بين تشارلز سيميك والجابري

0 182

تقديم وترجمة: عبود الجابري – العراق

قد يبدو الموت خبراً مألوفاً لعامة الناس، لكنّ فجيعة الشعر تكمن في موت الشعراء، لا سيما من هم بمنزلة سيميك، أولى ترجماتي له كانت عام 2012، وبعد ذلك تواصلت قراءتي له وتواصلي الخجول معه، لذلك سأحتفي بذكراه هنا، عبر نشر مجموعة من النصوص التي ترجمتها في أوقات متفاوتة.

أحبُّ سيميك لأسبابٍ ذاتية تجعلني قريباً من نصوصه الشعرية، وتلك الأسباب هي ذاتها التي قادته الى أن يكون شعره وليد التجارب التي عاشها أو مرت عليه، بدءاً من هجرته صحبة والدته الى أمريكا، وذلك يعني فضاءً لغوياً جديداً عليه أن يغامر في السباحة أو السياحة في أمواجه، مغترباً عن لغة مسقط رأسه، الأمر الثاني هو الانخراط في الخدمة العسكرية في الجيش الأمريكي شابّاً، وهو نوع من الإكراه القسري الذي تفرضه قوانين الخدمة الإلزامية، وما يصاحب هذه الخدمة بالنسبة لمهاجر، من صراعات نفسية بين الولاء للوطن الأم والوطن الحاضنة، والصمت الاجباري الذي قد يكون من هو بمثل سيميك عانى منه تبعاً لوعيه المبكر وشاعريته المبكرة، كذلك أجدُ فيما عاناهُ سيميك من عسر في الحياة وفقدان سكينة معيشة جعله يتنقل بين مهنٍ كثيرة لتأمين قوت أيامه، أجد فيه عاملاً آخر أسهم في تنوّع مواضيع قصيدته، الأمر الذي جعل بعض النقاد يصنفون بعض قصائده ضمن الشعر اليومي الذي يلتقط التفاصيل الصغيرة ويشعل في اهابها روح الشعر، لكنَّها روح سيميك التي لا يمكن سبر أغوار لغتها بالسهولة التي تمتاز بها القصيدة اليومية، فهو أستاذ لغة، ويمكنني الاعتراف كذلك أنَّ ما قادني لمحبّة سيميك بشكل أعمق هو بعدُ قصائده عن الحشو اللغوي الذي تمتاز به بعض قصائد من جايلوه من الشعراء، ربّما لميل شخصي الى القصيدة التي تحملُ معاني مضلّلةً تصلح لتأويلات متعددة بعيداً عن سمة التطويل الذي يأخذك في رحلة متعبة لامعنى لها، من أجل الوصول الى قلب المعنى، وفي النهاية أجدني مشدوداً اليه شاعراً كبيراً يعمل بدون صخب أو ضجيج، بيدَ أن قصيدته تمضي بعيداً لتوقظ الغافلين عن الجمال …إنَّه انتصار المرء حين تكون حياته دافعاً لرسم صورة أخرى لحياته عبر النأي بذاته عن الادّعاء ،،

عيون مثبتة بدبابيس

كيف يعمل الموت..؟

لا أحدَ يعلم

في أيِّ يوم طويل سيحطّ رحاله

الزوجةُ الوحيدة دائماً

تكوي غسيلَ الموت

البناتُ الجميلات

يقمن بأعداد طاولة عشاء الموت

الجيرانُ يلعبون الورقَ في الفِناء الخلفي

أو يكتفون بالجلوس على العتبات

ليحتسوا البيرة

وفي غضون ذلك

وفي جزءٍ غريب من المدينة

يبحث الموتُ عن أحدٍ يسعل بشكلٍ رديءٍ.

غير أن العنوانَ مضلّلٌ نوعاً ما

وحتى الموت لم يستطع الاهتداء إليه

بين تلك الأبواب المقفلة جميعها

وحيث يشرع المطر بالهطول

في ليلةٍ عاصفة

هكذا

يموتُ بدون حتى جريدة تغطي رأسه

ودونما قطعة نقدية تمكنه بالاتصّال بمن يغيثه

متثاقلاً يتعرّى على مهله

ويوثقُ عارياً إلى جهة الموت في السرير

ضـــد الشتـــاء

الحقيقة داكنة تحت جفنيك

فماذا ستفعل بشأنها..؟

الطيور صامتةُ

وما من أحد تسأله

ستمضي طيلة النهار محدّقا بالسماء الرمادية

وحين تعولُ الريح

سترتجف مثل قشة

وسينمو لك صوف، مثل حملٍ ذليل

منتظرا أن يطاردوك بمجزّاتهم الهائلة

الذباب يحوم حول فمٍ مفتوحٍ

وما يلبث أن يهوي

كما الأوراق

تتبعها الأغصان العارية

بغير جدوى

الشتاءُ.. يحلّ

مثل بطلٍ أسطوري في جيش مهزوم

بينما تظلّ في مكانك

كاشفا رأسك لنديف الثلج الأول

لحين وصول جارك

الذي يصرخ بك

أنت أكثر جنوناً من الطقس .. يا شارلي

يوم عاصف

زوج ٌمن الملابس الداخلية

أحدهما أبيض والآخر وردي

يطيران صعوداً ونزولاً على حبل الغسيل

يخبران العالم كلّه

أنّهما يحبّان بعضهما بجنون

ثلج

لا شيء أكثر هدوءًا

من تساقط الثلج بهدوء

ندفةٌ تدلّل أختها

كي تتأكَّد

أنّها لن توقظ أحداً

شوكة

لا بدَّ أن هذا الشيء الغريب

قد تسلل الآن من الجحيم

إنّها تشبه قدم طائر

يضعه في عنقه آكل لحوم البشر

وعندما تحملها في يدك

و تطعنُ بها قطعة من اللحم

يمكنك تخيُّل ما تبقّى من الطائر:

برأسٍ مثل قبضة يدك

كبيراً، أصلعَ، بلا منقار، وأعمى

كنتُ هناك

لم يرني أحدٌ في شوارعكم

على الرغم من أنّني

ما زلت هناك

أتسكّع

وأتوقّف لإلقاءِ نظرة خاطفة

على المتاجر الفارغة

وأتحدَّث إلى حمامة وحيدة

 

نوفمبر

المتخاصمون جميعهم

رجالاً ونساء

يجب أن يحملوا الحياةَ إلى برّ الأمان

ولو بطريقةٍ أكثر وضوحاً

في هذه الليلة المظلمة، الممطرة

اللّا متناهي

اللّامتناهي يتثاءب ويستمر في التثاؤب.

هل هو مصابٌ بالنعاس؟

هل يفتقد فيثاغورس

الأشرعة على سفن كولومبوس الثلاث؟

هل يذكّره صوت الأمواج بنفسه؟

هل يجلس مع كأس من النبيذ

ويتفلسف؟

هل يلقي نظرة خاطفة على المرايا في الليل؟

هل لديه حقيبة مليئة بالهدايا التذكارية

مخبأة في مكان ما؟

هل يحبّ الاستلقاء على أرجوحة

وتهمس الريح في أذنه بأشياء جميلة؟

وهل يدخلُ الكنائس الفارغة

ويضيء شمعةً واحدة على المذبح؟

هل ينظر إلينا كزوجٍ من اليراعات

نلعب “الغمّيضة” في مقبرة؟

هل يجدنا صالحين للأكل؟

هجران الإنجيل

ما قاله آدم لحوّاء

وهما يرقدان في الظلام

– حبيبتي

ما الذي يجعل ذلك الكلب

ينبحُ في الخارج؟

العاشق

عندما كنت أعيش في مزرعة

كتبتُ رسائل حب

لدجاجاتٍ يمارسن النقيق في الفناء

أو كنتُ أجلس في الغرفة الخارجية

أكتب رسالةً لعنكبوت

تحوكُ شباكها فوق رأسي.

كان ذلك عندما حلّقتْ زوجتي مع ساعي البريد.

الجيران كانوا يغادرون كذلك

الخنازير وصغارها تصرخ

راكضةً خلف الشاحنة المتحركة

وحتّى تلك الفزّاعة

التي ربطتُها ذات مرة بشجرة

لذلك يتوجّب عليها أن تصغي إليّ.

 

حيرة

لقد شتمتُ شخصًا ما

أو شيئاً من هذا القبيل

كان يتطوّحُ ويتقلب طوال الليل

أو هكذا قيل لي، على الرغم من عدم وجود ذاكرةٍ لديّ

من يمكن أن يكون؟

لذلك حدَّقتُ

في الخارج حائراً

كان الصقيعُ على الشجيرات جميلًا

مثل زينةِ شجرة عيد الميلاد

عندما تسلَّلتْ إلى المشهد

سيارة ليموزين سوداء مثل النّسر

وتوقَّفتْ عند كلِّ صندوق بريد

كمن يبحث عن اسمٍ بصورة عاجلة

ولا يعثرُ عليه

إطاراتُها تصرخُ مثل خنزيرٍ صغير

يعلّقه جزّارٌ في الهواء.

 

الفقيدة

الآن بعد أن أصبح الجو دافئًا

يصلحُ للجلوس على الشرفة ليلا

تصادف أن يتذكر شخصٌ ما

إحدى الجارات،

على الرغم من مرور أكثر من ثلاثين عامًا

منذ أن ذهبت

في نزهة قصيرة بعد العشاء

ولم تعد أبداً

لزوجها وأولادها

القاموس

ربما هناك كلمة في مكان ما

لوصف العالم في هذا الصباح

، كلمة لوصف الضوء المبكر

سعيداً بمطاردة الظلام

ليقذفَ به

خارج نوافذ وبوابات المتجر

 

جنون

ندفة الثلج ذاتها

ظلَّت تتساقط من السماء الرمادية

طيلة وقت ما بعد الظهيرة،

تتساقط وتتساقط

ثمَّ تنأى بنفسها

بعيداً عن الأرض

، ثمّ تعاود السقوط

ولكنها الآن تمارس الكتمان

بحرص أكبر

كلَّما مرَّ الليل

لمعرفة ما يجري

 

إلى الملل

أنا طفلُ آحادكَ المُمطرة

أرقبُ الوقت

زاحفاً على السقف

كذبابةٍ جريحة

يومٌ يدوم إلى الأبد

يعدُّ أقراصاً من الخبز

آملاً أن يتحرك غصنٌ على شجرة عارية

يتعمّق الصمت

والسماء تغدو أكثر ظلاماً

كما لو أنها جدّةٌ

تحوك كرةً من الحكايا السّود

وأنا أتخيّل الجنة كذلك

في دروس الخلود

حيث يجلس الملائكة

مثل أطفالٍ ضجرين

مُطرِقي الرؤوس

 

عجوزان

كانا ينتظران أن يقتلا

أو أن يتشردا عاجلا

كانا يتوقّعان ألا يجدا شيئاً يأكلانه

في غضون ذلك جلسا

كان وجع القسوة يدنو

وكانا يعتقدان

أنّه يبدأ في القلب

ثم يتسلّق إلى الفم

سوف يحملان على نقّالة

مولولين

في الليل كانا يراقبان النافذة

دون أن يتبادلان كلمة واحدة

كانت تمطر

وكانت توحي أنّها ستثلج قليلاً

رأيته ينهض

ليخفض “الأباجور”

مادامت نافذتهما ستبقى معتمة

أعرف أنّ يده

قد لمست يدها

كما لو أنّها

توشك أن تشعل الضوء

 

حجر

أمضي إلى باطنِ حجرٍ

ذلك ما سيكون عليه طريقي

تاركاً لسوايَ أن يكونَ حمامةً

أو صريراً في نابِ النّمر

و يسعدُني أن أكونَ حجراً

فالحجرُ في ظاهرِه أُحجيةٌ

لا أحدَ يستطيعُ الإجابةَ عنْها

مع ذلكَ

عليهِ أنْ يكون بارداً

وهادئاً

حتّى إنْ داستْ عليه بقرة ٌ

بكاملِ وزنِها

حتّى وإنْ طوَّحَ بهِ طفلٌ الى النهر

الحجرُ يغطسُ على مهلِه

إلى قاعِ النَّهر

دونما ارتباكٍ

حيثُ الأسماك التي تأتي

كي تربتَ عليه وتصغي

لقد رأيتُ الشَّرر يتطايرُ

من احتكاكِ حجرين

فلعلَّه بعد ذلك

لا يكونُ معتماً من الدّاخل

ربَّما يكونُ هناك قمرٌ يشّعُّ

في مكانٍ ما

كما لو أنَّهُ وراءَ التّلال

فقطْ ما يكفي من الضّوءِ

ليغازلَ الكتابات الغامضة

ومواقعَ النّجومِ

على الجدرانِ العميقة

القصيدة

قطعة من اللحم

يحملها لصّ

لصرف انتباه كلب الحراسة

البطّيخ

“بوذا ” الأخضر

في ركنِ الفواكه

، نأكل ابتسامته

ثمَّ نبصقُ الأسنان

السير على الحبال

ينتظرنا كثيرٌ من الحزن

أيّها الأصدقاء

بدءاً من هذا اليوم

سنختبرُ شجاعتنا

متشبّهين بأولئك الرجال الذين يمدّون سلكاً

بين ناطحتي سحاب

ويمضون للسير عليه،

يحملُ كلّ منهم

مظلةً مفتوحة

قد تطوّح بها الريح

عندما يكونون

في منتصف الطريق تماماً

فتذهب

وتسلّي نفسها

بالسير على الجدران

في طريقِها إلى الأرض

، ونحن على الأرجح

سوف ننسى صديقاً

يلوّحُ بذراعيه هناك

مثلَ فزّاعة

في عاصفةٍ ترابيّة

الدرس الأخير

سيكونُ عن لا شيء

ليسَ عن الحبِّ

أو عن الله

لكنّه عن اللّاشيء

ستكون شبيهاً بطفلٍ مستَجِدٍّ في المدرسة

يخشى النظرَ إلى المعلّم

بينما يجاهدُ كي يدركَ

ماذا يقولون

عن هذا اللّا شيء الماثل

….

عبود الجابري: شاعر ومترجم من العراق، يقيم في الأردن منذ عام 1993، له سبع مجموعات شعرية منشورة، ترجم، وما زال، العديد من الدراسات النقدية، والنصوص الإبداعية المنشورة في صحف  ودوريات عربية .

تشارلز سيميك Charles Simic
  • شاعر ومترجم وكاتب مقالات أميركي من أصل صربي 1938-2023
  • هاجر في مراهقته إلى أمريكا وعمل في العديد من الوظائف مثل بائع قمصان وبائع في متجر كتب.
  • نشر أولى قصائده عام 1959 ثم دعي للخدمة العسكرية.
  • وبعد تجربة الخدمة في الجيش اصدر بعد تخرجه في جامعة نيويورك 1966 مجموعته الشعرية الأولى (ما الذي يقوله العشب) عام 1967.
  • بلغت كتبه أكثر من عشرين مجموعة شعرية وكتب أخرى تضم مقالاته، وبحوثه.
  • ومن كتبه المنشورة: (محيطي الكتوم) 2005، و (قصائد مختارة 1963- 2003) وقد حصلت هذه المجموعة على جائزة جريفين الدولية للشعر عام 2004،
  • نال شعره جوائز عديدة منها: جائزة البوليتزر لعام 1990 عن ديوانه (العالم لا ينتهي: قصائد نثر) وجائزة والاس ستيفنز 2007.
  • انتخب لمنصب ملك شعراء الولايات المتحدة عام 2007. كما فاز بجائزة الأركانة العالمية للشعر 2019.
قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.