قراءة إنطباعية في ثلاثة أفلام سعودية.. ضمن عروض نيتفليكس

ورشة فن _ سينما

0 596

عباس الحايك – السعودية

*المقال هو ورقة نقدية قدمت ضمن فعاليات منتدى أطراس (منصة افتراضية للسرديات)

يقول المخرج الأمريكي روبرت ألتمان أن “السينما هي كيف تعيش أكثر من حياة .. حياة جديدة مع كل فيلم تشاهده”، وهذا ما كان، فأن أشاهد ثلاثة أفلام متوالية للكتابة عنها هو أن أعيش حيوات شخوصها، أعرفها وأتقرب منها لأكتشف أكثر، فالمشاهدة الثانية هي مشاهدة تأمل وولوج أعمق في الفيلم وتفاصيله، والأفلام التي أتعرض لها بالقراءة في هذه السطور هي ثلاثة أفلام سعودية عرضت على منصة النتيفليكس، والأفلام هي (حد الطار)، و(عمرة والعرس الثاني)، و(آخر زيارة).

اخترت أن أشاهد فيلم (عمرة والعرس الثاني) أولاً، ربما لأنه فيلم خفيف وبسيط في فكرته الأساسية، اعتمد فيه المخرج على تناول موضوع اجتماعي بحس كوميدي واختار الكوميديا السوداء لتكون سمة لفيلمه، هو يسخر من كل شيء في هذا الفيلم، يسخر من الواقع ومن الأعراف الاجتماعية عبر شخوصه المتنوعين والمتباينين في أبعادهم، فالفيلم يتناول ذكورية المجتمع المحلي، المجتمع الذي وضع الرجل في مقام السلطة والسطوة، الرجل الذي يباح له كل شيء، في وجوده وغيابه، بينما المرأة تكون هامشية بلا اعتبار، يفرض عليها ذلك الرجل مستندا لهذه الأعراف الاجتماعية سطوته وقوته.

فعمرة- شخصية الفيلم الرئيسة- تبدو ضعيفة مستكينة، تحاول التخلص من ضعفها وهشاشة حضورها، وهي ترى بيتها يتمزق ويتشتت شملها، هي لم تستطع أن تهب لزوجها الغائب في عمله بعيدا عنهم صبيا كما يريد كل من حولها وخاصة والدة زوجها التي تضغط عليها لأنها لم تنجب من يحمل اسم ولدها، فالبنات الثلاث التي أنجبتهن عمرة وحسب وجهة النظر الاجتماعية التي تمثلها بشكل فاقع أم زوج عمرة وجدة البنات، مجرد كائنات على الهامش، رغم محاولتهن تجاوز هذا الهامش، فالابنة الكبرى قانطة وغير مؤمنة بالزواج وهو ما يجعلها تعود للعيش في بيت والديها، والوسطى تبدو متحررة وتحاول الخروج على كل الأعراف والأنظمة الاجتماعية، فهي تعبر عن عدم رضاها عن حياتها مع أمها بكل ضعفها بالتمرد ومصادقة شاب، والتحرر من أنوثتها بممارسة ما يمارسه الشباب، فهي ترغب في قيادة السيارة والتفحيط ولا تخجل من كونها فتاة في مجتمع ذكوري، والصغرى تملك حلما أن تكون عازفة، رغم أنها تعيش في هذا المجتمع المحافظ.

وسط كل هذا تجد عمرة نفسها تدافع عن ذلك البيت الذي تفقد استقراره، وسط تهديد زواج زوجها من فتاة سورية وجدها ساكنات الكمباوند من النساء تهديدا لهن، وتهديد تفكك علاقات عائلتها بعضها ببعض، وتهديد أم زوجها بطردها من البيت وطرد أمها التي تعيش معها لتحل محلها الزوجة الجديدة. عمرة أيضا تجد نفسها قربانا يراد لها أن تفدي الجميع. وثمة حكايات وحكايات يحملها الفيلم الذي يسخر فيه مؤلفه ومخرجه محمود الصباغ من كل الظواهر الاجتماعية التي باتت عائقا أمام تمكين المرأة واكتسابها حريتها الاجتماعية، حيث يقول في أحد حواراته عن الفيلم “أنا سخرت من كل الأطراف التي تريد أن تقدم حلا يخدم المرأة، ولكنها تمتهنها وتستغلها على مستويات مختلفة، في النهاية طرحي ساخر، مثل ما سخرت من (الشيخ) التقليدي ومن الخطاب القانوني والنسوي والمؤثرين في (السوشيال ميديا)، كل هؤلاء يريدون أن يأخذوا منها لا أن يعطوها”. ينتهي الفيلم بكل ما فيه من قسوة على عمرة، ومع كل محاولاتها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، باستسلامها لمصيرها لأنها وجدت أن الأهم هو اهتمامها ببناتها، بالصغيرة التي كان فوزها بجائزة العزف دلالة على قوة أكبر من قوة المجتمع ومحافظته وقسوته، قوة الفن، القوة الناعمة التي يمكنها أن تهشم كل قسوة.

في المشاهدة الأولى للفيلم، شعرت بارتباك، فلم أتبين بشكل واضح زمن الحكاية، ففي البداية كل شيء يوحي بأن الأحداث تدور في نهاية التسعينات، كل التفاصيل تقول ذلك، ديكور البيت، الهاتف الجوال، التلفزيون القديم، السيارات، قيم المجتمع ذاتها، لكن دخول تلفون البنت الكبرى الذكي إلى المشهد اربك الزمن، فصار غير واضح بالنسبة لي في أي زمن نحن، فكل التفاصيل نسفها السناب شات في شاشة الجوال، وتبين لي فعلا أن الفلم واقعي ممزوج بالفنتازيا، لذلك انتفى معنى كثير من الأسئلة حول منطقية الأحداث والتي سجلتها أثناء المشاهدة. المخرج تمكن فعلا من تقديم فيلم مشغول بعناية، فقد اختار أن يقدم كل أحداثه داخل كامباوند، أثثه بتفاصيل دقيقه ليخدم تكوينه للقطات وللصورة النهائية، فكل تفصيلة حملها دلالة معينة، من مدخل بيت عمرة إلى غرفة المعيشة، إلى غرفة البنت الصغرى، والمطبخ الذي بدا مملكة عمرة وسر قوتها، إلى شوارع الكامب وألوان البيوت، بالإضافة للتنوع البشري والمستوى الاقتصادي لسكان الكامباوند رغم أن عالم الكامباوند في السعودية وحسب السائد هو عالم وردي، ولكنه قدمه لنا ليثبت أنه لا يختلف تماما عن خارجه، فهو لا يختلف عن المجتمع بكل ما فيه، فرغم أن سكان الكامباوند هم من سكان شركة النفط الكبيرة، إلا أن فيها من الغني مثل الجار المرتاح ماديا والذي كان لطيفا جدا مع عمرة، وهناك البسيط ماديا كعائلة عمرة التي تجهد لتوفير حاجات بناتها وأمها التي تقطن معها من بيع مخبوزاتها في سوق الكامباوند النسائي.

مما يميز الفيلم بعيدا عن ما حمله من موضوعات، هو الأداء التمثيلي، خاصة لبطلته شيماء الطيب التي أدت دورها بإتقان رغم أن الفيلم هو تجربتها التمثيلية الأولى، فقد تمكنت من معايشة دور عمرة وأتقنت تجسيد الوجع الذي تعيشه عمره وأحلامها بامتلاك القوة بتمكن، وهو ما عكس اشتغال المخرج بشكل كبير على تجويد أداء شيماء الطيب كونها الشخصية الرئيسية، إلا أن بعض الممثلات اللائي أدين أدوارا ثانوية لم يكن أداءهن يخرج عن النمطي، ولكن أداء عمرة وبناتها وأم زوجها أنقذ الفيلم من الرتابة المحتملة. تمكن محمود الصباغ أن يقدم خطاب فيلمه دون أن يؤثر على خطابه الجمالي الذي أراده، فأكد على تمكنه من أدواته الإخراجية خاصة وأن الفيلم هو فيلمه الطويل الثاني بعد (بركة يقابل بركة).

الفيلم الثاني هو فيلم (آخر زيارة) سيناريو فهد الأسطا وإخراج عبد المحسن الضبعان وهو فيلمه الطويل الأول بعد عدة أفلام قصيرة، والفيلم شارك في عدد من المهرجانات السينمائية في أكثر من بلد، وحصد جائزة لجنة التحكيم في المهرجان الدولي للفيلم في مراكش 2019، الفيلم يتناول العلاقة الملتبسة بين الأجيال، علاقة عدم الرضا، وعدم القبول وعدم القدرة على التعايش بين اختلاف الأجيال، فمنذ بداية الفيلم نرى الأب ناصر ويؤدي دوره أسامة القس مع ابنه وليد، المراهق الذي أدى دوره عبد الله الفهاد في سيارة الأب في الطريق لحضور حفل زواج، في السيارة نلحظ الفجوة بينهما، لا حوار لا نظرات، فالابن يضع سماعة على أذنه لتفصله عما حوله، تصل مكالمة للأب تخبره باحتضار والده وجد وليد، ليدخل الجد على خط العلاقة، يتغير الطريق الذي يسلكانه من العرس إلى الجنازة، حيث يموت الجد لاحقا، وتبقى العلاقة على التباسها بين الأب والابن، لندرك أن الابن يبحث عن استقلاليته، عن كيانه بعيدا عن وصاية الوالد الذي يراه ما زال طفلا لا يعي ما حوله ولا يستطيع الدفاع عن نفسه وهذا ما عبر عنه الوالد بكل صراحة، بينما يرى المراهق أن أباه “غبي، ما يدري ويش يبي بالضبط”، هنا يتبين أن الفجوة بينهما عميقة جدا ومن الصعب ردمها.

الفيلم اعتمد بالدرجة الأولى على الاقتصاد في الحوارات المنطوقة لصالح الصورة التي اعتني فيها بشكل كبير خاصة وأن الفيلم يصور في قرية، بعيدا عن المدن وشوارعها الكبيرة، قرية بسيطة فيها من الهدوء الكثير، فقيم الريف حاضرة وتقاليد القرية مسيطرة، فالكل على مسمع ومرأى من الكل، فالغياب عن المسجد مثلا مفضوح، وهذه طبيعة القرية، ولكن رغم جمالية القرية وطبيعتها التي أعطت مساحة كبيرة للمخرج أن يشكل صورة سينمائية استعاض بها عن ثرثرة الحوارات. فالصمت السائد أعطى الصورة مساحة أكبر للقول، إلا أن القرية ينتهي بها المطاف لتكون مسرحا لحادثة غرق، حيث يكتشف وليد جثة الطفل الغائب عن القرية والذي كانوا يبحثون عنه، فحين أراد وليد أثبات قدرته على السباحة رغم أنه لا يجيدها ولم يعلمه والده، تظهر الجثة بالتوازي مع وفاة الجد، ليكتشف كلا من الأب والجد أنهما بحاجة للآخر، لم يقولا ذلك، ولكن المشهد الختامي الذي تبادل فيه الأب وأبنه النظرات، قال كل شيء، دون كلام زائد عن الحاجة.

في الفيلم تتجلى خبرة السيناريست فهد الأسطا في صياغة سيناريو الفيلم وحبك كل تفاصيله، مما أتاح للمخرج أن يؤسس للقطات شاعرية جميلة، لدرجة أنه تخلى عن الموسيقى، فلم يكن لها أثر، وقد لا يشعر المشاهد بغياب الموسيقى لأنها تنبع من جمالية الصورة، موسيقى متخيلة فرضتها العناية الفائقة في تكوين المشاهد. بالإضافة لتمكن الممثلين من أداء أدوارهم، كلهم بلا استثناء بداية بأسامة القس الذي يترك أثرا في كل دور يؤديه، مرورا بعبد الله الفهاد الذي امسك بخيوط شخصيته، مما جعله مقنعا في أدائها وانتهاءً بكل ممثل كبر دوره أو قصر.

واجه الفيلم نقدا حاداً من بعض المهتمين عبر السوشيال ميديا خاصة بعد أن فشل في الصمود في صالات السينما حينما عرض تجارياً، فلم يحقق إيرادات جيدة مما حدا بصالات السينما إلى رفعه باكرا. وربما يعود ذلك لطبيعة الجمهور الذي يبحث عن نوعية مختلفة من الأفلام ليس منها فلم (آخر زيارة) فالفيلم يصلح للعرض في المهرجانات، ولا يمكن أن يكون عرضا جماهيريا يمكن أن يحقق إيرادات جيدة. وهذا ما لم يدركه صناع الفيلم. الفيلم قد يكون جيدا إذا ما قيس بمنظار فني ونقدي، ولكنه بمقياس الجمهور المعتاد على الأعمال الهوليودية، سيكون فلما فاشلا.

الفيلم الثالث من أفلامنا هو (حد الطار) من تأليف مفرج المجفل وإخراج عبد العزيز الشلاحي، وجاء هذا الفيلم بعد تجربتهما الروائية الطويلة (المسافة صفر)، هذا الفيلم استطاع أن يحقق معادلة تبدو صعبة على السينما السعودية في الوقت الحاضر، معادلة القبول جماهيريا والحضور في المهرجانات، فالفيلم قدم في افتتاح عروض مسابقة آفاق السينما العربية في مهرجان القاهرة السينمائي في دورته الثانية والأربعين، وحصد إعجاب النقاد وفاز الفيلم بجائزة صلاح أبو سيف جائزة لجنة التحكيم الخاصة وحصل ممثله الرئيسي فيصل الدوخي على جائزة أفضل ممثل في المسابقة، كما حصل مخرجه على جائزة الإخراج في مهرجان مالمو للسينما العربية، وحظي باستقبال مريح من قبل الجمهور السعودي حين عرض في السينما السعودية، كل هذا لأنه تمكن من ملامسة الجمهور المحلي واقترب منه أكثر، فهو يصور قصة حُب بين دايل وهو ابن أخ سيّاف ينفِّذ أحكام الإعدام وهو الذي رباه بعد وفاة والده، وشامة وهي ابنة طقاقة، حيث التناقض الاجتماعي الكبير بين المهنتين، مهنة تعتاش على الأعراس والأفراح، ومهنة أخرى تسلب الأرواح بحكم القانون، وبينهما تتناوب الحكايات، حيث تمكن السيناريست مفرج المجفل من كتابة سيناريو واقعي جدا ولكن بروح شاعرية، فحتى اختيار عنوان الفيلم كان ذكيا جدا ويحمل دلالات عميقة في فهم التناقض بين (حد السيف) الذي يعني الموت، ونقيضه (الطار) الذي يعني الفرح والعرس. الفيلم يحكي عن علاقة حب، لكنها هنا علاقة غير مبتذلة، حكاية حب ككل العلاقات الجميلة والشفافة. هذه العلاقة هي الضلع الرئيسي لبنية الحكاية، حكاية دايل الذي يرفض أن يرث مهنة عمه ولا يريد أن يكون سيافا ينزع أرواح المحكومين بالإعدام بحد السيف، وحكاية شامة ابنة الطقاقة التي تجد نفسها في ورطة بعد أن اشترط (الشيوخ) أن يشارك في حفلهم عازفة أورج، فتجد نفسها مضطرة لأن تتعلم عزف الأورج لإنقاذ الفرقة من خسارة فرصة الغناء في الحفل، فهم بحاجة للمال ليدفعوا المال لكي يخرجوا (سرور) من السجن بعد جريمة قتل وإنقاذه من الإعدام.

العلاقة بين دايل وشامة تبدو مستحيلة من جهة عم دايل الذي أصر في حواره مع دايل بأن “ولد السياف ما يأخذ بنت الطقاقة”، وهو ما يجعل دايل يصر على أن تتوقف شامة عن العمل مع الفرقة وتعلم الأورج، وهو يحاول من جهته ألا يكون سيافا، لكن دايل في النهاية يضحي وينقذ رقبة سرور حيث يوافق على العمل كسياف للحصول على ميراثه الذي يمنعه عنه عمه، فيخسر شامة التي تتزوج في الأخير من سرور.

الفيلم أكد على أننا أمام مخرج يدرك تماما أين يسير، وكيف يضع خطواته في عالم السينما، فالمخرج على ما يبدو مرتاح تماما لسيناريو مفرج المجفل خاصة وأنهما يشكلان ثنائيا منذ بدايتهما مع الأفلام القصيرة، والمجفل يعرف مع أي مخرج يتعامل، مع مخرج حذر جدا ويهتم بالتفاصيل الصغيرة، لذلك وجد الفيلم طريقه للناس على شاشة السينما، هناك رضا عام عنه، عن ما قدمه من قيمة فنية وخطاب جمالي. كل طاقم الفيلم أبدعوا، ومنهم الممثلون وأولهم فيصل الدوخي، وأضوى الفهد المتناغمين جدا في أدائهما، وحتى ممثلي الصف الثاني، لم يكونوا بعيدا عن مستوى الأداء المتمكن، منهم علي إبراهيم، راوية أحمد، إبراهيم مسيسبي، هاشم هوساوي .. وغيرهم. هو فيلم سعودي بامتياز، يشبهنا، شخوصه حقيقية، أماكنه، أحداثه، وكل شيء.

روابط الأفلام على موقع IMDB

فيلم حد الطار:

https://www.imdb.com/title/tt13657102/?ref_=ext_shr_lnk

فيلم عمرة والعرس الثاني:

https://www.imdb.com/title/tt8917936/?ref_=ext_shr_lnk

فيلم آخر زيارة:

https://www.imdb.com/title/tt9685686/?ref_=ext_shr_lnk

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.