الإعداد الدراماتورجي للنصوص المسرحية
سعاد خليل – ليبيا
كما هو مفترض، أن العرض يبدأ بالتكون والبحث عن المادة، أي منذ مرحلة إعداده؛ وهذا كما نعتقد هو الأصح؛ لذلك من الطبيعي والضروري أن تكون لحظة، ننتقل بها إلى بدء رؤيته مشخصا على الخشبة. وعليه، يمكننا أن نقول جعل العرض واقعيا، أو تشكل العرض وتكوينه، وكلمة العرض واقعا، ربما هي أصح؛ لأنها مرحلة محددة تبدأ بلحظة التدريب الأولي في تنفيذه، مرورا بأيام عرض، إلى آخر لحظة في حال تشخيصه.
إن لكلمة إعداد معنى شاملا بالطبع؛ فالإخراج مثلا يدخل ضمنها، لذلك يمكن أن يكون ثمة نوع من هذا الادعاء نطلق عليه اسم أو صفة الدراماتورجي. هذا النوع بدوره، وهو يشارك الإخراج في هذه المرحلة، يقوم بنشاط فكري لحل المسائل التي تواجه هذا الإخراج، وفي هذا النشاط يأخذ الإعداد الدراماتورجي مبرر وجوده من جهة، كما يتعمق دور الإخراج المسرحي في تحقيقي المسرحية من جهة ثانية.
ربما تكون هذه المرحلة شائكة بعض الشيء، وحرجة لقربها من الإخراج نفسه، أو لتقاطعها معه في نقاط عديدة. هذا التقاطع هو البحث، وهو الفكر، وتلك النقاط هي مسائل الإخراج ذاتها من منبع رؤيوي ومن مناح ميدانية أيضا؛ كيلا يقع لبس ما؛ فيقول قائل: وماذا بقي للإخراج؟ فيجب أن تكون هذه المسألة واضحة من خلال إذا أردنا أن نوسع قدرات الإخراج واتجاهاته، فربما يتزامن مع نشاط يسمي: الإعداد الدراماتوجي، وربما يكون هذا النشاط أو هذا الجهد سيكون له صفة الفن أيضا ولأسباب ربما اتضح بعضها.
في المفهوم العام، وكما يعرفه الدارسون والباحثون عن الدراماتورج كما كتبت زبيدة بوغواص: عن النص والعرض، حيث لا يمكن أن يتحقق إلاّ بالانتقال بالنص إلى الخشبة، وكيف الحاجة إلى كتابة أخرى تراعي هذا الانتقال، وهي الوظيفة التي يبحث عنها الدارماتورج، ومن هنا تبدأ مركزيته.
في هذا المقال، كما ذكرنا في بدايته، سنتناول الإعداد الدراماتورجي وبالتأكيد كلها أساسيات في مفهوم الدراماتورج.
إن الإخراج كمسؤولية عامة لنقل ذلك على الأقل عن العمل المسرحي، فما هي الدواعي التي توجب قيام نشاط آخر أو تجيزه، من أجل تحقيق هذا العمل؟ وخاصة أن كليهما يقابل الخشبة، أي يوجه جهوده نحوها ضمن الدراسات في هذا الخصوص نجد دراسة للأستاذ: زياد فواز كرباج عن واقعية العرض المسرحي.
تقول هذه الدراسة أنه من بداية هذه الدواعي، بدء الإخراج المسرحي نفسه بالمعني الحديث المتعارف عليه، فقد وجد متزامنا مع بدايات السينما في نهاية القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، بفعل ظروف تاريخية وفنية معينة؛ ليعطينا هذا البدء بدوره علاقة عرض مسرحي ما مع الحاضر، بمعنى أن كل عرض يشكل راهنتيه ليصبح فيما بعد، إن أمكن، جزءا من تاريخ المسرح ككل؛ فمثل هذه العلاقة تستوجب لا شك الدراسة كحالة من حالات الاعداد المسرحي.
الإعداد المسرحي في نهاية أي تعريف له، مهما كان اكاديميا، نجده تطبيقا فينا، أو بالأحرى خلقا فنيا من خلال وسيط لغة المسرح؛ فعندما يكون ثمة تطبيق ويتصف بالخلق، فسوف يستدعي موضوعه – وهذا الافضل، أو هذا، الضروري دراسة ما، من هنا يمكن أن ينشأ في المسرح، أو يزاول فنا آخر، له صفة العنصر كان نقول:
والتمثيل، ربما نصل بذلك إلى مبرر لهذا الفن الإعداد للمسرحة، أو الإعداد الدراماتورجي للمسرحة – من منابع المسرح ذاته.
عندما اربط الإخراج بالخلق، بمعنى النظر إليه من طبيعة الفن العام، إن أهم ما في هذه الطبيعة قدرتها على الخلق والإبداع بغض النظر عن ماهيتها؛ فهذا يستوجب مجالا آخر. المهم، لا يكفي لتلك الطبيعة أن تكون تفسيرية فقط، لأنها ليست الأمثل: إلا إذا كان هناك هدف لحد ذاته، لا يراد منه إلا التفسير.
تحت عنوان: المخرج كفنان مفسر قيل:
المؤلف المسرحي في المسرح هو وحده الفنان المبدع الخلاق. أما المخرج والممثل ومصمم المناظر، ففنانون مفسرون. فهذا الكلام لا يمكن أن يكون صحيحا، لأن كاتبه راح ينظر إلى الفنون، قسم منها يفسر وآخر يبدع، فلا يوجد مبرر يجعلنا أن نفسر فنا ما ليكون مفسرا فقط. صحيح أن ليس كل إخراج بذي خلق، لكن هذا الخلق صفة فنية ليست منفصلة عنه. إن مثل هذا الارتباط يجل ذلك الإعداد، برغم ما فيه من تفسير على شيء من الابداع ايضا، إن لم يكن ابداعا.
من تلك الدواعي أيضا: فمثلما يعتبر الإخراج فنا يعتبر علما. كيف؟ إذا نظرنا إلى فن المسرح بعامة نجد خلف كل ظاهرة من ظواهره، أسبابا لتواجدها. من هذه الأسباب ما يدعو إلى تكوين أسلوب ما، يعرف اصطلاحا بالأسلوب الإخراجي أو المدرسة الإخراجية؛ لذلك قدم سابقا الإخراج بمفهومه المعاصر، لأننا لا نستطيع أن نعدم اشكال وتوازن الاخراج قبل ظهوره.
إن ادولف ابيا، وهو يتحدث عن استقلالية العرض المسرحي في أواخر القرن التاسع عشر، كان يعمق مفهوم الأسلوب الإخراجي من حيث هو أسلوب خاص غير تابع لهذا الفن أو ذاك، فكان ابيا بهذا المعني يشكل نقطة تحول هامة على صعيد تبلور هذا الأسلوب؛ أي على صعيد ما تحقق من الناحية القواعدية التي يفضل أن نقول عنها الناحية العلمية؛ لأنها تتضمن التاريخية والجمالية في آن. هذان العنصران أو الصفتان ستساعدان في خلق الظاهرة المسرحية الضرورية في حينها.
إذن، مِمَّ ينطلق هذا الإعداد الدراماتورجي لجعل العرض واقعا؟ في هذه المرحلة يدرس كل من الزمان والمكان من خلال كونهما محورين، يوجدان حاضر العرض المسرحي، فكل منهما ينقسم إلى قسمين: حقيقي، وتخيلي، الحقيقي بالمعني الماثل أمامنا، والتخيلي بالمعني الماورائي. يعكس المحوران في ارتباطهما مدى فعالية العرض في زمن عرضه، كما يعكسان حالة متميزة في البحث عن خصوصية المكان من حيث هو معمار إقامة العرض في مكان مغلق أم في مكان مفتوح؟ من خلال دراسة هذين المحورين، ينطلق هذا الإعداد من علاقة المسرح مع غيره أولا، من خطة العرض الإخراجية التي تبرز هنا من المخرج، ومن الفرقة ومحيطها، ومن النص، ومن تطوير هدف العرض، ومن خطة العرض هذه ثانيا.
أن تفهم ما يقيمه المسرح من علاقات مع غيره من ثقافة وفنون مختلفة، ضروري في عملية توليد العرض المسرحي. إن الموسيقي والرسم والمسرح فنون مرتبطة فيما بينها ارتباطا وثيقا؛ وقوانين الموسيقي وقوانين الرسم تنتقل إلى المسرح عبر خيال المخرج؛ إذ أن مثل هذا الخيال هو إحدى العمليات العقلية الدينامية التي تستطيع أن تتمثل ثقافة ما، وهذا ما يستوحي أصلا من قول (ماير خولد) أليست العلاقة وثيقة بين الديكور والفن التشكيلي؟ أو بين مفهوم الاضاءة في المسرح ومفهوم اللون في السينما؟ أو بين أبعاد أي عرض على الخشبة وقوانين فن النحت؟ أليست العلاقة وثيقة بين العرض ككل، أو جزء من أجزائه، وثقافات مختلفة مثل الاقتصاد والسياسية وغيرهما. إذا أخذنا بهذا التفهم؛ فإننا نكون قد أيقنا بضرورة مثل هذه العلاقات، للتوجه نحو بناء العرض المسرحي. توجه يغتني من التعامل مع خطة الإخراج التي تشتمل على كل ما يتعلق بتحقيق العرض المسرحي، مثلما يغني هذه الخطة بتبلورها. هذا الاغناء هو هدف الإعداد في هذه المرحلة.
إن التعامل مع المخرج إنما يقوم على اعتباره ليس مخرجا مفسرا، أو منظما لعمليات تنجز العرض، وإنما هو أحد بناة هذا العرض؛ فيمكن إيجاد المخرج المسرحي بشكل عام؟ لكن المهم أن يكون مبدعا.
“ويعتقد البعض أن العمل الإخراجي يتمثل بصورة أساسية بأن يقيض للممثلين إنسان ملهم، ينثر أمامهم ثمار تأملاته وخيالاته الخصبة. إنسان عارف بكل شيء.. ولكنني أعتقد بأن المخرج قبل أن يحلق على متن حصانه الطائر، ويسرح في تخيلاته، لابد أن يضع في حسابه أنه منظر قبل أي شيء آخر”
فمِن هذا الشيء الآخر يستمد الإعداد للمسرحة امكانات ليحلّق.
الفرقة، ما طبيعتها؟ هواة؟ أم محترفة؟ تجانسها؟ تدريبها؟ ثقافتها؟ لقاؤها؟ باختصار: ما مسار حياتها؟ إن العلاق مع مثل هذه المسائل ستعكس كيفية ما، على العرض، إن اشكالا لمحيط الفرقة، كتكوينها الاجتماعي، وكالرقابة ستؤثر إيجابا أو سلبا على هذه الكيفية، وذلك حسب دور هذا الشكل أو ذاك.
وحين يقال: التعامل مع النص، فهذا يعني من حيث الهدف، تفهم عوالمه كافة، من جو، وشخصيات وبيئة، وموضوع، وكذلك من زمان، ومكان، يتعلق بالنص، ثم إن الطريقة التي تؤدي لتحقيق ذلك تختلف حسب الخطة الإخراجية، وحسب ظروف العرض؛ فقد يكون هذا التعامل من خلال القراءة أولا، أو من خلال الحركة وهكذا.
في مجال هذا التعامل، تبرز أيضا قضية هامة، هي التعامل مع المؤلف، ولاسيما إذا وجد فاصل زمني بعيد بينه وبين العرض؛ فمادة نصه، وملاحظته النصية والإخراجية هي نتيجة لبيئة وتقنية معينتين، كانتا سائدتين وقت نسجه للمادة، ووضعه هذه الملاحظات. يكون التعامل مع النص من خلال النظر إلى تطوير هدف العرض أيضا من حيث تخيل طبيعته قبل أن يبدأ، ويأتي تطوير هدفه، بتعميق فعالية العرض نفسه، إذ أن كل عنصر من عناصره يشارك في هذا التعميق، من تحفيز، أو تحريض أو أي أثر في سبيل ذلك، فيمكن أن يكون عندنا أن صح التعبير عدة أوجه مختلفة في الإعداد للمسرح: للممثل، للديكور، وهكذا.
وفي التمثيل، تدرس الشخصيات التي ستوجد، وإن كانت موجودة في الواقع لتصل إلى امكانية وجودها فنا. يدرس مكان (مختبر) التدريب، باعتباره غير محدود، ولو كان ذا جدران أربعة، وتدرس المهارات من جسد وصوت وحركة وايماءة، ويدرس علم التمثيل وفنه. كذلك يدرس كل بُنَى الشخصية المقدمة إلى خشبة المسرح، بما تقيمه من علاقات بينها وبين الممثل باعتبار كل منهما، بمعني ما هو غير الاخر، وينظر ما إذا كان بالإمكان أن يتوصل إلى مفهوم الدور بمعنى: تركيبه، وتوليده، ونموه، وحياته؛ وهنا تدخل دراسة فيزيولوجيا الممثل، وأهميتها له، وربما بمعني أعمق دراسة ما هو سيكولوجي.
يدرس الديكور باعتباره فنا يبين العرض بلغته: لغة الرسم والتشكيل. بلغة كل قطعة منه، ولا سيما وظيفتها الاستعمالية، إذا اعتبرنا أن الوظيفة الجمالية لوحدها مستقل مثلما هي مرتبة بغيرها.
تدرس الاضاءة، المعدات والأدوات والأشياء المسرحية، كالإكسسوارات والملابس. يدرس كما قلنا كل عنصر مركب للعرض، مع التركيز في هذه المرحلة على دور كل من عناصر العرض، والموقف الفكري من وجوده وليس تفصيل هذا الوجود، وبناء وظيفته الدرامية في العرض المسرحي ككل، وخاصة إن كانت هذه الوظيفة تتطلب الابتعاد عن الزينة والبهرجة لمجرد كونهما هكذا.
إن الإعداد الدراماتورجي للمسرحة، وهو يقوم بمعالجة مسائل العرض كافة، هو معالجة فكرية فنية في المرحلة التي تعد لأن يكون العرض واقعا، يبدأ تطبيقه الفني مع الإخراج نفسه من أول التدريب إلى ليلة العرض الأخيرة، حتى تكتمل هذه المرحلة.
اكتفيت في هذه المرحلة بمجرد استعراض هذه العناصر وكيفية العمل لتنفيذها وموقعها من مراحل الإعداد، أما دراسة كل عنصر بمفرده، فهذا يحتاج لتفصيل أوسع يمكن أن يكون من خلال عنوان منفرد فقط كالإعداد الموسيقي للمسرح. ولا شك أن هذه الدراسات المنفصلة تغني الاهتمام بمثل هذا الاعداد، وهي لا شك موجودة في حالات مختلفة؛ فبالعودة إلى التطبيق الفني للإعداد، في هذه المرحلة نجده يستمر، أو من الضروري أن يستمر في دوره في معالجة العرض، ليأخذ بعين الاعتبار ردود الفعل عليه مثل رد فعل الجمهور، أو رد فعل النقاد، أو رد الفعل الاعلامي.
يأخذ ذلك ليلم خصائص هذه المرحلة لينظمها في سياق العرض، ثم ليقوم اضاقة إلى ذلك كله بدوره التربوي الموضح العلاقة القائمة فيبن الفنان والعمل الفني على اساس من الحب للفن ذاك الذي يكان يكون مطلقا.