حين يلتقط القارئ تفرد الكاتب في تدبره وإنسانيته

0 536

 

ناديا محمد ياسين – الأردن

من “خارج الجماعة”  بدا أنه  “لا أحد ينام في المنامة”  في “أمة لا اسم لها” فـ”تمثيلات الآخر” تُعنى بـ”الكراهيات المنفلتة!”

استهلالٌ يمثل عناوين الكتب الآسرة التي طالعتها للمفكر الدكتور نادر كاظم استعدادًا لنقاش شرفنا بحضوره في ملتقى صيدلية الكتب.

“إن المفكرين الحقيقيين قليل في هذا الورى، والمشككين الحقيقيين أقل منها، أما المطمئنون إلى كل شيء فملء الأرض.. وأفتك أوبئة الإنسانية ذلك الاطمئنان الداخلي، مرضى الدهماء الذين يعومون في زبد أنفسهم، ولا يغوصون في لُجتها، تلهيهم ثرثرة الساقية عن صمت النص الهادئ حيث الحيتان الضخمة التي تبتلع حوت يونان” مارون عبود

في الكتب أعلاه، تبينت مفكرًا حقيقيًا، يذهب الى ما وراء المقصد، بمنهجية دؤوبة محترفة، تتضح معالمها في مدخل أقرب للحكاية يشرح من خلاله غاية بحثه، ممهدًا لفصوله، يلتقط عبره القارئ تفرد الكاتب في تدبره وانسانيته، بسلاسة لغوية سهلة ترفع من قيمة النص.

-1-

المتأمل لفكر الدكتور كاظم يستنبط هاجسه بالهوية والانتماء، مدفوعًا ربما بانتمائه لمجتمع متعدد الثقافات، فهو في كتابه “خارج الجماعة” يرى الحكم على وجود المرء في مجتمعه لانتماء ديني، أو قومي، أو قبلي أو أيديولوجي هو اختزال لنا كبشر، تقليص للتعددية التي يمكن أن تنطوي عليه هوية كل فرد منا، مناديًا بأن تكون للمرء حرية الاختيار ليعيش إنسانيته.

ركز المؤلف هنا على مسألة التعددية الثقافية، مالها وما عليها، مستشهدًا برؤية مفكرين كبار منهم: أمارتيا صن، حنا اردنت، بندكت اندرسون، أشعيا برلين، مارسيل غوشيه وادوارد سعيد. أفكار تدعو للتساؤل، فهل لنا حرية الاختيار بين الانتماء واللا انتماء لجماعة معينة؟ هل يحكمنا المجتمع؟ هل ينطبق على مجتمعاتنا العربية وصمة ‘تفكير القطيع’؟ كم من هوية متقاطعة نمتلك كأفراد؟ هل احترامنا للثقافات الاخرى-إن فعلنا- تماثل بالضرورة اعترافنا بها؟ ألا نحول كبشر معتقداتنا-التي وجدنا أنفسنا عليها- إلى هوياتنا؟ كتاب يستحق التمعن “من الصحيح أن نقول إن الهوية مسألة اختيار، إلا أن الثابت كذلك أن هذا الاختيار لا يعني النجاح في إقناع الآخرين بالهوية التي نختارها لأنفسنا ونريد منهم أن يتقبلونا أو حتى يرفضونا بناء عليها.”

-2-

كتابٌ نعته الدكتور نادر “عربون محبة لهذه المدينة التي لا تنام، ولبحرها الذي سكنت أمواجه بموت فرضة المنامة التاريخية، و لناسها القادمين من كل الدنيا من داخل البحرين ومن خارجها، و لذاكرتها الثرية بكل ما انطوت عليه من التنوع والتسامح وتقبل الآخر والتحرر والانفتاح على العالم، وعلى الحياة أولًا وأخيرًا”، وهو للحق مؤَلف موسوعي، خلد المنامة والبحرين معًا.

“لا أحد ينام في المنامة” عنوان ليس اعتباطيًا في تناصه مع رواية ابراهيم عبد المجيد “لا أحد ينام في الاسكندرية”، فقد وجد كاظم تشابهًا في مسار المنامة التاريخي مع مدينة الاسكندرية، فبرع في مقدمته الربط بينهما، فكلتاهما نموذجًا للمدينة الساحلية التي مثلت الميناء الرئيس للبلاد، إضافة لتطابق التحولات الحديثة لهما مع تعايش العديد من الاثنيات في حدودهما الضيقة.

“هل يمكن لتاريخ مدينة أن يجسد تاريخ المكان وناسه وأشيائه؟”

إن ما دوّنه الدكتور كاظم فبالتأكيد نعم! فقد ارتحل عبر أربعة أبواب في ذاكرة مزدوجة اختلط فيها التعايش والتسامح بالتنافس والصراع، ليروي سيرة المكان، جغرافيته وتاريخه، ناسه وأهله على اختلاف جذورهم، معتمدًا على وثائق ومخطوطات رحالة عرب، ومستشرقين عبروها يومًا، كابن المجاور مشيرًا الى مأكولها، والمستكشف الألماني نيبور ذاكرًا اعتمادها على صيد اللؤلؤ وتجارة التمور.

تميز الكتاب بملحق صور قديمة مختلفة، خرائط، أماكن، ناس ومخطوطات جعلته مرجعًا هامًا لتاريخ البحرين، ذاك البلد الصغير الذي بالكاد عرفنا عنه القليل.

“قلب المنامة بقي حيًا ونابضًا كما هي عادة المدن الحية دائمًا، وأن مستقبل المنامة -كما كان حاضرها وماضيها- سيبقى مفتوحًا على التنوع والانفتاح والامتزاج بين ثقافات وهويات واثنيات، وطبقات من التاريخ تراكمت واحدة تلو الأخرى، وأن هذا التاريخ سيتواصل إلى أجل غير مسمى، وأن هذه المدينة ستكافح من أجل الحياة حتى آخر قطرة من بحرها الخرافي الذي كان هو صاحب الكلمة الأولى في وجودها، وهو وحده ان تاب وخاف الله من سيكتب كلمة الختام “.

-3-

من تعريف بندكت اندرسون القائل بأن الأمة عبارة عن “جماعة سياسية متخيلة، ومتخيلة على أنها محددة وذات سيادة على نحو متأصل” جاء العنوان اللافت لكتاب “أمة لا اسم لها” الطبعة الحديثة عن دار سؤال، بغلاف يصور عمال شركة نفط البحرين في العام 1945. كتابٌ يبحث في “ما معنى الأمة أصلًا؟” استعرض بداية النموذج الألماني بصياغة المفكر فيخته الذي تأثر به القوميين العرب، رافعًا الأمة إلى رتبة الإله دون تمييز بينها وبين الشعب، ثم تطرق لنموذج الفرنسي ارنست رينان الذي وجد جوهر الأمة في أنه جميع أفرادها لديهم الكثير من القواسم المشتركة بما فيها عامل النسيان!

انتقل بعدها كاظم للنماذج العربية بدءًا بالطهطاوي فخير الدين التونسي، إلى بدايات القومية العربية التي اعتبرت صحوة شامية مسيحية مع اليازجي المنادي باللغة جوهرًا للأمة العربية، التي وإن بدت أساسًا للقومية العربية، الرابط المثالي لشعوب العالم العربي لكنها لم تكن رابطة في حالة الهند والجزائر وبلجيكا، ما “يكشف أن تصدير محدد ما ليصبح هو عنوان هوية الأمة كلها، إنما يعتمد على السياقات الخارجية، وعلى الآخرين الذين يستهدفون هذا المحدد دون ذاك، فيغامرون بتحويله في نفوس أصحابه المستهدفين، إلى المحدد الأساسي لهويتهم”

قدم المفكر البحريني بإسهاب المسار الذي قطعه مفهوم الأمة عربيًا من خلال ثلاثة أجيال من القوميين العرب، نجيب عازوري، ساطع الحصري وميشيل عفلق، قسطنطين زريق ونديم البيطار مختتمًا بعزمي بشارة.

أفرد نادر كاظم فصلين متتاليين عن وجه الأمة في كل من العراق، وبلده البحرين، لتشابههما حسب رأيه في تنوعهما السكاني وبداية بناء أجهزة الدولة.

“سنصير شعبًا إن أردنا كما قال محمود درويش، وبما أن الأمة مبدأ معنوي، فهي تعبير عن إرادة البشر في مواصلة العيش المشترك، وعن مدى التزامهم بالعيش سويةً في دولة واحدة.”

-4-

نبش الدكتور كاظم الماضي في كتابه “تمثيلات الآخر” بغاية الإشارة إلى أهمية الوعي بالآخر، فذلك مرتبط باكتشاف الذات، إذ أن كل اكتشاف للآخر يحدث عبر تخيل لصور تكونها الثقافات.

” صحيح أن أحدًا لا يملك قدرة الحجر على الماضي ومتخيله وتمثيلاته، كما أن أحدًا لا يستطيع وقف تدفقه السيال من زمن إلى زمن، فالصراعات الثقافية بين الهويات في العصر الحديث تثبت أن هذا الماضي لم يختتم بعد، فهو حاضر وبدرجات متفاوتة في القوة والضعف”.

وقد بان كتابه هذا من الأهمية بمكان كي تترجمه حديثًا الى اللغة الانجليزية جامعة McGill-Queen’s University في كندا، حيث برع كاظم في التقصي والتحليل عبر بابين وأربعة فصول، حاملًا لواء نقد الذات عن مدى اندماج المختلف في الهوية الثقافية للمجتمع العربي الإسلامي.

سعى الكاتب لقراءة صورة السود تحديدًا في الذهن العربي، وتغير صورتهم عبر الأزمان في الثقافات المختلفة، وهو مبحث لم يتناوله أحد قبلًا، معتمدًا في ذلك على مرجعيات التاريخ في الاسترقاق مثلًا، مرجعيات الإنسان الثقافية حتى في تفسير الأحلام، والسرديات كسيرة بني هلال وأخيرًا التمثيل الشعري فعنترة اعترف بقبح سواده وكذلك أبو دلامة جاهر بفسوقه.

الكتاب عصف ذهني، يدحض تصورات دفينة مثل الربط الوثيق بين الدين والتحضر الإنساني، يفصح عن استحكام صور نمطية اودعناها عقولنا دون التشكيك فيها، ويدعو بالتأكيد الى الانفتاح على التنوع البشري الخلاق لتجاوز علاقات القوة والاستعباد، والتحرر من التحيزات الثقافية.

-5-

يرى الدكتور كاظم في “كراهيات منفلتة” أن خروج العالم من عزلته مكن من انفلات الكراهيات، ضاربًا أمثلة توضيحية عديدة، شارحًا أثر الكتابة في ذلك أن لم يوجد وعي بتاريخية فعل الكتابة زمنًا ومقصدً اإلا أن للكتابة قدرة على تجاوز العزلة التاريخية زمنياً، وهو ما يخلق فجوة زمنية بين زمن التأليف وزمن القراءة المتجدد باستمرار. فكتب الكراهية القديمة جرى تأليفها في أزمنة بعيدة عنا، إلا أننا نقرأها هنا والآن، كما أن لدينا القدرة على تحيينها بحيث نقرأه وكأنها ألفت الآن متناسين أنها ألفت في زمان غير زماننا”

بين كذلك أثر انتاج الكراهيات على البشر، في السلطة والمجتمعات، وتأثير كبتها أيضًا له شأن آخر حيث باتت تنفلت بأشكال عدة في الانترنت والمساجد لافتًا إلى الأهمية الأخلاقية داعيًا إلى الاحترام والشفقة.

“فالكراهية، إذن، حركة دورية لا تستطيع أخلاق المعاملة بالمثل أن تكسرها، ولكسر دورة الكراهية المتبادلة فإننا بحاجة إلى أخلاق المعاملة بالتي هي أحسن، وإلى روح المبادرة بالإحسان واحترام الآخرين ومراعاتهم بحيث يكون الواحد منا قادراً على المبادرة بالرد على الكراهية التي تستهدفه باحترام قد يكون صعباً وشاقّاً على النفس، إلا أنه ضروري لتبدأ دورة الاحترام المتبادل. وعندئذٍ يمكن للاحترام أن يقاوم الكراهية ويقهره”

من المجحف بمكان القيام باختصار هكذا كتب معرفية دسمة بمقال كهذا، فكل كتاب يشمل مبادئ نهضوية، فالنهضة تقوم على تصحيح حالات فكرية واجتماعية بنقض المسلمات، تغيير معتقدات متشددة لأجل أمم متقدمة إنسانية. “لماذا يتوجب علينا دائمًا في الحياة العربية، أن نأتي متأخرين عشرات السنين كي نصغي إلى مبدعينا المتقدمين، في كل الحقول متأخرين إلى هذا الحد؟ نفهم أن يسبق المبدعون عصرهم، لكن أن يتأخر العصر عن النص إلى هذا الحد فإن العطب الحضاري يفتك بنا.” قاسم حداد.

عن الدكتور البروفسور نادر كاظم، القامة الرفيعة خُلقًا وعلمًا كتب الدكتور عبد الله الغذامي:

“إن الدكتور نادر كاظم يمثل جيلًا من النقاد والناقدات في البحرين ومثلهم مجموعات في المغرب وفي فلسطين تبنوا مشروع النقد الثقافي وهم بذلك يتصدون لتغيير الخطاب النقدي وإعادة كتابة هذا الخطاب حسب وعي جديد ومصطلح مختلف وتصور يفتح المغلق ويضئ المعتم ويشاغب الساكن”

 

 

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.