الكفاح في السعي نحو التمام

القلب حين يدافع عن نفسه بالترجمة

1 289

د. سعيد الجعفر

حدث أن التقيت الدكتور تحسين رزاق عزيز مصادفة، فقد قرأ بحثًا لي حول الرؤية اللغوية للعالم. ولما كان هذا البحث هو الوحيد في اللسانيات العربية حول الموضوع؛ فقد اتصل بي وصرنا نتحدث، وكأننا نعرف بعضنا منذ عقود، فهكذا يحدث حين تلتقي شخصا يشبهك في الافكار، ولكن الأهم في الرؤى الحياتية. فكلانا درس اللسانيات في جامعتين مختلفتين في روسيا، ولكون معظم المتخصصين في اللسانيات ينحون منحى دراسة النحو أو الادب، صارت طبيعة تخصصنا رافدا مهما لدخولنا في نقاشات طويلة في شؤون وشجون اللسانيات. الأمر الآخر، الذي جمعنا هو اهتمامنا بالترجمة، فقد ترجمت حين تعارفنا بعض الكتب عن السويدية والإنجليزية، بينما سار هو في درب الترجمة عن الروسية. وقد كانت لدينا آراء متقاربة حول مهمة المترجم ومسؤوليته الكبرى، رغم أن الترجمة صارت مهنة من لا مهنة له.

كنا نناقش دوما موضوعا شائكا هو موضوع المصطلح، واتفقنا حقا على ترجمة مصطلح روسي أخذ عن الألمانية هو اللوحة اللغوية للعالم كون المصطلح في الألمانية هو (Weltbild) وقام الروس بترجمته إلى (yazikovaya kartina mira)؛ أي اللوحة اللغوية للعالم. لقد كانت أطروحتي في فلسفة اللغة، وأفردت فصلا كاملا تناهز صفحاته المئة صفحة حول موضوع اللوحة اللغوية للعالم، وقد فرحت حقا أننا اتفقنا على ترجمة المصطلح الى لوحة العالم، بدلا من المصطلح الإنجليزي (language worldview) الذي يعني رؤية العالم، فلوحة العالم تعبير دقيق حيث يعكس كون المفهوم يتحدث عن رؤية انفعالية شعبية تعاكس الفلسفة، ولذا فهي لوحة فيها من الألوان والانفعالات ما لا يحصى. كما ناقشنا موضوع مصطلح (cognition) الذي ترجم الى المعرفة والعرفنة والعرفان، وكلها مصطلحات خاطئة كما نظن، خصوصا مصطلح العرفان الذي يذكر بمصطلح مركزي في فكر التصوف الذي، يسمى اصلا العرفان، كي يجري تمييزه عن المعرفة، كون العرفان هو معرفة الحقائق عن طريق الروح، في حين إن المعرفة هي الوصول إلى الحقائق عن طريق العقل، ولما كانت الصوفية تقف على الضد من استخدام العقل في معرفة الحقائق، جرى استخدام العرفان لديهم كمصطلح مركزي. وهكذا اتفقنا على ترجمة (cognition) إلى الإدراك. ولا زلنا أنا ود. تحسين نناقش شؤون المصطلح والترجمة كلما سنحت لنا فرصة. لقد كان د. تحسين ولما يزل مترجما يأخذ موضوع الترجمة بكل جدية وينقب عن الكتب التي يجب ترجمتها، ولديه مشاريع كثيرة قادمة رغم أنه ترجم الكثير من الروايات والكتب المرجعية في اللسانيات، بيد إن أهم عمل ترجمه كما اظن هو للمفكر اللساني الروسي الكبير بوتبنيا، الذي طرح أصلا في نهاية القرن التاسع عشر نظرية موازية لنظرية دي. سوسير دون أن يعرفا بأعمال بعضهما، وهي النظرية التي طورها لاحقا تلميذ بوتبنيا فورتوناتوف لتقترب كثيرا من نظرية دي سوسير حول الدال والمدلول. العمل الآخر الذي أنجزه د. تحسين وأردت أن اشير إليه هو “اللسانيات الإدراكية” الذي لم يترجم عنه حسب علمي سوى هذا العمل. الأدب والفكر والفلسفة الروسية هي عالم هائل لم تجر ترجمة الا النزر اليسير منه للأسف.

 ولذا أجد في ريادة د. تحسين أمرا مهما جدا سينعكس بالإيجاب على الثقافة العربية. أتذكر دوما بيتا للمتنبي وأضعه نصب عينيّ: “ولم أر في عيوب الناس شيئا/كنقص القادرين على التمام”. وهكذا اظن أن د. تحسين يسير في طريق تحقيق جوهر هذا المثل فهو يقارع الظروف لينتج لنا أعمالا روسية مهمة لكن بعيون عربية، اتمنى لهذا الإنسان الطيب المكافح كل الخير في مجال الترجمة التي تبوأ أصلا فيها موقع النجم المشرق في سماء الديجور العربي.

قد يعجبك ايضا
تعليق 1
  1. هناء خليف غني يقول

    شكرًا لهذه الشهادة د. سعيد. يستحق د. تحسين أن نحتفي بمنجزه. ترد مفردة cognition كثيرًا، وتتعدد ترجماتها. سألت أساتذة في علم النفس، قالوا إن ترجمتها الدقيقة هي (المعرفة)، مع لحظ أن (الإدراك) هو الأدق في كثير من السياقات.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.