الحكايات في مسرح الطفل

ورشة فن - مسرح

0 1٬106

عباس الحايك – السعودية

أقولها بصراحة، أنا من جيل محظوظ، نعم، محظوظ لأني واكبت زمن ظهور مسرح الطفل، ربما لم أشاهده حضوريا وقتها، لكن كانت المسرحيات تصلنا عبر أشرطة الفيديو أو عبر التلفزيون كغيرها من أعمال درامية وسينمائية، ومع هذا كان لهذا المسرح رغم الوسيط البصري الذي يقلل عادة من متعة المشاهدة، القدرة على إدهاشي وإدهاش غيري من أبناء جيلي، مسرح الطفل الذي جسد لنا الحكايات، حيث لم تعد تلك الحكايات في المسرح مروية بالكلام، بل مروية بالصورة، بالأغنية، بالكوميديا، بالألوان، بالفرح. كانت أول مسرحية أطفال شاهدتها، هي مسرحية (السندباد البحري) الذي أطل منها الفنان عبد الرحمن العقل بطلا وانطبعت في ذاكرتي شخصيته السندباد البحري الذي طان احد أبطال طفولتنا. المسرحية التي ظلت في ذاكرتي أغنيتها الختامية، وأجزم أن الكثير من جيلي ما زالوا يتذكرون أغنية (بلادنا حلوة، حلوة، بس الوطن ما له مثيل). المسرحية التي عدت كأول عمل مسرحي للأطفال خليجيا رغم جدل كبير حول حقيقة ريادة هده المسرحية أم غيرها لمسرح الطفل، حيث تبين أن هناك مسرحيات أيضا سبقت هذه المسرحية، منها مسرحية للفنان السعودي الراحل عبد الرحمن المريخي كمسرحية (ليلة النافلة) ومسرحية للكاتب المسرحي الدكتور عبد الله العبد المحسن (الكريكشون)، لكن تظل هذه المسرحية هي الأيقونة، وهي الدهشة الأولى لمسرح الطفل الخليجي، فهي المسرحية التي أتيحت لمن لم يستطع أن يحضر مسرحا أن يتابعها عبر التلفزيون.

لاحقا تتابعت العروض المسرحية الخليجية الخاصة بمسرح الطفل وأبرزها تلك التي قدمها عبد الرحمن العقل مثل البساط السحري، الف باء تاء والتي كانت بداية حقيقة لعلاقة الفنانة هدى حسين بمسرح الطفل، والتي صارت لاحقا واحد من أهم المشتغلين بمسرح الطفل في الخليج وحتى الوطن العربي هي وعبد الرحمن العقل الذي قدم لاحقا عدد من المسرحيات مثل الزرور وطرزان وغيرها من المسرحيات التي حفظتها ذاكرة المسرح الخليجي. لن أنشغل بالتاريخ هنا فله مختصوه، ولكني سأتحدث أكثر عن دهشة الحكايات في مسرح الطفل، فالحكايات عالم ساحر مدهش وخيالي، ففي طفولتنا تعلقنا بالحكايات، بشخوص الحكايات، بأحداثها وتفاصيلها، نحن كبشر نميل للحكايات، فالكبار يميلون لقراءة الروايات ليس بحثاً عن قيمة أدبية فقط، بل أن أكثر القراء يبحثون عن حكاية تقرأ، هكذا هم الكبار، فما بالكم بالأطفال الذين بطبيعتهم يحبون سماع القصص، فهم يبحثون عن أبطال الحكايات، ويبحثون عن النهايات السعيدة.

الحكايات ضرورية للأطفال، ضرورية لنموهم، فالحكايات تغرس القيم والفضائل في نفوس الأطفال، وتجعلهم على دراية بجذورهم ومعرفة مجتمعهم عبر الحكايات الشعبية، وترفع من القدرة اللغوية للطفل، وتحسن مهارات الاستماع، كما أن الحكايات تشجع الإبداع وقوة الخيال، وتوسع الأفق، بالإضافة إلى أن القصص تساعد في تعلم فن طرح السؤال الصحيح. هذا عن الحكايات، الحكايات التي نقرؤها للطفل أو يقرؤها الطفل نفسه، فماذا لو تحولت هذه الحكايات إلى مسرحيات، فبالتأكيد سيتعزز مردود الحكايات، فهي حكايات ممسرحة، مشغولة بالأجساد التي تتحرك على الخشبة، وبالموسيقى والأغاني والألوان، أي سحر هو سحر المسرح، مسرح الطفل.

يقول مارك توين الكاتب الأمريكي الساخر عن مسرح الطفل “أعتقد أن مسرح الأطفال هو من أعظم الاختراعات في القرن العشرين، وأن قيمته الكبيرة، التي لا تبدو واضحة أو مفهومة في الوقت الحاضر سوف تتجلى قريبا. إنه أقوى معلم للأخلاق وخير دافع للسلوك الطيب اهتدت إليه عبقرية الإنسان، لأن دروسه لا تلقن بالكتب بطريقة مرهقة، أو في المنزل بطريقة مملة، بل بالحركة المنظورة التي تبعث الحماسة وتصل مباشرة إلى قلوب الأطفال التي تعد أنسب وعاء لهذه الدروس، وحين تبدأ الدروس رحلتها فإنها لا تتوقف في منتصف الطريق، بل تصل إلى غايتها… إلى عقول أطفالنا”، ولكن أي مسرح طفل يمكن أن يحقق كل هذا، اي مسرح يمكن أن يكون معلما للأخلاق ومقوما للسلوك، هل كل عمل مسرحي يقدم لجمهور أطفال يمكن أن يكون فعلا أعظم اختراع في القرن العشرين. وهل كل ما قدم على مستوى الخليج يمكن أن يكون ذلك المسرح، العالم العجائبي والاختراع الأعظم؟.

شاهدت عروضا مسرحية، ليس لكوني كاتبا مسرحيا، أحكم نصوصا وعروضا لمسرح الطفل، لا ولكن أيضا لأني ما زلت أحمل ذلك الشغف الطفولي بمسرح الطفل وعالمه وشخوصه وحكاياته، مسرح الطفل الذي هيئني لاحقا لأن أكون ذلك الكاتب المسرحي، وربى نزعة السؤال عندي، والشغف بالحكايات التي ما زلت لا أستطيع الفكاك منها ومن سحرها حتى في كتاباتي لنصوص الكبار. شاهدت عروضا مسرحية لا يمكن أن تقدم للطفل، فبعض العروض المسرحية الخليجية التي شاهدتها أو حتى قرأت نصوصها، لم تدرك الفروقات الكبيرة بين مسرح الطفل ومسرح الكبار، فعلى مستوى اللغة، بعض المسرحيات تتعالى بلغتها على الطفل وكأنها تخاطب كبارا لا أطفالا للتو يؤسسون قاموسهم اللغوي، أو لغة لا تتناسب مع خطاب مسرح الطفل، حيث يشترط في هذ المسرح أن تكون لغة خطابه بسيطة وواضحة بعيدة عن التعقيد، تركز على الكلمات ذات المضمون المادي المحسوس وليس على الكلمات ذات المضمون والبعد المعنوي، كما أن الحوار في مسرح الطفل يفضل أن يكون قصيرا بعيدا عن الثرثرة والمبالغة التي يعمد لها بعض كتاب المسرح في مسرح الكبار، هنا الأمر مختلف تماماً.

وعلى مستوى الحبكة، مسرح الطفل لا يتحمل الحكايات والحبكات المعقدة والثانوية، بل لا بد أن تكون الحكاية بسيطة، وهنا أتحدث عن الحكاية مرة أخرى لأنها هي كل ما يقدمه المسرح للطفل، فلا بد أن نختار حكاية سهلة الوصول لذائقة الطفل ووجدانه حتى لا ينفر الطفل من المسرح، ومن ضمن ما لاحظت أيضا في عروض مسرح الطفل أو نصوصه التي لم تنفذ بعد أنها تفهم معنى التربية التي يفترض بمسرح الطفل أن يقدمها لجمهوره من أطفال بشكل مغاير عن الواقع، إذ تفرض هذا العروض المسرحية على الطفل المتفرج وصاية أبوية، يلقن ما يجب وما لا يجب بشكل فظ ومباشر أحيانا. مسرح الطفل ليس فن وصاية ولا تلقين، بل هو فن يعتمد على التشارك مع الطفل في فسحة من الحرية، فالطفل خاصة طفل هذا اليوم، لا يمكن أن يتقبل تقديم القيم والسلوكيات الجيدة عبر قالب مباشر، فهو لا بد أن يعطى مساحته ليستشف هو من خلال الحكاية التي يشاهدها على خشبة المسرح كل القيم التي يراد لهذا المسرح أن يقدمه له، يشارك في التفكير تشاركا إيجابيا وليس تلقينيا.

من خصائص مسرح الطفل التي أجمع عليها عدد من النقاد المسرحيين والتربويين، أن تقدم الحكاية المسرحية على خشبة المسرح مغلفة بروح مرحة، بالفكاهة بعيدا عن السوداوية، فالضحك وسيلة تربوية مهمه، وهو ما يشير إليه زكريا إبراهيم في كتابه (سيكولوجية الفكاهة والضحك) “دلتنـا التجارب التي أُجريت على الأطفال على أن ثمة علاقة وثيقة بين الـضحك والترقـي النفسي عموماً، بدليل أن الأطفال الذين تتردد لديهم بكثرة حالات البكاء هم في العـادة أقل ترقياً من غيرهم. ومعنى ذلك أن الروح الفكاهية تقترن بالنمو النفسي فتكون فـي كثير من الأحيان بمثابة أمارة على سلامة العقل وصحته وقدرته علـى تفهـم حقيقـة الأشياء”، لذا من المهم في مسرح الطفل أن يكون ظريفا، يقدم الخطاب المسرحي بروح تتناسب مع ميل الطفل للعب والضحك بشكل مدروس، وهذا لا يعني أن نقدم عرضا مسرحيا كوميديا ينزع للإسفاف والابتذال، وهناك نماذج كثيرة من مسرحيات أطفال لم تدرك معنى أن تكون المسرحية ظريفة، فاستعارت مما يطلق عليه (المسرح التجاري) – مع تحفظي الشخصي على هذا المسمى- سمته وأعني هنا (الأفيهات أو القطات أو الذبات التي لا تحمل معنى) أيا يكن اسمها، فمسرح الطفل لا بد أن يدرس فيه كل كلمة، كل حرف ينطقه ممثل على خشبة المسرح.

من المهم أيضا، لكي نقدم حكاية ساحرة على خشبة المسرح، أن نستعين بالغناء والموسيقى، فقد نستغني عن الأغاني في مسرح الكبار، لكن سيكون الأمر غير مستساغ لجمهور مسرح الطفل، فالأطفال بطبيعتهم وفطريتهم يميلون للموسيقى والغناء، فهم يبدأون حياتهم بهدهدات أمهاتهم، وترانيم جداتهم، الموسيقى لا تنفك ابدا عن الناس، فكيف بالطفل. كلنا يدرك أن الموسيقى مهمة جدا لتربية الطفل، فهي تساعد في تنمية الادراك الحسي والقدرة على الملاحظة وعلى التنظيم المنطقي، وتنمية الذاكرة السمعية وزيادة القدرة على الابتكار، وعلى تدريب الأذن على التمييز بين الأصوات المختلفة، كما أن لها تأثيراً إيجابياً على شخصيّة الطفل وقدرته على التحرر من التوتر والقلق، فيصبح أكثر توازنا، وتستثير فيه انفعالات مثل الفرح والحزن والشجاعة والقوة والتعاطف وغيرها، وهو ما يساهم في إغناء عالمه بالمشاعر التي تزيد من إحساسه بإنسانيته.

كل هذا الغنى الذي تقدمه الموسيقى لا بد أن يجعلها حاضرة بشكل أساسي في مسرح الطفل، فالمسرحيات الموسيقية يكون لها وقع أكبر، وقدرة على الوصول للطفل المتلقي من المسرحيات التي لا تعتمد على الموسيقى أو الغناء. وهو ما اثبتته عدة تجارب مسرحية خليجية في مسرح الطفل، المسرح الموسيقي أكثر غنى من المسرح التقليدي الذي تغيب عنه الموسيقى والأغنية. فما أجمل أن نحكي كمسرحيين حكايتنا المسرحية عبر الموسيقى والأغنية، عبر الرقصات، وأكيد عبر سحر الصورة، فمسرح الطفل لا بد أن يكون غنيا أيضا بمفردات بصرية، بالألوان بالعوالم المتخيلة، فالطفل تدهشه العوالم العجائبية المتخيلة أكثر من المشاهد الواقعية.

هذا هو مسرح الطفل، قائم على الحكاية بالدرجة الأولى، فالحكاية بدأت منذ الإنسان الأول في الكهوف، حيث كان الحكي التسلية الأولى، واستمرت الحكاية تحرك الساكن فينا، تثير الأسئلة المنسية. مسرح الطفل أداة لا بد أن يتعاظم الاهتمام بها، حتى لا نفقد عالم الدهشة والسحر، وحتى لا نخسر جيلا بلا حكايات، فما أسوء العالم بلا مسرح وبلا حكايات.

 

يمكن الاستماع للورقة عبر بودكاست تشاكيل مسرحية على الرابط التالي:

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.