قرأت مئة كتاب لكي أكتب كتاباً واحدا فقط

هيذر أونيل عن متعة البحث اللانهائية

0 985

هيذر أونيل – كندا

ترجمة: تهاني فجر – الكويت

عندما كنت طفلة عشت مع والدي عامل النظافة الأمّي في مونتريال، كنت أستيقظ في الصباح وأقتل بباطن حذائي المخصص للجري الصراصير، حينذاك كان  والدي يحتفظ بجثثهم ويلصقها بدقّة في مظروف ويرسلها إلى المالك عبر البريد، عندما تغرب الشمس كنا نذهب لجمع القمامة معًا، كان والدي يحب أن ينزع الأسلاك عن الأجهزة الكهربائية، ويأخذ أجزاء من الثلاجات القديمة ويضعها في دلو نقوم  بسحبه على العربة، كثيرًا ما تصادف مع تلك الأسلاك والأجزاء وجود أشياء جميلة قدّمها والدي لي كما لو كانت هدايا من أعماق قلبه، وكانت كذلك فعلًا.

ذات مرة، وجد صبّانة مزدانة بملاك جالس على جانبها، احتفظت بها طوال حياتي، كان والدي يحب أن يسرد لي قصة العثور عليّ في حاوية نفايات وأنا رضيعة، كنت قذرة جدًّا وقبيحة، أدرك أنه لا أحد يستطيع أن يقوم بتربيتي إلا هو، فأحضرني إلى المنزل وغسلني في الحوض مع الأطباق، لقد كان البحث في القمامة هو بداية شغفي الحقيقي في الحياة، حيث كنت دائمًا أسحب الكتب وأضعها في عربة الكنوز.

امتلك والدي مزاجًا عنيفًا، فمن الممكن أن يفقد أعصابه لأسابيع كاملة، وجدت نفسي في المستشفى وهم يخيطون الجروح التي تسببت بها الأطباق التي رماني بها، قررت الهرب من المنزل والبحث عن فرصتي في مكان ما، ذلك ما كانت ستفعله الشخصيات في كتبي، كانوا دائما يستقلّون السفن، والقطارات ويشعرون بالاضطهاد، قرأت مذكرات مكسيم غوركي حيث فرّ من منزل الجد في الرابعة عشر من عمره.

اعتبرت عملية بحثي قد اكتملت فحزمت حقيبة صغيرة، وأخذت فرشاة الأسنان ومجموعة من الكتب، كنت أحتاج إلى نصيحة شخصياتي لأنهم كانوا أعمق تجربة مني وقد أحبّوا أكثر من أيّ شخص آخر،  في التفكير في ظروفهم.

في وقت لاحق ندمت بشدّة على عدم أخذ زوج من الجوارب، لكنني قضيت فترة رائعة بعد الظهر، وأكلت السجق من سيارة أتت إلى الحديقة لإطعام الأطفال المشرّدين، وقرأت لوليتا، لقد تساءلت عن الفضيلة، وآمنت أن جميع الكُتّاب ومن يسكن هذه الأرض منحلون أخلاقيًا، وما عزّز إيماني هذا هو إن امتلاك القدرة المثالية على ترتيب الكلمات لن تصنع منك شخصًا نبيلًا على أية حال، بل على العكس تمامًا.

إلى اليوم، لديّ انجذاب شبه عاطفي نحو الكتب، وما إن أمشي بجانب مكتبة، حتى يبدو لي كل كتاب مدهشًا، كنت أعلم أن الشخصيات الموجودة بداخلها سوف تسحرني أكثر من أيّ شخص يمكن أن أقابله، لماذا عليّ أن أخرج لتناول المشروبات في حانة مع صديق وأنا أستطيع القراءة عن معنى أن تكوني امرأة في جسد قبيح، أو عن معنى أن تكوني عاهرة بسبب أسرتك؟ كان يبدو لي أن شيئًا مأساويًا سيحدث إن لم أقرأ  تلك الكتب، ستكون فتاة الجوقة وهي في حالة سكر في رواية من عشرينيات القرن الماضي، تجلس عارية على جانب سريرها في الفندق وهي ترتدي جوربا واحدا فقط، تنتظرني بلا نهاية لكي أطلق سراحها لتشرع في مغامرتها لمقابلة رجل يعاملها معاملة سيئة.

أقرأ كتابًا واحدًا في اليوم، في بعض الأيام كنت أقرأ ثلاثة كتب في اليوم الواحد، في بعض الأحيان أشعر بالحرج عند إخبار الناس لأنهم كانوا ينظرون إليّ برعب، من الواضح أنني ذهبت بعيدًا، ودخلت في مرحلة صار فيها شراء الكتب وقراءتها هي رغبة لا إرادية ملحّة، لكن حتى لو قرأت كتابًا واحدًا يوميًا، فلا توجد طريقة تمكّنني من مواكبة الكتب التي أشعر بأنني مضطرة لقراءتها، عندما أرى أيّ قائمة من الكتب، كنت أطلب ثلث القائمة على الأقلّ، يا إلهي، عندما أرى القائمة أشعر بأني جاهلة للغاية، وبمجرد وصول طرد الكتب يتكوّن لديّ إحساس بأني متعلمة وواعية.

ومع ذلك، دفعت ضرائبي واكتشفت أنني أنفقت أموالًا على الكتب أكثر من أيّ شيء آخر، وشقّتي مليئة بالكتب التي لم أبدأ في قراءتها بعد، قررت أن أتوقف عن شراء الكتب إلى أن أنتهي من كومة الكتب الهائلة غير المقروءة.

بالطبع، يمكنني شراء الكتب التي لها صلة بموضوع الرواية التي كنت أكتبها، وهي سرد للثورة الفرنسية التي حدثت في العصر الفيكتوري، حيث كانت الشخصيات جميعها تتألف من فتيات صغيرات السن، بدلًا من كبح إنفاقي، زاد ذلك من كمية النقود التي أنفقتها على الكتب.

وصلت كتب الثورة الفرنسية ومفكريها أولًا، كانت مجموعة الكتب حول ماري أنطوانيت وروبسبير مطبوعة على أوراق رقيقة لإخفاء حجمها الطبيعي، ثم جاءت المجموعة الخاصّة بالعصر الفيكتوري، لأن هذا هو العصر الذي عاشت فيه الشخصيات، كان هناك الكثير فيما يخصّ الحياة اليومية يمكن البحث فيه، كنت أعشق وصف النساء اللاتي ينزعن ملابسهن، لذا وصلت العديد من صناديق الكتب التي تتحدث عن الملابس الداخلية الفيكتورية عبر البريد، ولأن شخصيات روايتي كانت كلها صغيرة في السن، فقد مارسن العادة السرية في جميع الأوقات، لكن ما الذي سيتخيلنه؟ وصلت طرود من الكتب الإباحية الفيكتورية وبدأت الشبقية تطرق بابي.

ثم فكرت في شراء كتب عن الفتيات الصغيرات اللاتي وقعن في الحب الجنوني مع بعضهن، أدّى ذلك إلى فترة من العشوائية الجميلة، فتيات يمسكن بأيدي بعضهن في نيوزيلندا، فتيات تائهات في كهوف الجليد معًا، فتيات يقفن على أسطح السفن وشعرهن يتطاير مع الرياح حتى تصبح أطراف أنوفهن حمراء، فتاتان على متن قطار، إحداهما نجت في الحرب والأخرى لن تنجو.

قررت بعد ظهيرة أحد الأيام، أنه من المهم البحث عن فن تحريك الدمى من أجل الرواية، على الرغم من عدم وجود أيّ دمية في الأحداث، ولكن كان هناك شيء حول التلاعب الذي أردت أن أنقله، لقد اشتريت كتابًا عن ثعلب يتحدّث لأن هناك خنزيرًا لا يتكلم في روايتي – كدراسة على النقيض من ذلك، اشتريت كتابًا عن تاريخ النساء في المصحّات العقلية، على الرغم من أنه لم يصب أيّ شخص في كتابي بالجنون، ولكن كيف يمكنك أن تكتب حوارات النساء دون معرفة النصوص الفرعية التي تخصّ الاضطهاد الهستيري الذي كان يطاردهن؟ لقد اشتريت كتابًا عن مدرسة داخلية للذكور في الخمسينيات من القرن الماضي، لأن إحدى شخصيات الرواية كانت تذهب إلى مدرسة لتعليم الإناث في تسعينيات القرن التاسع عشر.

كنت أرغب في تقديم صورة ما عن حالة فقدان طفل حديث الولادة، عن طفل لم يتمكّن إلا من تجربة بضع لحظات انطباعية عظيمة، ثم جاءت الكتب الشعرية للإجابة على السؤال، كيف تضع العالم في جملة واحدة؟ كان هناك كتاب قد قرأته عن البطاطا، اعتقدت أن ذلك سيساعدني في الكتابة عن كونك طفلا لم تولد كنبتة لم تنبثق من الأرض بعد، كما قرأت مسرحية عبثية فرنسية لكي أتصوّر كيف يمكن أن تتحدث  امرأة موهوبة إلى طفل ولدته للتو.

لقد اشتريت كتابًا عن الطريقة التي تعاملت بها النساء مع ما لا يمكن ذكره في العصر الفيكتوري، كنت أبحث على وجه التحديد عن الطريقة التي تعاملن بها مع فترات الحيض الخاصة بهن، حيث لا يمكنني امتلاك كتاب مليء بالشابات ولا أزودهن بطريقة تمكنهن من النظافة في مثل هذه الحالات، بعد هذا الكتاب كنت أشعر بالرضا عن البحث الذي أجريته، لأنني خلقت الآن عالمًا يجتمع فيه الواقع والخيال، حيث سأكون قادرة على وصف شخصياتي بشكل صحيح أثناء الكتابة، لقد أفرغن ما في أعماقهن الجميلة في مربعات مقطوعة من الصحف وصفحات المجلات التي سبق أن قرأتها.

لقد قرأت مئة كتاب لكي أتمكّن من كتابة كتاب واحد، لكنني مررت حقًا بفترة طويلة من قراءة الكتب حتى أتمكّن من كتابة أيّ كتاب على أيّة حال، إذا كنت لا تقرأ على نطاق واسع، فلن تتمكّن أبدًا من معرفة نفسية كاتب الرواية، لذلك كنت أشعر أحيانًا بالذنب بسبب امتلاكي شقة مليئة بالكتب غير المقروءة كنت قد اشتريتها باندفاع، ولكن بعد ذلك ذكّرت نفسي أنه فقط من خلال البحث في سلة المهملات عن أشياء عشوائية من الجمال يمكننا بناء أيّ عالم نرغب فيه.

*تهاني فجر: شاعرة وكاتبة ومترجمة من الكويت صدر لها: صورة شخصية للحب (شعر) ضلع المثلث (سيرة ونقد)

وفي الترجمة: كل رجال الملك (رواية) قرن في الكويت (تاريخ) لأنه مر لأنه قلبي (شعر مترجم) وعلى شاطئ تشيسل (رواية)

هيذر أونيل
روائية وكاتبة  مقالات وقصص قصيرة . تم ترشيح أعمالها، التي تشمل فيلم ” هدهدات للمجرمين الصغار” و “الفتاة التي كانت ليلة السبت وأحلام اليقظة للملائكة” للحصول على جائزة الحاكم العام الأدبية، وجائزة أورانج الأدبية، وجائزة جيلر الكندية للآداب في عامين متتاليين، كما فازت بجائزة  الإذاعة الكندية، وبجائزة دانوتا غليد للقصة القصيرة . ولدت أونيل ونشأت في مونتريال، وتعيش الآن هناك مع ابنتها.
قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.