حين غفلة
كان يمكث في غرفته لوحده، لا يستقبل اتصالات من أحدٍ، ونادرًا ما ينهض من فراشه، إما لإيجاد شيء ما يأكله، أو من أجل قضاء حاجته. وقد بات مؤخرًا لا يذهب إلى الجامعة، ولا يخرج إلا من أجل زيارة المعالج بالرقية الشرعية القريب من منزله، بتشجيع من أخيه الأكبر؛ الذي كان يبحث عن راحة أخيه، والسبب الآخر هو لشراء بعض الحاجيات الضرورية بالنسبة إليه.
فمنذ أن تزوجت أمه برجلٍ آخر، ولم تلتفت إلى مطالباته وتوسلاته، وهو على هذه الحال، وقد فشل حتى في وضع حد لحياته يوم زفافها؛ إذ أنه ابتلع مجموعة من الأقراص المخدرة أمام أخيه الذي تمكن في الوقت المناسب من إنقاذه. لكن المعالج وحده من استطاع في الفترة الأخيرة تغيير أفكاره السوداوية بأخرى، وذلك عندما يتبادل الحديث معه يوميًا، بغض النظر عن سنه، وفي شتى مناحي الحياة، وقضايا الأمة الهامة، خاصة الراهنة منها وسخطه عليها. حتى أنه حدثه أكثر من مرة عن التغيرات الحاصلة في المجتمع الآن، وعدم رضاه عنها لا سيما تلك التي تحدث تحت مسمى الترفيه، وقد قال له ذات يوم عقب ما توثقت العلاقة فيما بينهم كثيرًا: قد تسير على الطريق الخطأ المؤدي إلى الوجهة الصحيحة. وعندما سأله الطالب عن قصده، أجاب المعالج بصراحة: بدل أن تفكر في الانتحار بسبب زواج أمك التي تنتقم من أبيك، فكر بنفسك على الأقل، وبأن تكون شهيدًا!
وفي أحد الأيام، وقف الطالب في غرفته يبدل ملابسه مديرًا ظهره إلى المرآة، وهو يتمتم، بعدما رجع للتو من عند المعالج: أن الأشياء لا بد أن تسمى صراحة بمسمياتها. كانت حالته مختلفة عن العادة، ولم يكلم أخيه هذه المرة كما كان يفعل حال عودته من عند المعالج، ولم يزعجه بحديثه عن حفلات الأغاني التي تقام حاليًا وسخطه عليها، وعلى باقي برامج الترفيه… وحين انتهى من إغلاق أزرار ثوبه، التفت نحو المرآة، ونظر إلى نفسه، وقد خيل إليه وقتها أن انعكاسه يبتسم ساخرًا منه، فكشر وقال في نفسه: سوف ترى.
تناول حبتي فراولة، كعادته مؤخرًا في كل مرة يعود بها من عند المعالج؛ فهو لا يقوى على الاستغناء عنها منذ أن بدأت ظروفه بالتغير، ودس في جيبه حبتين أخريين احتياطًا، وفي جيبه الآخر دس مفتاحًا وسكينًا قابلة للطي؛ من أجل المهمة التي سيقوم بها اليوم، ثم خرج من مسكنه متسللا بينما بدأ مفعول حبتي الفراولة يسري في رأسه.
لم يكن ينوي توريط أخيه فيما هو مقدم عليه، لكنه لا يعرف كيف يصل إلى مبتغاه، لذا أخرج مفتاح السيارة الذي استله من جيب أخيه، وأدخله في قفل باب السيارة الصغير والذي لم يستخدمه أخيه ربما منذ شراء سيارته، وحين أدار المفتاح، انطلقت فجأة صفارة الأمان من السيارة بصوت مسموع للجميع؛ مما دفعه للهرب بسرعة نحو الشارع الرئيسي. فقد كانت تلك طريقة خاطئة في استخدام المفتاح، لذلك انطلق جهاز الإنذار، وكان من المفترض عليه استخدام “ريموت كنترول” السيارة من أجل فتحها، تجنبًا للإنذار حتى لو أنه يملك المفتاح الصحيح للسيارة.
في الشارع الرئيسي الذي توجه إليه بعد الإنذار، توقف تحت الإضاءة الخافتة يتلفت وهو يلهث مترقبًا المارة، غير أنه لم يمكث طويلا حتى توقفتْ عنده أول سيارة أجرة ظهرتْ له، ثم أقلته باتجاه المعلب الذي أقيمت داخله حلبة للمصارعة الحرة، والمصارعة النسائية على وجه التحديد.
ابتعدت به سيارة الأجرة عن الحي الذي يسكن فيه، وحين أخطره السائق عن الثمن، أومأ الطالب الجالس جواره برأسه، قبل أن يلتفت إلى الوراء بحثًا عن أحد ما يلاحقه وهو يهمس: وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا. وفي تلك اللحظة، طرأت على باله فكرة تسجيل رسالته الأخيرة في مقطع فيديو؛ يشعر به الجميع بما هم غافلين عنه، ويلفت نظرهم إليه. وفي الحال، فتح كاميرا هاتفه، وصوبها نحوه، وراح يسجل رسالته الأخيرة، بينما العرق باديًا على جبينه، كأنه الأفكار التي داخل رأسه وقد تسربت إلى الخارج.
كان يتحدث بصوت أشبه بمن يكلم نفسه، وقال للجميع أنه قد سأم من غفلة المحيطين به، وعدم انتباههم، وأنه قد وقع على عاتقه لفت نظرهم، خاصة في الأيام القليلة الماضية، عندما بدأ يلاحظ حقيقة ما قيل له عن وجود الكثير من الأشياء التي لا تسمى بمسمياتها، بل أنها تدس تحت مسميات مختلفة، آخرها برامج الترفيه التي رعتها الحكومة، وانشغل بها الناس الذين بحاجة إلى أمثاله… ثم راح يكرر نفس حديثه إنما بصيغة مختلفة، وقبل أن يوقف التصوير، عرج على ذكر الشهادة في سبيل الله، لكنه سرعان ما تراجع وحذف مقطع الفيديو، وفكر أنه سوف يعيد تسجيل رسالته الأخيرة حالما يجد نفسه جاهزًا لذلك، وبعد أن يهدأ قليلا، ويكون قادرًا على التركيز أكثر في تناسق الرسالة.
هذا عدا أنه بدأ يتوجس من السائق الذي ما فتئ في هذه الأثناء يرمقه بنظرات لا يدري ما ورائها، هل هو بانتظار الثمن منه، أو أنه من أولئك الذين يشعر بهم دائمًا وهم يراقبونه متنكرين بزي آخر. ولكي يتأكد من ذلك، قال الطالب بعدما أغلق هاتفه:
- الازدحام شديد في الشارع!
هز السائق رأسه علامة أنه لا يجيد اللغة إلا في حدودٍ ضيقة، وحين تبددت قليلا شكوك الطالب، لم يكمل المحادثة، وأطلق زفرة خفيفة وهو يسند رأسه إلى الخلف مغمضًا عينيه، ولم يفتحهما طوال ما تبقى من الطريق.
كانت المرتبة مريحة بالنسبة إليه، وكاد أن يغفو لولا أنه شعر بسرعة السيارة قد بطؤت، وسمع السائق وبطريقته الخاصة به يقول له: لقد وصلنا. حينها، انتصب الطالب، وتلمس السكين في جيبه، وشعر بجزء في داخله في تلك اللحظة لا يود النزول من السيارة.
لكنه لا يستطيع طلب إعادته من حيث أتى والتراجع الآن، فمد يده إلى جيبه وتناول حبة فراولة للمرة الثالثة على غير العادة، بعدها فتح باب السيارة، ونظر إلى السائق الذي توقف به بعيدًا، في موقف لم يكن هنالك سواه، وفجأة فر هاربًا دون أن يدفع الثمن.
اختفى الطالب بين مواقف السيارات الكثيرة، ومن خلفه صيحات السائق العاجز عن ترك سيارته واللحاق به. وحين التقط الطالب أنفاسه وراء إحدى السيارات، تطلع نحو أضواء الملعب، وقبل أن يقطع المسافة الطويلة التي تفصله عن الملعب مشيًا على الأقدام، ابتلع حبة الفراولة الرابعة أيضًا؛ مدركًا مغبة ذلك، ثم راح يجر قدميه، حتى وجد نفسه قبالة بوابة المعلب، وشعور بالارتخاء بدأ يعتري الجزء السفلي من عضلات جسمه.
حاول مقاومة ما كان يشعر به في تلك اللحظة، بالتغاضي عنه، واصطف في طابور الذين لم يستطيعوا الحصول على تذكرة دخول لهم، بينما كان يراقب التواجد الأمني والتفتيش الدقيق جوار البوابة وهو يهمس: وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا. لكنه لم يتقدم، وفكر أنه إذا ما هاجم رجال الأمن الآن فإنهم سيلقون القبض عليه، أو أنهم سيردونه قتيلا بكل هدوء في الحالتين، والمحزن أنه ربما لن يُنشر خبر ما قام به؛ لذلك لن يجازف بتجاوز البوابة والوصول إلى الحلبة، وخطط أن يأتوا هم إليه، وينتظر أفواج الجماهير الخارجة من الملعب، عندها قد تواتيه الفرصة المناسبة للهجوم.
أراحته الخطة التي وضعت على عجلٍ، وانزوى بعيدًا عن البوابة مقرفصًا بينما اصطبغ وجهه الشاحب بالعرق، وبدأ التعب الشديد يظهر عليه. ففي العادة لا تصل جرعته اليومية إلى أربع حبات فراولة، إلا في بعض الحالات النادرة جدًا. وفي آخر مرة زاد بها الجرعة، كاد أن يموت لولا ستر الله. وقد بدت تظهر عليه الآن، ذات الأعراض التي تظهر عليه بين فترة وأخرى، ارتفاع حرارة جسمه، بالإضافة إلى ضيقٍ في تنفسه.
كانت الأعراض تتصاعد حدتها مع مرور الوقت، لدرجة أنه بدأ يفقد الإحساس قليلا بنصف جسده، وأخذ شعوره بالواقع يضؤل تدريجيًا، وانعكس ذلك على ملامحه المتغضنة، فيما استمرت هتافات الجماهير داخل الملعب تصل إليه وهو ما يزال منزويًا في مكانه…
طالت فترة انزوائه في مكانه، وقد شعر أنه ليس على ما يرام، وبدوخة في رأسه، وغشاوة خفيفة في الرؤية. مع ذلك، حاول التحامل على نفسه، والتماسك في هذه اللحظة الحساسة، فهو الآن قريبًا جدًا من الشهادة، ولا يفصله عنها سوى هذا الملعب الذي أقيمت داخله حلبة للمصارعة الحرة.
وبالفعل، فإنه لم يتزحزح عن مكانه إلا حين رأى أفواج الجماهير خارجة سعيدة من الملعب. عندها توجه إليهم وهو يقاسي أعراض الجرعة الزائدة، محاولا الصمود، وما أن اخترق طليعة الجماهير، وبات في وسطهم، حتى قبض على السكين في جيبه، وراح يتأمل ملاحهم متريثًا قليلا بينما كان يشحذ ذهنه من أجل المحافظة على تركيزه، وسط صخب الجماهير، ومفعول الجرعة الذي يدور في جسده.
غير أنه لم يخرج السكين بعد، واستمر قابضًا عليها مطوية داخل جيبه، وقد كان كلما تأخر قليلا عن بدء العملية، ازدادت كثافة التيار المعاكس له من الجماهير، واختنق بتدافعهم أكثر. لكنه تجرأ أخيرًا على إخراج السكين من جيبه، وقبل أن يفتحها ويوجهها إلى أحد الجماهير، تلقى صدمة من أحدهم في كتفه الأيمن، إثر تدافع الجماهير، ثم صدمة أخرى في كتفه الأيسر أيضًا، وتوالت الصدمات من قبل تيار الجماهير المعاكس له، إلى أن بدت له الأشياء بعيدة جدًا، وكأنه ينظر من خلال منظار معكوس، وشعر بثقل في صدره، وما هي سوى لحظة حتى سقط على الأرض فاقدًا للوعي.
ليست هذه المرة الأول التي يفقد بها الوعي بسبب الجرعة الزائدة. إلا أنه في هذه المرة، قد صحا وهو مضطجع على السرير في المستشفى، ومحلول التغذية الوريدية متصل بذراعه، فأبلغه الطبيب وقتها أنه تم نقله بعدما فقد الوعي، وإن حالته تحت السيطرة، وأنه قد أجرى له بعض التحاليل التي أظهرت أمرًا ما بحاجة إلى التيقن منه. ثم قال الطبيب له بعدما تردّد قليلا:
– هل أنت مدمن؟
– ماذا تقصد؟! سأل الطالب بصوتٍ بالكاد خرج من فمه.
– أقصد حبوب الترامادول. أجاب الطبيب مباشرة.
استغرب الطالب، وقال وهو يخفي قلقه وراء ابتسامة باهته:
– إنها مجرد مسكنات رائجة، حتى أنهم يسمونها في الإنترنت حبوب الفراولة.
رد الطبيب ولم يطرأ أي تغير على ملامحه:
– صحيح، لكنه عقار شبه أفيوني، وعند تعاطيه بطريقة خاطئة في مثل حالتك، فإنه يسبب الإدمان وأعراض خطيرة أخرى كالصرع والهلوسة…
أطرق الطالب رأسه أمام الطبيب، وشعر أنه مطالب بتبرير إزاء هذا الطبيب الذي يشبه والده؛ لذلك أطلعه على ظروفه الأسرية التي يمر بها، والتي جعلته يلجأ إلى أحد ما نصحه بتجربة عقار الترامادول قائلا له: لن تغيّر هذه الحبة من واقعكَ شيئًا، لكنها تجعلكَ لا تشعر به.
مد الطبيب يده وربت على كتفه، وتطلع إلى الساعة التي في تلك اللحظة تشير إلى 20:30م، بينما راح يتأكد من نقاط محلول التغذية الوريدية وهي متجهة إلى جسد المريض، ثم صرّح مطمئنًا إياه أن هنالك خطة للتخلص من الإدمان، إنما المهم هو الإرادة والصبر، وطلب منه البقاء هنا لبعض الوقت دون أن يحدد له موعدًا للخروج من المستشفى.
وفي هذه الأثناء، كانت مواقع التواصل الاجتماعي تتناقل خبر تعرض أفواج الجماهير الخارجة من المعلب للطعن بطريقة عشوائية، من قبل شخص شاهد الجميع صورته منشورة في جميع وسائل التواصل الاجتماعي، لكنه مجهول حتى الآن.