سجين اللحظة العابرة
يمضي الزمن وينطوي ولا يستطيع المرء رده إلا عبر ذاكرته القوية، وخياله الخصب؛ الذي يضيف نكهة خاصة، تسم كل امرئ، وتشكل علامة عليه، فالجميع وإن بدَوا متشابهين إلا أنهم في الحقيقة مختلفون؛ إذ لكل واحد حياته وتاريخه وذاكرته.
هذا ما يقاربه الشاعر هادي رسول في كتاب “نداء على حافة الأبدية”؛ حيث يغوص في العميق من الذاكرة كي يستخرج ما فاتها من لحظات، مفعمة ومليئة بالأحاديث بينه وبين الوجود، فينطلق من لحظة الولادة وصولا إلى المراهقة في سرد نثري شاعري مع تطعيمه ومزجه بقصائد، تمجد ذلك الزمن، وتستدعي تفاصيله.
البداية مع شارع الخلد، أو شارع الموتى، المفضي إلى العالم الآخر، حيث تحتشد الأجساد وتصطف لتوديع أحد المتوفين، بانتظار ولادة آخر، فالحياة دوران لا ينتهي من التجدد، وها هو يخرج عن صمته ليصرخ في هذا العالم معلنا وجوده، ورغبته في استقصاء ومعرفة التفاصيل.
يشتركان؛ النثر والشعر، في ترديد “سيرة ذاتية” للوليد هادي، ويختلط الحلم والخيال مع الحقيقة، فالتفاصيل والوقائع تبدو حقيقية في ترتيبها، إلا أنها تمتزج بالتأمل والتعمق في فهم رمزية العادات والتقاليد وكيفية الحياة، وهو ما يضفي على السيرة مزيدا من السحر والجاذبية.
الانطلاق من اللغة والعودة إليها، هي أساس الكتاب، وهي أيضا أساس الخلود الذي يمر من هنا ناحية المقبرة “الخباقة”، بتشابكاته المتعددة وأحزانه وآلامه ومواراة الأجساد، ولا يتوقف عند ذلك، بل يتواصل الألم والحزن لما بعد الموت، بالنسبة للمشايعين والفاقدين.
رحلة بالذاكرة نحو الماضي، ليس البعيد تماما، حيث تحكي قصة فتى أدمن حياة التأمل والنظر والتفكير واجتاحته ظروف صعبة في زمن اعتادت الأمور أن لا تسير على أحسن ما يرام، فالعائلة كبيرة، والجد له أربع زوجات، أما الاب فيغيب شهرا في العمل، ثم يعود أياما قلائل قبل أن يتلاشى من الذاكرة.
لن يتلاشى تماما؛ إذ إن حضور الأب طاغٍ مهما غاب عن النظر، ولذا يُشاهَد الحنين إليه بين الصفحات وتفرد له مساحة من الحكاية، فالسيرة لا تتوقف عند صانعها أو ذكرياته، بل تشمل العائلة والأصدقاء والجيران، بل وبعض الباعة وصانعي “القراقير” من الغرباء.
ثراء أي سيرة بما تقدمه وبما تفضي به من أسرار، وبالنسبة لـ”نداء على حافة الأبدية”، فثراؤها يتركز في اللغة، والتأمل التاريخي التحليلي الذي يفيض على المتلقي، ويجعله يسترجع لحظة ماضية ويعيشها بكامل تفاصيلها، وتفرعاتها، لا سيما حين ترتبط بحادثة مؤثرة كحادثة حرب الخليج الأولى، أو حريق القديح ووفاة ما يربو على 76 امرأة وطفلا.
كم هي الذكريات المؤلمة التي تعيد تشكيلنا وتكويننا لحظة بعد أخرى! إذ يظل المرء رهينا، وسجينا لها، وهو يستعيدها، ويستعيد تفاصيلها، ولا يجرؤ على التقدم في الزمن، وهذا ما يمارسه الكاتب بكل اقتدار، حيث لا تفارقه المرارة ولا يبتعد الدمع عن عينيه، وكأنه يعاود تكرار لحظة سابقة، لا استطاع الهرب منها، أو تجاوزها.
احتفاء بالموت وانشداد إليه واقتراب من العدمية حد التخمة والتمازج بها، فجميع التفاصيل تروي سيرة المأساة في تلك اللحظة الفارقة التي ما فتئت تتكرر وتعود ولا تنتهي، فها هو والده يفجع بوفاة والدته “جدة الكاتب” ويظهر تماسكه وصلابته أمام الحدث الجلل، وما إن يعود إلى ذاته، ويدخل إلى بيته إلا وتراه يبكي بمرارة.
الذكريات هي ما يصنع الإنسان، وإذا فقدها فقد علاقته بإنسانيته، ولهذا نرى الكم الهائل من الأسى يجتاح مفاصل السيرة ويقودها نحو شارع الخلد، حيث البداية والنهاية؛ حيث الشرارة التي انطلق منها وعاد إليها، فالبكاء والتذكر هما نداء الموت، واستدعاء الماضي، وكأن الحياة تتوقف عند لحظة عابرة، ولا تجاوزها.
تتوقف السيرة عند مشارف المراهقة ولا تحكي أي تفاصيل أخرى، وكأن الكاتب أراد إبقاء القارئ معه في لحظته تلك، كي يستعيدها ويتأمل مفاصلها، ولعله يصبح سجينا لها، كما هو حادث معه.