يهود روسيا وأوكرانيا .. بين بيروبيجان وشبه جزيرة القرم

0 370

إدريس بوسكين – الجزائر

في عام 1934 وبمبادرة من السفاح جوزيف ستالين تم استحداث المقاطعة اليهودية ذات الحكم الذاتي في أقصى الشرق الروسي على الحدود مع الصين، والتي اتخذت من مدينة بيروبيجان عاصمة لها، وقيل أن ستالين ذي الأصول الجورجية قد ضاق ذرعا باليهود المحيطين به آنذاك، والذين كانت لهم رغبة شديدة في إقامة كيان لهم بشبه جزيرة القرم؛ فأقام لهم هذه المقاطعة حتى ينسيهم القرم وينفيهم ولو بطريقة غير مباشرة عن محيطه، بينما اعتبر آخرون أنه أراد منحهم مقاطعة خاصة بهم بناء على رغبتهم وبعيدا عن “الجوييم” (لفظ تحقيري يطلقه اليهود على غيرهم) حتى يقيموا عليها كيانا يجمع شتاتهم، ولكن اليهود وبعد أن سكنوها لمدة رفضوها كليا لبعد المكان عن موسكو وعزلته عن العالم مفضلين مكانه جنتهم “الموعودة” شبه جزيرة القرم، الأرض الأم لشعب التتار. صحيح أن هناك بعض الجماعات اليهودية الأصيلة بشبه جزيرة القرم إلا أنهم عرقيا من التتار المتهودين ويتمثلون في كل من قوميتي الكريمتشاك والكاراييت (الكاراييم)، ولغتهم هي التترية وأعدادهم تقدر ببضعة مئات فقط، وأما الأشكيناز فليس لهم أي علاقة بالمكان وإن كانوا أبناء عمومة كونهم ينحدرون من نفس الأصل التوركي (حفدة الأتراك الخزر). إن شبه جزيرة القرم هي من بين عديد المناطق في العالم التي لم تنل حريتها بعد، فرغم توفر كل مقومات الاستقلال التتري كأصالة الشعب واللغة والتاريخ والأرض والثقافة الخلاقة والعاصمة الرمز “باختشساراي” (معنى الاسم بالتترية وبقية اللغات التركية حديقة القصر) إلى أن التتار هناك لم يتمكنوا إلى اليوم من قطع خطوات كبيرة في هذا المجال؛ نظرا لتعارض الاستقلال والخطط الصهيونية العالمية للإستحواذ عليها، وكذا التواجد الكبير للعنصر السلافي نتيجة توطينه من طرف الحكام الروس منذ احتلال الإمبراطورة يكاتيرينا الثانية للمكان عام 1783، بعد حروبها الطويلة مع العثمانيين، ونتيجة أيضا لعدم دعم العالم الغربي لهم كونهم مسلمين.

موقع بيروبيجان في روسيا
موقع بيروبيجان في روسيا

يبلغ عدد سكان شبه جزيرة القرم اليوم قرابة المليوني نسمة، منهم ثلاثة عشرة بالمائة فقط من التتار السكان الأصليين أي حوالي الثلاثمائة ألف تتري بينما حوالي ثمانية وخمسون بالمائة منهم روس وأربعة وعشرون بالمائة أوكرانيين، أي أن أغلب السكان هم من السلاف الشرقيين المستوطنين، وقد قام هؤلاء وعلى مر سنين طويلة بنشاط كبير لـ “أروسة” البلاد و”أسلفتها”؛ فعلى سبيل المثال تم تغيير أسماء العديد من الحواضر التاريخية على غرار اسم المدينة الساحلية الشهيرة” آكيار” (الجرف الأبيض) التي صارت “سيفاستوبول”، ومدينة “آق متشيت” (المسجد الأبيض) التي صارت “سيمفروبول”، ولحسن الحظ أن بعض المدن التاريخية لا تزال تحتفظ إلى اليوم بأصالة أسمائها التترية على غرار “يالطا” المدينة الشهيرة التي احتضنت “مؤتمر يالطا” نهاية الحرب العالمية الثانية، والذي جمع أبرز زعماء العالم آنذاك (السوفياتي ستالين والبريطاني وينستون تشرشل والأمريكي فرانكلن روزفلت)، حيث أن اسم هذه المدينة مشتق من كلمة “دجاليدا” أو “ياليتا” ومعناها بالتترية القرمية “ساحلي” أي “المدينة الساحلية”. ولأن اليهود الأشكيناز طالبوا من لينين (ذي الأصول التشوفاشية التوركية واليهودية أيضا من ناحية جدته)، ومنذ عشرينيات القرن الماضي، السماح لهم بإقامة جمهورية ذات حكم ذاتي في القرم كان مخططا لها أن تستقل عن الاتحاد فيما بعد، فقد تطورت مطالبهم هذه أعواما من بعد وخصوصا عام 1928 لما قرر ستالين أخيرا منحها لهم فثار التتار عليه بقيادة مثقفيهم وزعمائهم فتمت إبادة الآلاف منهم في عدة أيام، غير أن تضحياتهم لم تذهب سدى حيث فشلت خطة التسليم فشلا ذريعا، وبعيد نهاية الحرب العالمية الثانية واندحار النازية، عاد اليهود مرة أخرى لمطالبهم مستغلين وبدفع منهم الإبادة الرهيبة التي ارتكبها ستالين من جديد في حق ملايين من التتار وطرده لمن بقي منهم إلى أقاصي آسيا الوسطى معتمدين في نفس الوقت على الأموال الضخمة التي كان يرسلها لهم يهود الولايات المتحدة الأمريكية لتحقيق مآربهم تلك، وهذا المخطط الشيطاني تسبب مع الوقت في غضب ستالين الذي وجد نفسه محاصرا من قبلهم و”مقروفا” من خططهم ما جعله يقدم على قتل الكثير من نخبهم المثقفة. ومع قيام “إسرائيل” في أرض فلسطين، سارع ستالين للاعتراف بها حتى ينسي يهوده نهائيا في أرض القرم وحتى يتحاشى خصوصا ضغوط إخوانهم اليهود الأمريكيين الذين كان مدينا جدا لهم، وبعد وصول نيكولاي خروتشيف إلى الحكم عام 1953 قام بمنح القرم لبلاده الأصلية أوكرانيا قاضيا بذلك ونهائيا على مطالب اليهود وأحلامهم.. أو هكذا كان يعتقد. لقد اعتبر اليهود الأشكيناز وفي أغلبهم أرض فلسطين بمثابة أرض شتاتهم الحقيقية الموعودة بالنظر لقدسيتها لديهم، وبأنه لا يمكن أبدا أن يعوضها مكان آخر في هذا العالم، غير أن زعماءهم ورغم ذلك مازالوا يعملون وإلى اليوم على توطين بني جلدتهم في شبه جزيرة القرم فهي مازالت في فلسفتهم الأرض التي يمكن أن تحتضنهم يوما ما في حالة ما إذا .. زالت “إسرائيل”.

إن ستالين وحتى لو لم يكن يهوديا إلا أن كل المحيطين به كانوا من اليهود بمن فيهم عشيقاته، فسياساته إذا لم تكن لتتجاوز هؤلاء، ولو أنه قام بأمور كثيرة “تسيء لهم” والتي من بينها أيضا “تحالفه” مع أدولف هتلر عام،، 1939 وقتله للييف تروتسكي وهو حتى في المكسيك بسبب الخلافات الأيديولوجية الحادة التي كانت بينهما وعلى رأسها اتهام تروتسكي له بأنه لا يؤمن أصلا بالشيوعية وبأنه مصاب بجنون الحكم وهو أمر لم يكن ليغفره له ستالين الذي أمر بتصفيته على الفور.

اليوم ما زالت المقاطعة اليهودية قائمة بأقصى الشرق الروسي وهي ورغم فقرها مركز مهم وعريق للثقافة اليهودية في روسيا والعالم، ولكنها لم تعد تحوي إلا بضعة آلاف من هؤلاء الأشكناز الخزر مقابل أكثر من مائة وثمانين ألفا من سكانها وأغلبهم من محافظات وجمهوريات سيبيريا المجاورة وكذا المهاجرين وخصوصا منهم الصينيين، وقد غادرها معظمهم إلى “إسرائيل” حيث يقدرون اليوم هناك بأكثر من مليون شخص بينما فضل آخرون الرجوع إلى غرب روسيا وإلى موسكو بالتحديد.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.