كونية التقليد العلمي الاسلامي في الفلسفة الطبيعية:

مقاربة تاريخية وابيستيمولوجية لتطور الأفكار النظرية.

0 440

حلال إسماعيل-المغرب

لقد شكلت بعض الدراسات التي تنطلق من خلفيات إيديولوجية ( عرقية، …) في تأريخها للفلسفة والعلوم، عائقاً يحول أحياناً دون فهم المنطق الداخلي لتطور الأفكار النظرية؛ ولهذا، يبدو أن المقاربة التاريخية والإبيستمولوجية هي المدخل الأساسي لإعادة النظر في مجموعة من الدراسات المنجزة حول تاريخ الفلسفة والعلوم وخصوصاً في المرحلة الوسيطية. كما أن هذه المقاربة هي المدخل الأساسي أيضاً لقراءة تاريخ الأفكار العلمية والفلسفية قراءة كونية، حيث أن كونية العلم، تستدعي منا التأريخ لمنطق تطور الأفكار بمعزل عن الذوات السيكولوجية، وذلك بتتبع المنطق الداخلي المتحكم في تاريخ الفكر العلمي والفلسفي. بعض الدراسات كما أشرنا سابقاً لم تخرج عن نطاق إيديولوجي أو عرقي في التأريخ للأفكار العلمية والفلسفية. هذا ما نجده مثلا في كتابات ” ارنست رينان” الذي يعتبر أن الفلسفة في العالم الاسلامي هي بمثابة فلسفة إغريقية كتبت بلغة أو خط عربي. من هنا تأتي ضرورة إعادة النظر في التأريخ السائد حول تاريخ الفلسفة والعلوم بشكل عام، والفلسفة الطبيعية الوسيطية بشكل خاص وفق مقاربة تاريخية نسقية وإبيستمولوجية، للوقوف على أهم الإسهامات التي أدت إلى تطور الأنساق والتقاليد العلمية عبر تاريخ الفكر النظري، ” فلابد أن ننظر إلى العلم كنسق متنام من المشكلات، بدلاً من النظر إليه كنسق من المعتقدات”[1]، لأن تاريخ العلم تاريخ واحد لكن بجغرافية متعددة. ينبغي، إذاً، تتبع الأسس التي ينبني عليها العلم في مبادئه ومنطقه وقيمه، كما ينبغي أيضاً أن نميز بين منطق النظر ومنطق العمل، فالمنطق الأول هو السبب والمحرك الداخلي لتطور الأفكار العلمية والفلسفية، أما المنطق الثاني غالباً ما يرتبط بالمنفعة. هذه العناصر تتداخل كلها وتساهم في تطور المعرفة العلمية، غير أن المحرك الأساسي لتطور الأنساق والتقاليد العلمية، هو الإشكالات النظرية – مثلا إشكال الحركة؛ التي على تتأسس تصورات جديدة، ولهذا،” فإن رد نشأة العلم الحديث إلى تغير العلاقات الاقتصادية وحدها أو إلى ازدهار الفنون وحده أو إلى الدين المسيحي وحده، لن يقدم تفسيرا لهذه النشأة. إذ يحاول الفهم السليم تحليل الترابطات المفهومية فيما بين العلوم نفسها، وفي علاقتها مع المستجدات الفكرية والاجتماعية في شموليتها. فالفكر العلمي لا يتطور طبقا لما تحدده عقيدة ما، لأن له مجالاً مستقلاً نسبياً لفحص الفرضيات واختبارها، بأدوات القياس والحساب والتجريب”[2]، من هنا، فالعلم لا يرتبط بعرق أو حضارة أخرى، بل العلم يتطور كلما توفرت له الشروط النظرية، إضافة إلى بعض العوامل -نقصد بها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية -التي قد تساهم وتسرع أحياناً في تقدم وتطور العلم أو العكس في بعض الأحيان. إن الإشكالات النظرية – العلمية والفلسفية-هي السبب والمحرك الأساسي لتطور التقاليد والأنساق العلمية، وهذا ما تعززه المقاربة التاريخية والإبيستمولوجية، فالعلم الحديث هو نتيجة اشتغال وتراكم لإشكالات وتصورات نظرية بدءاً بالمنظومة الفكرية الإغريقية والوسيطية ثم عصر النهضة وصولاً إلى العصر الحديث. مثلاً، لا يمكن ربط علم الفلك بكوبرنيك وحده. مع كوبرنيك حدثت فعلاً ثورة علمية فلكية ” هي بمثابة ثورة فكرية أدت إلى تغير تصور الإنسان للكون وعلاقته الخاصة لهذا الكون”[3]، كما أن هذه الثورة الفلكية ستكون لها تداعيات عميقة على مجالات أخر(فلسفية، ثقافية…)، لكن، لفهم هذه الثورة العلمية- الفلكية- لابد من تتبع  أسسها وشروطها عبر تاريخ الفكر النظري، بدءاً من أرسطو وبطليموس ثم مرصد مراغة وصولا إلى اسهامات عصر النهضة. ” كل جيل من العلماء يستفيدون من خبرة الجيل السابق، حيث ينطلق اللاحق من المستوى الذي وصل إليه السابق في بلورة المسائل العلمية، لذا يسير اللاحق في طريق معبدة، يجد مفاهيم ناضجة نسبياً، وأدوات مهيئة للاختبار، بل يجد مشاريع مختمرة في ذهن السابق، لإجراء تجارب معينة”[4]. هذا الأمر ينطبق على مجموعة من الحقول المعرفية والتقاليد العلمية سواء في مجال علم الفلك أو البصريات، كنماذج، ” فابن الهيثم مثلا وجد تقليداً للبحث في البصريات، سار فيه ابن سهل وأغناه، وابن سهل قبله سار في نفس التقليد الذي أغناه الكندي وثابت بن قرة، وهذان ورثا التقليد عن السابقين من علماء البصريات والهندسة أمثال أقليدس وبطليموس وغيرهما. إذن، يتم البحث العلمي دائماً في أحضان تقليد للبحث، ذي جذور تاريخية غنية، على إثر النقد الداخلي للمفاهيم والتصورات، ومراجعة المبادئ ما أمكن”[5]. فالنقد الداخلي للتصورات العلمية يساهم في الانتقال من تقليد علمي إلى اخر، أو من نظرية إلى أخرى، وهذا ما يؤدي إلى بروز إشكالات وتصورات جديدة تساهم في تطور الفكر العلمي والفلسفي، لأن ” الإطاحة بنظرية ما تخلق دائما مشكلات جديدة، ولكن حتى النظرية الجديدة التي لم يتم بعد الإطاحة بها سوف تخلق مشكلات جديدة”[6]. ولذلك، فإن الإشكالات العلمية كما أشرنا سابقاً، هي السبب والمحرك الداخلي الرئيسي لتطور الأفكار العلمية والفلسفية عبر تاريخ الفكر النظري، ويتم من خلال تتبعها الإقرار بمدى كونية العلم. وهذا ما يتضح من خلال التطور الذي عرفته مجموعة من العلوم “ومن أجل رصد مسيرة النمو العلمي يأخذ التأريخ المعاصر للعلوم صورة تاريخ إبيستيمولوجي أو إبيستيمولوجيا تاريخية تهدف إلى تحليل البنيات المفاهيمية والمادية التي تمثل حركية العلم في فترات تاريخية طويلة، وذلك بقصد الإحاطة بالتغيرات البنيوية التي تحدث في المنظومات المعرفية. ولتحديد العناصر الذاتية لكل تقليد ورصد ما يميزه عن التقاليد الأخرى يرتكز برنامج الإبيستيمولوجيا التاريخية من الناحية الإجرائية على منهجية مقارنة توضح الفروق والتباينات بين التقاليد العلمية. في المقابل، يؤدي الاقتصار على فحص محدود لعلم ما في مدة زمنية قصيرة إلى إصدار أحكام مغلوطة. وهذا ما يحدث في عدد من الدراسات العربية في ميدان تاريخ العلوم الاسلامية، عندما لا يجشم الدارس نفسه عناء الاطلاع على التقاليد العلمية الأخرى، فيصدر أحكاما غريبة ومثيرة للجدل لا يبررها إلا شعوره بالكفاية الفكرية، والتي تنبئ في الحقيقة عن جهل مطبق بمقتضيات البحث التاريخي”[7]. اسهامات ابن سينا  وابن باجة في تطور الأفكار العلمية والفلسفية:

العلم لا يرتبط بعرق أو حضارة أخرى، بل العلم يتطور كلما توفرت له الشروط النظرية

يتضح جلياً من خلال كتب ابن سينا “كتاب الشفا” وابن باجة “شرح السماع الطبيعي لأرسطوطاليس” اسهاماتهما في مجال الفلسفة الطبيعية على النقد الداخلي لتصورات أرسطو، وخصوصاً تصوره في الحركة، إضاقة إلى تصوراته في السرعة وعلاقة حركة الأجسام بالوسط. فكتاب ” الطبيعة” لأرسطو هو بمثابة مرجع ومصدر أساسي لمجموعة من التصورات والقضايا العلمية التي تأسست عليها الفلسفة الطبيعية، لأن، أفكاره وتصوراته ستكون موضوعا للدراسة والشروحات خلال المرحلة الوسيطية وخصوصاً في العالم الاسلامي، وكذلك في عصر النهضة مع مدرسة باريس ومدرسة أكسفورد وصولا إلى العصر الحديث مع غاليلي.

ولقد تضمنت فيزياء أرسطو مجموعة من الإشكالات، والإشكال الأساسي الذي شكل نقطة الانطلاق والتأسيس لتصوراته في مجال الفلسفة الطبيعية، هو الإشكال الاتي: ما الذي يجعل الجسم يستمر في حركته بعد انفصاله عن اليد القاذفة؟

ومن أهم القضايا والتصورات التي تمخضت عن هذا الإشكال، يمكن الإشارة إلى بعضها في هذا السياق بشكل مختصر:

  • يعتبر أن الجسم يحن إلى أصله ووضعه الطبيعي، وكلما اقترب منه تزداد سرعته. إذ، يرى أرسطو أن ” القذائف تتحرك عندما يكون الجسم الذي دفعها قد فارقها ويكون ذلك ناتجاً إما من قبل الدفع على التعاقب والمبادلة، وإما من قبل اندفاع الهواء بأسرع تحرك من الحركة الطبيعية للقذيفة نحو موضعها الخاص بها، إلا أنه في الفراغ ليس ولا واحد من هذين الفعلين يمكن أن يكون إجرائيا”[8].
  • فسر حركة الأجسام تفسيراً إحيائياً، بقوله إن الجسم يحن (يشتاق) إلى وضعه الطبيعي (التفسير الإحيائي).
  • رفض أرسطو للفراغ أو الخلاء. حيث، عبر عن رفضه لهذا المفهوم نظراً لكونه يعبر عن فضاء خال من المادة، مما يجعل الحركة فيه مسألة متعذرة، لأنه لا نستطيع أن نميز فيه بين الاتجاهات الستة، لهذا رفض هذا المعطى الجديد سواء في العالم أو داخل الأجسام، إنه ليس ضرورياً لقيام الحركة كما قد يتخيل بل الفراغ يفقد الأشياء ميلها الطبيعي الذي يمكنه من أن تتنقل إلى فوق إذا كانت خفيفة، وإلى تحت إذا كانت ثقيلة. وعلى مستوى “النقلة الطبيعية إما ألا يكون أي اتجاه لها إلى أي جهة من الجهات، وإما أن يكون افتراض الخلاء كشرط للحركة مجرد وهم”[9].
  • للوسط – الهواء-دور أساسي في استمرار حركة الأجسام، “إذ، لا شيء يمكن أن يستمر في حركته ما لم يكن محمولا”.

ولقد شكلت هذه القضايا والإشكالات السابقة، موضوعاً للدراسة ولمجموعة من الشروحات والتنقيحات والانتقادات خلال العصر الوسيط، وخصوصا في العالم الاسلامي مع ابن سينا وابن باجة إضافة إلى أبو البركات البغدادي، حيث أن اسهاماتهم ستشكل حلقة علمية أساسية في تاريخ الفكر النظري بشكل عام وتاريخ الفلسفة الطبيعية بشكل خاص، وبمثابة أرضية للتطور الذي عرفته الأفكار النظرية ابتداء من عصر النهضة وصولا إلى العصر الوسيط،  لأن، ” الخطأ الذي يرتكبه مؤرخو الفلسفة المسلمون والغربيون على السواء هو أن هؤلاء يعتبرون تاريخ الفلسفة تاريخاً للفلسفة الغربية، لذلك يعرضون الفلسفة الاسلامية بصورة عرضية، وفي ارتباط مع الفلسفة المسيحية في القرنين الثاني والثالث عشر، وليس في التاريخ الممتد من القرن التاسع إلى القرن الثاني عشر، أي الفترة التي نشطت فيها. كما أن المؤرخين المسلمين من جهتهم يقعون في نفس الهفوات حينما يتوقفون في تأريخهم عند الحقبة الاسلامية ولا يتعقبون مال اجتهادات الفلاسفة المسلمين في الغرب، على اعتبار أن القديس طوماس الأكويني الذي بلور أول فلسفة منسجمة مع المسيحية – وليس فلسفة مسيحية-وأسهم في وضع اللمسات الأخيرة على المنظومة المشائية، لم ينطلق من أرسطو الصرف وإنما من أرسطو السينوي والرشدي، أي من الفلسفة المشائية في الصورة التي انتهت إليها مع ابن رشد. فهؤلاء جميعاً شاركوا في بناء أول ” براديغم” عرفته البشرية. وفيما يخص منظومة الذات التي حلت محل المنظومة المشائية، ألا تضرب بجذورها في التاريخ، وتمتد على الأقل إلى نصوص ” حي بن يقظان” بمختلف رواياتها، مروراً بنص ” تدبير المتوحد” الباجي. لكل هذه الاعتبارات، ننادي بقراءة كونية وشمولية لتاريخ الفلسفة دون تمييز ديني أو حضاري بين الفلاسفة الذين صنعوا هذا التاريخ”[10] وضرورة إعادة قراءة التاريخ قراءةً إبيستمولوجية نسقية من أجل توضيح مدى كونية تاريخ الإسهامات التي قدمها بعض الفلاسفة في العالم الاسلامي وخصوصا في مجال الفلسفة الطبيعية.

بخصوص اسهامات ابن سينا، يعد الشيخ الرئيس من أهم الفلاسفة في العصر الوسيط الذين ساهموا بشكل كبير في مجال الطبيعيات (العلم الطبيعي)، ويتضح ذلك، من خلال بنائه لتصوراته في العلم الطبيعي، حيث تبنى منهجية نقدية تجاه الفلسفة المشائية الأرسطية، وتحديداً بعض تصورات أرسطو الفيزيائية المتعلقة سبب استمرار حركة الأجسام الطبيعية وعلاقتها بالوسط، وستنتقل هذه التصورات والأفكار إلى أوربا بعد ترجمة بعض كتب ابن سينا من اللغة العربية إلى اللغة اللاتينية.

لذلك، فإن مجموعة من التصورات التي تضمنتها فلسفة ابن سينا، ستساهم في التطور الذي عرفته الفلسفة الطبيعية خلال المرحلة الوسيطية وصولا إلى عصر النهضة، مما يعني، أن التصور الذي ستعرفه الفيزياء والكوسمولوجيا (علم الكونيات) خلال العصر الحديث، هو تطور يجد أسسه في الاسهامات النظرية الوسيطية والسكولائية (المدرسية/المكتبية). “لأن الآراء والتصورات العلمية للعصر الوسيط وعصر النهضة ستساهم في التطور الذي عرفته الكوسمولوجيا”[11]. من هنا، فإن العلم بلغة طوماس كون يخضع لمجموعة من الانقلابات التي تساهم في الانتقال من تقليد علمي إلى اخر، لأن الانقلابات العلمية هي بمثابة حلقات تراكمية لمجموعة من الإشكالات التي تؤدي بشكل كلي أو جزئي إلى الإطاحة بالبارادايم القائم وإحلال اخر، جديد متعارض معه، محله. وهذا الأمر ينطبق على التطور الذي عرفته الفلسفة الطبيعية بدءاً بأرسطو مروراً بالإسهامات الوسيطية مع ابن سينا وابن باجة، إضافة الإسهامات السكولائية الفيزيائية وصولاً إلى العصر الحديث. هذا الأمر يعزز كونية العلم بشكل عام، وأهمية الاسهامات العلمية الوسيطية في مجال الفلسفة الطبيعية وخصوصاً اسهامات ابن سينا وابن باجة في التقعيد للمعالم الأولى للمعالم الأولى للفيزياء اللاأرسطية، لأن كل تقليد علمي يتأسس انطلاقا من تنقيح بعض الثغرات التي تتضمنها التقاليد العلمية السابقة والعمل على تطويرها. وهكذا تتطور النظريات العلمية من تقليد علمي إلى اخر، وهذا يعني “أن أغلب الاختلافات الظاهرة بين النظرية العلمية القديمة والنظرية العلمية التي تعقبها هي اختلافات واقعية وحقيقية لأنها تعكس الفروق القائمة بين البارادايمات (النماذج الفكرية) المتعاقبة، والتي هي في جميع الأحوال متعارضة يقوم الجديد منها على أنقاض القديم، مما يجعل التوفيق بينها متعذراً: أنها تلقننا أشياء مختلفة ومتباينة بخصوص الظواهر. فالباراديمات لا تختلف بمضمونها، فحسب، باعتبار أن وجهتها ليست صوب الطبيعة فحسب، بل إنها أيضا وعلى النقيض، صوب العلم الذي أفرزها. وهي أيضاً تعيّن المناهج وطرق البحث، كما تحدد مستويات الحل التي تناسب، في فترة ما من الفترات، مشكلات علمية معينة في ميادين بلغت النضج. لذا، فإن قيام بارادايم جديد يتطلب، في أغلب الأحوال، إعادة بناء المعنى وإعادة ترتيب أوراقه ومشكلاته فيتغيّر تبعاً لذلك مستوى أجوبته وكذا معيار العلمية: أي تحدث هزة انقلابية عنيفة في التقليد العلمي السوي تترك اثارها القوية الناجمة عن إزاحة بارادايم والإطاحة به”[12]. ولذلك، فإن الانتقال من تقليد علمي إلى آخر تُحرّكه الإشكالات النظرية التي تساهم في تطور التقاليد والأنساق العلمية. والتقليد العلمي الوسيطي في الفلسفة الطبيعية وخصوصاً في العالم الإسلامي، يمثل حلقة مفصلية في تاريخ الفكر العلمي، لأنه يربط بين التقليد العلمي الإغريقي وتحديداً الأرسطي والتقليد العلمي السكولائي في عصر النهضة وصولاً إلى العصر الحديث مع غاليلي. لأن التصورات الأرسطية في الفلسفة الطبيعية تضمنت مجموعة من الثغرات والإشكالات، التي ستكون موضوعا للدراسة والنقد والتنقيح والشروحات خلال العصر الوسيط من طرف ابن سينا وابن باجة، وبعد عملية الترجمة من العربية إلى اللاتينية، ستنتقل مجموعة من التصورات العلمية – تصورات ابن سينا وابن باجة وابن رشد..- إلى أوروبا خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر، حيث ستساهم هذه التصورات بعد استيعابها وتمحيصها في إغناء النقاش العلمي والفلسفي خلال عصر النهضة وخصوصاً مع مدرسة باريس. فأفكار ابن باجة* مثلا ساهمت في التطور الذي عرفته الفيزياء الحديثة من خلال الشروحات التي قدمها حول كتاب ” السماع الطبيعي” لأرسطو، ففلسفة ابن باجة تضمنت في ثناياها معالم التفسير السببي للطبيعية” من خلال بحثه عن المبادئ المفسرة لمجموعة من الظواهر في العالم”[13]. كما أن الأهمية النظرية لإسهامات ابن باجة بشكل عام تتجلى أساساً في المنهجية النقدية التي أسس عليها تصوراته وشروحاته، وخصوصاً من خلال نقده لقانون أرسطو في الحركة ونقده لشراح أرسطو، مما جعل اسهاماته العلمية حلقة نظرية أساسية في تاريخ الفلسفة الطبيعية.

إذا كانت تصورات أرسطو الفيزيائية عمرت ردحاً كبيراً من الزمان إلى حدود القرن السابع عشر، فإن الاسهامات التي قدمها مجموعة من الفلاسفة في العصر الوسيط وخصوصاً في العالم الاسلامي، كشفت عن بعض الهفوات والثغرات التي تضمنتها فيزياء أرسطو، وخصوصا في تصوره لإشكال الحركة باعتباره موضوعا أساسيا للفيزياء. إذ، كما نعلم فقد صنف المعلم الأول الحركة إلى حركة طبيعية وأخرى قسرية، مؤدى هذه الأخيرة أن كل ما يتحرك من الأشياء الجامدة، فهو مدفوع بقوة خارجية ملامسة له، ففي حالة الحركة القسرية يجب على الجسم المحرِّك أن يظل ملامسا للجسم المتحرك ومصاحباً له ليمنعه من العودة إلى مكانه الطبيعي، فإذا رمى الإنسان بحجر (حركة قسرية) يجب على اليد أن تظل ملامسة له تمنعه من السقوط. لكن الواقع يكذب هذا القول، لأن الجسم يظل متحركاً رغم انفصاله عن الجسم المحرك له، إلى أن يسقط بعيداً، فما يجعله يستمر في حركته؟ يجيب أرسطو عن هذا الإشكال بكون الهواء عنصر أساسي يحمل الجسم ويساعده في حركته. وكانت هذه من بين الثغرات التي تضمنها التقليد العلمي الفيزيائي الأرسطي، والتي ستكون موضوعا للنقد والتنقيح من طرف جون فيلوبونيس ثم ابن سينا وابن باجة إضافة فلاسفة مدرسة باريس – جون بيريدان ونيكولا أوريسم-وصولاً إلى غاليلي.

المراجع:

[1]  كارل بوبر، أسطورة الإطار: في دفاع عن العلم والعقلانية، تحرير، مارك أ. نوترنو، ترجمة، يمنى طريف الخولي، عالم المعرفة، العدد 292 أبريل/ ماي 2003، ص.133.

[2]  بناصر البعزاتي، الاستدلال والبناء: بحث في خصائص العقلية العلمية، المركز الثقافي العربي، دار الأمان- الرباط، الطبعة الأولى 1999.

 ص.128.

[3] Thomas Kuhn, La Révolution copernicienne, traduit de L’anglais par Avram Hayly, Fayard 1973, p.9.

[4]  بناصر البعزاتي، الاستدلال والبناء: بحث في خصائص العقلية العلمية، المركز الثقافي العربي، دار الأمان- الرباط، الطبعة الأولى 1999.

ص. 134

[5]  المرجع نفسه، ص. 134.

[6]  كارل بوبر، أسطورة الإطار: في دفاع عن العلم والعقلانية، تحرير، مارك أ. نوترنو، ترجمة، يمنى طريف الخولي، عالم المعرفة، العدد 292 أبريل/ ماي 2003، ص.132.

[7]  محمد أبطوي، ” من علم الحيل إلى علم الأثقال : ولادة ثانية للميكانيكا”، عنوان العدد: مفهوم التقدم في العلم، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط، سلسلة: ندوات ومناظرات 112 ، تنسيق سالم يفوت، الطبعة الأولى 2004، ص.91.

[8]  أرسطو، السماع الطبيعي، ترجمة، عبد القادر قنيني، أفريقيا الشرق 1998، ص.124.

[9]  المصدر نفسه، ص.124.

[10]  عبد المجيد باعكريم، ” العنف في تاريخ الفكر النظري: إشكالية العقل والإيمان نموذجا”  مجلة وليلي، دفاتر المدرسة العليا للأساتذة مكناس، عنوان العدد، العنف مقاربات فلسفية،  العدد14، أبريل 2009، ص .94.

[11] Thomas Kuhn, La Révolution copernicienne, traduit de L’anglais par Avram Hayly, Fayard 1973, p.106.

[12]  بناصر البعزاتي، ” فكرة التقدم في العلم وجهة نظر “كون”، عنوان العدد: مفهوم التقدم في العلم، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط، سلسلة: ندوات ومناظرات 112 ، تنسيق سالم يفوت، الطبعة الأولى 2004، ص.24.

* “Même si Avempace garde, par ailleurs, et par la force du paradigme, la phraséologie aristotélicienne, mouvement naturel- mouvement violent, il n’en pas moins l’initiateur d’un processus qui finira par effacer, à terme cette dualité. En effet , le fait de considérer comme  naturel, le mouvement qui se déroulerait  en l’absence de toute résistance, autrement dit dans le vide, cela signifie que le mouvement réel est un mouvement non- naturel c’est- à- dire, un mouvement forcé, attendu que le monde est plenum .

Ce faisant, Avempace cherchait les principes explicatifs des phénomènes du monde actuel, dans un monde potentiel, idéal et imaginaire ; une sorte de monde-laboratoire, ou les faits sont isolés par le pouvoir de la pensée, et les lois révélées par la force du raisonnement. Or, c’est cette approche qui aboutira au XVII ème siècle à une conception de la matière dépouillée de toute efficace et livrée à sa pure inertie, fondement de la science moderne.(

[13] Abdelmajid Baakrime, ” Du monde divisé à l’univers réunifié : contribution à une histoire différentielle des sciences ”  Les éléments paradigmatiques thématiques et stylistiques dans la pensée scientifique, Université Mohammed V publications de la faculté des Lettres et des Sciences humaines-Rabat, Serie : colloques et seminaires N 116 ,p. 58.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.