تتار روسيا .. أولئك المجهولون

0 325

إدريس بوسكين – الجزائر

تعتبر كازان (قازان) عاصمة جمهورية تتارستان وعاصمة التتار التاريخية في روسيا، مدينة حضارية في قلب الفيدرالية الروسية، وعلى ضفاف نهر “الفولغا” العظيم، ومن أهم مراكز روسيا الاقتصادية والعلمية والثقافية والرياضية. بالإضافة إلى التتار سكانها الأصليون (يدعون أيضا “تتار الفولغا” ويسمون أنفسهم “بولغار” وهم شعب توركي Turkic)، فإن عددا كبيرا من الأجناس الأخرى يقطنونها ومنهم طبعا الروس؛ حيث تسودها أساسا اللغتين التترية والروسية، بالإضافة للتشوفاش، وهم شعب توركي آخر، ولكنه مسيحي الديانة أورثودوكسي، وكذلك البشكير وهم شعب توركي أيضا غير أنهم مسلمون سنة تماما مثل التتار. كلمة “قازان” في اللغة التترية وبقية اللغات التوركية معناها “المرجل”، وقد أعلنت البلاد استقلالها من جانب واحد عام 1990 بعد انهيار الشيوعية؛ ولكن موقعها وسط روسيا عجل بفشل مشروعها التحرري في المهد؛ وهكذا فإنها اليوم حاضرة متعددة الإثنيات والمعتقدات والثقافات، وتستحق بحق لقب العاصمة الثالثة لروسيا بعد موسكو وسان بطرسبرغ، وإن كان التتار يصفونها بالعاصمة الثانية.

يعيش التتار أيضا في شبه جزيرة القرم المطلة على البحر الأسود، والتي ضمتها روسيا في 2014 بعد أن كانت تابعة لأوكرانيا، وهم يسمون تتار القرم، ويختلفون تاريخيا عن تتار الفولغا (تتار كازان) وغيرهم من تجمعات التتار في أوراسيا كتتار سيبيريا وتتار القوقاز وتتار بولندا والبلطيق (ليبكا تتار)، وكلمة القرم في اللغة التترية وبقية اللغات التوركية معناها “القلعة” أو “الحصن”، وإذا عدنا إلى التاريخ فإن التتار هم السكان الأصليون لشبه جزيرة القرم (أول شعب استقر بشكل كلي في المكان)، وقد تميز تاريخهم هناك (تاريخ خانية القرم التي قامت بعد انهيار “القبيلة الذهبية” المغولية) بالعديد من الحروب ضد الروس، لدرجة أنهم أحرقوا موسكو في 1571 لما كانوا تحت حماية العثمانيين؛ وهذا كرد فعل على جرائم القتل والنهب والحرق التي مارسها الروس ضدهم أولا.

بعد أن كانت القرم (خانية القرم) تدين بالولاء للإمبراطورية العثمانية، احتلتها أخيرا روسيا القيصرية بمساعدة من الأوروبيين عام 1783، وقد كان الاعتقاد الدائم للروس أن السيطرة عليها معناه السيطرة على البحر الأسود ولو جزئيا، ووضع قدم في المياه الدافئة (مياه البحر الأبيض المتوسط)، ومع تأسيس الاتحاد السوفياتي منح فلاديمير لينين التتار حرية نسبية لثقافتهم اللادينية ولغتهم وهويتهم، بل واعترف بهم كسكان أصليين لشبه الجزيرة، غير أنه في العام 1944، ومع قرب نهاية الحرب العالمية الثانية، نفى السفاح جوزيف ستالين (الجورجي الأصل) أغلب هؤلاء التتار إلى سيبيريا والإمبراطورية العثمانية ومختلف جمهوريات الاتحاد في آسيا الوسطى والقوقاز؛ بتهمة ملفقة تتعلق بالتواطؤ مع النازيين، في عملية نقل برية لهم عبر آلاف الكيلومترات عبر قطارات بدائية؛ نتج عنها وفاة الآلاف منهم، وقتل كبار قادتهم وشعرائهم وكتابهم ومفكريهم، وتشويه مدنهم التاريخية، وتهديم مبانيهم القديمة بما فيها 1500 مسجد، وقد تم بالمقابل جلب السلاف بدلهم وخصوصا الروس لتوطينهم فيها. في العام 1954، منحها نيكيتا خروتشوف لبلاده الأصلية أوكرانيا (أوكرانيا السوفياتية آنذاك) وقد جلب بدوره مزيدا من السلاف إليها وخصوصا الأوكرانيين.

في العام 1989، سمحت السلطات السوفياتية بعودة التتار إلى القرم؛ فعاد عشرات الآلاف منهم، وخصوصا من أوزبكستان وتركيا وأوروبا، غير أن أعدادهم صارت لا تتجاوز بضع مئات من الآلاف بعد أن كانوا بالملايين في نهاية القرن الثامن عشر. وفي العام 1991، استبشر التتار خيرا بانضمام شبه الجزيرة لأوكرانيا المستقلة بعيد انهيار الاتحاد السوفياتي، غير أن أغلبهم كان لا يزال يحلم بالتحرر والاستقلال النهائي لتتبخر أحلامهم نهائيا في 2014 لما أعادت روسيا ضمها.

يعتقد معظم الناس تقريبا بأن روسيا لا يسكنها إلا الروس، وبأن كل شخصية مشهورة في البلاد هي روسية إثنيا بالضرورة، ولكن الأمر غير ذاك في واقع الأمر؛ فهذه الدولة الواقعة في قارتين، والتي تعتبر الأكبر في العالم من حيث المساحة، تحوي في الحقيقة أكثر من مائة وثمانين جماعة بشرية من مختلف الإنتماءات العرقية الكبرى (هندو-أوروبيين، ألطايو-أوراليين، قوقازيين ..) والديانات (مسيحيين، مسلمين، يهود، بوذيين، تنغريين، لادينيين ..)، وعدد كبير منها تقطن جمهوريات خاصة بها تعتبر أرضها الأم وموطن آبائها وأجدادها ومنذ آلاف السنين.

وبالعودة إلى تتار تتارستان، فقد عاش هؤلاء في موطنهم الشاسع حوض “إتيل” (“إتيل” هو الإسم الأصلي لنهر “الفولغا” ومعناه في اللغات التوركية “النهر الكبير”) منذ قديم الزمان، ولما حل عليهم الرحالة ابن فضلان في سفارته الشهيرة للعام 924 ميلادي، بأمر من الخليفة العباسي المقتدر بالله، وجد أن لهم دولة عظمى يسوسها ملك مبجل، غير أن هجمات المغول عليهم بعد تأسيس الإمبراطورية المغولية عام 1206 من طرف المحارب الأسطوري جنكيز خان حطمت حاضرتهم التاريخية “بولغار”، وبنياتهم المجتمعية، وأجبرتهم على الدخول عنوة في جيوش المغول الغازية للسيطرة على أكبر قدر من أراضي سيبيريا الغربية وأوروبا الشرقية، وخصوصا خلال فترة حكم حفيد جنكيز خان “باتو خان” الذي ساد من عام 1227 وإلى عام 1255، حيث يعتبر مؤسس “القبيلة الذهبية” التي ظهرت بعد انقسام الإمبراطورية المغولية وحكمت روسيا وما جاورها لما يقارب القرنين من الزمان، وكانت عاصمتها “سراي باتو” الواقعة اليوم بجنوب غرب روسيا بين أستراخان على الساحل الشمالي لبحر قزوين ومدينة فولغاغراد (ستالينغراد سابقا). وقد كان أغلب سكان هذه “القبيلة الذهبية” من التتار الذين أسلموا فيما بعد بشكل كلي في القرن الرابع عشر رفقة حكامها المغول على قلتهم؛ فصارت دولتهم الجديدة تترية الهوية والثقافة واللغة والدين والبشر.

 وبعد أن زالت سيطرة التتار على الروس التي امتدت من القرن 13 وإلى غاية القرن 15، قامت إمبراطورية روسية كبرى على يد قياصرة سفاحين امتدت حتى أقاصي شرق روسيا، ففي العام 1310 أخذ الروس يسترجعون قواهم بهزيمة ديمتري دونسكوي (أمير دوقية موسكو) للتتار في معركة كبيرة جرت بحقول “كولييكفا” قرب نهر “الدون” (حاليا مقاطعة تولا غرب روسيا قرب الحدود الأوكرانية)، ورغم أن هذا الانتصار لم يكن حاسما إلا أن الروس خلدوه في تاريخهم حتى صار من الأساطير، غير أنه بعد سنتين فقط أعاد التتار هجومهم مرة أخرى، فاحتلوا موسكو وفرضوا الجزية على سكانها، ولكن ابن جلدتهم المحارب التاريخي تيمورلنك هاجمهم فجأة عام 1396 وقضى عليهم نهائيا محطما بذلك وإلى الأبد عصر “القبيلة الذهبية” الأسطوري أو “ألتين أردا” كما يسميها التتار أو “زلطايا أردا” كما يسميها الروس (نسبة لخيمة الخان المذهّبة).  وخلال القرن الخامس عشر، تفرقت هذه الأخيرة إلى خانات كان منها ثلاث رئيسية في كل من كازان وأستراخان والقرم (خانية القرم)، وأخرى صغيرة مبعثرة على طول مجرى الفولغا وجبال الأورال؛ وهذا التشتت مكن إيفان الثالث أمير موسكو من أن يحرر نفسه، ويستولي على الكثير من الأراضي الروسية المجاورة، ويجعل من موسكو نفسها عاصمة لها ولأول مرة في التاريخ؛ ولهذا يطلق عليه أحيانا لقب “مؤسس الأمة الروسية”، غير أن إيفان الرابع أول قيصر في تاريخ روسيا كان هو أول من بدأ عمليات احتلال واستيطان أراضي التتار، حيث احتل كازان عام 1552 بعد أن أباد آلافا من أهلها المسلمين، وحوّل عددا كبيرا منهم قسرا إلى المسيحية، ثم أستراخان في عام 1556، ونظرا لقسوته وبربريته تلك سمي بإيفان “غروزني” أي إيفان “الرهيب” حيث كان يقطع أشلاء ضحاياه وهم أحياء (من التتار والروس) ويغتصب نساء الطبقات الراقية (البويار) جماعات جماعات، كما أسس منظمة إجرامية مروعة باسم “أوبريشنكي” كانت تتكون من حوالي ألف مقاتل، وكانت مهمتها الرئيسية الفتك بـ “أعداء” القيصر وبأبشع الأساليب التي لا يتصورها عقل إنسان؛ فتارة يشوونهم بالنار، وتارة أخرى يضعونهم في قدور الماء المغلي، وأحيانا أخرى يتركونهم عراة في ثلج الشتاء القارص إلى أن يهلكوا تجمدا. من عاداته الشهيرة أيضا في القتل ربط ضحيته إلى فرسين ثم تقطيع جسدها إلى نصفين تماما كما فعل مع زوجته السادسة فاسيليكا ميلنتييفا التي اتهمها بالخيانة. ويذكر المؤرخون من يوم دخوله إلى كازان أنه جعل عددا من جنوده يتبولون على طفل تتري صغير أمام أعين والدته ثم قاموا بقطع رأسه.

وعلى عكس التتار، وبقية الشعوب السيبيرية والأورالية التي تمقت إيفان “الرهيب” لما قام به من تنكيل وقتل وحشي بحق أسلافهم، فإن الروس وبقية السلاف يبجلونه كثيرا؛ فبفضله انتقلت روسيا ولأول مرة في تاريخها القصير من شبه دولة قروسطية بربرية متخلفة إلى إمبراطورية وقوة إقليمية يحسب لها ألف حساب. صحيح أن هذه الاحتلالات قد جعلت من روسيا اليوم دولة متعددة الإثنيات والمعتقدات، وهذا أمر كان ومازال يزعج كثيرا غلاة الروس القوميين؛ إلا أن هذا الأمر جعل الروس أيضا يحتلون أضعاف أضعاف ما كان لديهم من أراض بدءا بكازان واستراخان ووصولا فيما بعد إلى أقاصي سيبيريا وسواحل المحيط الهادي.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.