مؤتمر الموسيقى العربية في القاهرة وإبعاده التاريخية

ورشة فن - موسيقى

0 1٬462

زياد هادي – العراق

تحت رعاية الملك فؤاد الأول، ملك مصر آنذاك، وقبل سبعة وثمانين عاماً، عُقد في القاهرة أول مؤتمر دولي للموسيقى العربية. كانت فكرة هذا المؤتمر تقوم على الحفاظ على الموروث الموسيقي العربي، لكنها انتهت بتجديد الموسيقى العربية.  شهدت القاهرة أكبر احتفالية موسيقية في تاريخها، اجتمع فيها حشدٌ من الموسيقيين والنقاد ومؤرخي الموسيقى من جميع أنحاء العالم العربي، ومن تركيا وإيران وأوروبا، للمرة الأولى للوقوف على تفاصيل الموسيقى العربية؛ إضافة الى تبادل الخبرات في حوار جاد بين الثقافات. هذا الحضور الكبير ضمَّ شخصيات موسيقية عالمية مهمة مثل: بيلا بارتوك، باول هيندميث، هنري رابو، إريك موريتز فون هورنبوستل، رودولف درلانجيه، روبرت لاخمان وكورت ساكس، وبوجود عددٍ من المستشرقين مثل هنري جورج فارمر وألكسيس شوتين؛ وكوكبة من الموسيقيين العرب يتقدمهم (المصري) محمد عبد الوهاب، و(الحلبي) سامي الشوا، و(العراقي) محمد القبانجي؛ وقد حلّ بعض الشعراء ضيوفاً على المؤتمر. شاركت أيضاً فرق موسيقية عربية معروفة متخصصة بالموسيقى التراثية من سوريا والعراق ولبنان ومصر وكذلك من المغرب وتونس. في هذا المؤتمر، تمت مناقشة الموضوع الرئيس المتعلق بضرورة “تنويط” الموسيقى العربية. ففي بداية القرن الماضي كان ينظر إلى هذا الموضوع بالنسبة للموسيقى العربية وفق ناحيتين. الناحية الأولى تتبنى الرأي السائد القائل بأن الموسيقى العربية تفتقد لقاعدة نظرية. الناحية الثانية أنه رغم اختراع الفيلسوف والطبيب وعالم الموسيقى الكندي في القرن التاسع النوتة، وكانت هناك نظريات موسيقية متطورة، فإن العرب لم تستطع على مدى القرون التالية تدوين الموسيقى كما في أوربا، ولم يتم تطوير نظرية أساسية عامة للموسيقى. في مقابل ذلك الرأي القائل أن للموسيقى العربية ميزة ألا وهي حب الارتجال؛ لذلك من الصعب (تنويطها). فكل موسيقي يعزف نفس القطعة بشكل مختلف، ولا يتقيد بالصيغة الموضوعة للقطعة الموسيقية. وعليه كان العديد من المشاركين الأوروبيين غير متحمسين (للتنويط) خشية أن تفقد الموسيقى العربية بذلك أصولها.

في المؤتمر نوقشت، أيضاً، موضوعة إدخال الآلات غربية إلى الموسيقى العربية. أثار هذا الموضوع الجدل الكثير، لأن البعض اعتبر ذلك تغييرا للسلم الموسيقي. كما حظي هذا التوجه الجديد بمؤيدين متحمسين رأوا فيه فرصة لتجديد الموسيقى العربية من حيث تحقيق المزيد من “الهارموني” (الانسجام)، وتعدد الأصوات بولفونية، إضافة إلى توسيع الأوركسترا. من هنا، برزت فئة عارضت هذا المنحى؛ خشية فقدان هوية الموسيقى العربية. برر أنصار هذا الرأي موقفهم هذا بالقول: “إن الآلات الغربية لا تصلح للموسيقى العربية المتميزة باستخدام (ربع الصوت) في سلمها الموسيقي”. مع مرور الوقت، ثبت أن مزج هذه الآلات في فرقة واحدة كان ممكناً؛ بل تمكن أحد الموسيقيين من صنع بيانو خاصاً، يستطيع عزف ربع الصوت أيضاً.

وقد مهّد المؤتمر، أيضاً، الطريق لنشوء علم الموسيقى العربية. وقد تم تحديد مصطلح “الموسيقى العربية” من جديد، بعدما كان سابقاً جزءاً من مصطلح جماعي هو (الموسيقى الشرقية)، الذي كان يضم أيضا الموسيقى التركية والفارسية والهندية والصينية. وقد تبين في المؤتمر، ولأول مرة بشكل واضح، وجود تقاليد موسيقية مختلفة، لدرجةٍ أبدى بعض الموسيقيين العرب استياءهم حين شاهدوا الاختلافات الموسيقية الهائلة التي تفصلهم عن بعضهم البعض. على سبيل المثال، موازين الموسيقى العربية في المشرق العربي مختلفة تماماً عن الموازين المستخدمة في المغرب العربي، القريبة من النظام الزمني الأوربي. وعلى العكس من الموسيقى العربية في المغرب، تستخدم الموسيقى في كل من سوريا ومصر والعراق- وبشكل طبيعي – ربع الصوت.

 إضافة إلى ما سبق، تنبع أهمية هذا المؤتمر القيم؛ ليس فقط كونه أول مؤتمر موسيقى عربي، ومنذ انعقاده في العام 1932، إلى اليوم؛ بل أيضاً باعتباره من أهم المحطات في تطور التاريخ الحديث للموسيقى العربية، حيث شهدت الموسيقى العربية في القاهرة نوعاً من ولادة جديدة من خلال المشاركين من الأوربيين باهتمامهم الخاص بالموسيقى العربية. فبارتوك ولاخمان كانا يعيشان في ذلك الوقت في تونس، وكان إريش موريس فون هورنبوستل من هواة جمع الآلات الموسيقية العربية التقليدية، ودرس ساكس الموسيقى العربية بكل أشكالها؛ مما استدعي من قبل الفنانين الكبار من الاستفادة، والاستعانة بالفنانين المستشرقين في ابتكار فكرة هذا المؤتمر، من عالم الموسيقى المصري أحمد محمود الحفني الذي عاد للتو من الدراسة في برلين. كان أول عربي يدرس علوم الموسيقى، حيثُ بدأ عمله في القاهرة مفتشا للموسيقى، ومسؤول عن التعليم الموسيقي في وزارة الثقافة في مصر. من خلال تجربته في ألمانيا، رأى أحمد الحفني بوضوح ندرة الأبحاث في الموسيقى العربية؛ فأراد تجديدها لتتواصل مع الموسيقى الأوروبية دون المساس بسماتها الأساسية. ومن هنا كان لبعض الأوساط الموسيقية العربية المنفتحة اهتمامات بالأفكار والآلات الموسيقية الجديدة، وكذلك بالتقنيات التلحينية الحديثة. وكانوا ينتظرون الفرصة المناسبة للتجديد.

لكن يبقى السؤال هو لماذا لم يتم، لحد الآن، عقد مؤتمر للموسيقى العربية تحدد فيه الأصول التاريخية للمقامات العربية الرئيسية منها والفرعية التي قد تصل الى (350) مقاماً.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.