالعمل في أرامكو وآخرين كوّنوا فرقًا لضرب الدفوف في حفلات الزواج. أما أنا فأخبرته أنني قد بقيت أخدم في بيت عمي حتى سنحت لي الفرصة أن احصل على وظيفة عامل نظافة في بلدية المدينة، بعد ستة أشهر من تحرري من الرق حصلت على وظيفة ملائمة؛ لكنها لم تبعدني عن عمي راشد وعن رباب، فجمعت بين عملي في البلدية وعملي خادمًا في بيت سيدي مع أنه أراد أن يريحني من أعمال البيت التي لم تكن كثيرة أساسًا، شربت كأس الشاي الذي أحضرها لي وطلبت كأسًا أخرى، ومازال الجالسون يتابعون ثرثرتهم. قاربت الشمس الغروب؛ داخلني اليأس من مجيئه، فيما ازدادت عزيمتي أن أوقع العقعق في فخي. أود حين أسرد لرباب خبر صيده أن أكون بطلًا لحكاية مشوقة، فمهر العشق يجب أن يحضره العاشق بنفسه، وأن يتخطى الصعاب بنفسه كما في حكايات الأبطال التي كانت ترويها أمي.

فجأة عند الغروب أقبل هلال؛ غربت الشمس وأشرق هو. أجلسته بالقرب مني وطلبت له كأسًا من الشاي، أما أنا فقد امتلأ جوفي منه. قلت له: قل بربك كيف يمكنني صيد الطيور، علمني من مهارتك.

ضحك قائلًا: وما لك وصيد الطيور يا فيروز؟

انعقد لساني فاستدركت: إنه … أتسلى به.

قال: كل ما في الأمر أن تنصب فخك والحظ يلعب دوره بعدها.

ذهلت: إذا كان الحظ مجرد الحظ يلعب دوره إذن كيف أمكنك أن تصطاد كل هذه الطيور بهذه المهارة.

قال: صيد الطيور يتطلب الصبر، أن تنصب الفخ منذ الصباح الباكر، وأن تختار الأماكن المهجورة والأحراش، حينئذ ستكون أجواف الطيور خالية، فمن خلال مراقبتي لها عندما أضعها عندي في الأقفاص ليلًا أرى أنها تفرغ أجوافها، وما أن يطلع الفجر حتى تطير باحثة عن غذائها من هوام الأرض، فهي تحب أكل الديدان ومنها العنقوش، ومن ثم عد إليها ظهرًا أو عصرًا وستجد ضالتك غالبًا.

قلت: هل جميع الطيور تصطاد بنفسك بالطريقة نفسها؟

قال: في الأغلب، ولكن هناك طيورًا ماهرة في التقاط الحشرة دون الوقوع في الفخ.

قلت: أيها هذه؟

قال: طائر نسميه الخطاف لسرعته في خطف طعمه.

عندئذ قلت: العقعق؟

قال: طائر نادرًا ما يتم صيده.

هنا اضطرب قلبي، وقلت في نفسي: لماذا يا رباب تختارين أصعب الطيور؟ أهي الصدفة! أم أن الكبير لا يختار إلا ما هو مثله، فالطيور على أشكالها تقع.

 

 

*  مقطع من نص “سوابيط مظلمة” ضمن مجموعة قصصية تحمل نفس الاسم صدرت للكاتب مؤخرًا عن نادي مكة الأدبي ودار الانتشار العربي.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.