فوزي صالح-مخرج مصري-سماورد
في صيف العام 2008 أثناء عملي مع المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي كباحث ومساعد مخرج في فيلمه التسجيلي (الأيادي الصغيرة)، عرضت عليه التصوير مع الأطفال العاملين بالمدابغ، وبالفعل عاين المكان لكنه وجهني لأصنع فيلما عن هؤلاء الأطفال خاصة وأني عشت بالمكان وتربطني بالعديد من أهله صلات صداقة. وبالفعل، لمعت الفكرة في رأسي …وأسكرتني.
عملت منذ سن العاشرة وأكلت سوق العمل على طفولتي وشربت، لذا أقف بشدة ضد عمالة الأطفال، وما بالك وهم يعملون في مهنة لا تكتفي بسلب طفولتهم وحسب بل تمنحهم الموت بما يتعرضون إليه من مواد كيميائية سامة. لذا، (جلد حي) فيلم ذاتي، أتحدث فيه عن نفسي مسترجعا شقاء سنون الصغر من خلال الأطفال الذين يظهرون بالفيلم؛ محاولا البحث عن الأسباب التي تدفع بهؤلاء الأطفال إلى سوق العمل من ناحية, ومن ناحية أخرى عشت بالمكان لمدة عام حيث كنت أعمل بائعا بإحدى المحال التي تبيع مادة الغراء الناتجة من عملية الدباغة, تعرفت خلال هذا العام على الأوضاع المأساوية التي يعيشها سكان المنطقة.
من الناحية البصرية لم تظهر المدابغ عبر أي وسيط بصري باستثناء فيلم روائي طويل مصري هو (أسوار المدابغ) قدم بمنتصف الثمانينات، لم تظهر فيه المدابغ من الأساس ولم يتناول سوى صراعات كبار التجار على النساء و المال.
لم أختر أن أقدم كارت بوستال سياحى للمكان وناسه (صورة استشراقية)، لكني اخترت الاحتفاء بهؤلاء الأطفال (والناس في المكان) بوصفهم أبطالاً حقيقيين لكنهم منسيون ومهمشون خلف سور المدابغ, يستطيعون رغم الظروف الاقتصادية أن يمارسوا بعضا من إنسانيتهم عبر علاقات الحب والصداقة, كذلك احتفائهم بالحياة ومتعها المتاحة لهم بالرقص و الغناء. وهو ما يظهر في استخدامي للقطات الزاوية المنخفضة Low Angel حيث تبدو الكاميرا منغمسة فى الحدث وكأنها جزء منه تشارك فيه.
استغرق العمل في مرحلة البحث والإعداد قرابة الخمسة شهور، نظرا لمعرفتي السابقة بطبيعة العمل واحتياجاته. حددت حاجة الفيلم لثلاث شخصيات تعمل في المهن الثلاث الرئيسية داخل المدابغ وهي :
- العربجي .
- عامل المدبغة .
- عامل أبراج تجفيف الغراء في ورش تصنيع الغراء .
وبالبحث الميداني لم نوفق في العثور على طفل يعمل بأبراج تجفيف الغراء ويوافق علي التصوير. فغيرنا الوجهة ليحكي الفيلم حكاية شخصيتين رئيسيتين وليس ثلاثة شخصيات، وبالبحث تبين لنا وجود مهن هامشية داخل المدابغ يعمل بها أطفال كمهنة إصلاح المعدات المستخدمة في عملية الدباغة، ومهن تلي عملية الدباغة كمهنة رش الجلود ويعمل بها الكثير من الأطفال ويتعرضون لاستنشاق المواد الكيماوية السامة المستخدمة في عملية تلوين الجلود في غياب أي معايير للأمان الصناعي.
واجهتنا صعوبات في الحصول على موافقة الأطفال وذويهم للتصوير واصطدمنا كثيرا بموافقة الطفل ومعارضة الأهل أو العكس، مما عرقلنا كثيرا، (يحتم قانون الطفل المصري موافقة الأسرة على تصويره). وتم التوصل لموافقة 25 طفلا وموافقة أسرهم على التصوير, وتمت تصفية العدد واستقر على 9 أطفال للظهور في الفيلم.
يحكي الفيلم من وجهة نظري (وجهة نظر المخرج) عبر بناء دائري يبدأ وينتهى من نفس النقطة (نبدأ و ننتهى داخل مولد الحسين)، مستخدما طريقة سرد حكاية داخل حكاية, وهى نابعة من الثقافة الشعبية للمكان المرتكزة على الحكايات الشعبية حيث تحوى الحكاية الواحدة عدة حكايات أخرى، كما في ألف ليلة وليلة وحكايات الهلالية الشعبية وغيرهما من الحكايات الشعبية التي يحفظها الناس أو يستمعون إليها. حيث نبدأ بحكاية (شوشو) العربجى يقود عربته الكارو لنتابعه في رحلة عودته للمدبغة التي يعيش بها هو وأسرته حيث يعملون بها كحراس. ومن (شوشو) إلى (ضبو) حمال يقوم بنقل الجلود النيئة من مكان لآخر، و(حسام) ميكانيكى يصلح معدات المدابغ و (فرج) الذي يعمل داخل إحدى المدابغ، ثم نعود إلي (شوشو) نتعرف على أسرته الأم والأخت اللتان تعملان على نصبة لبيع الشاي والقهوة لعمال المدابغ, و(حسن) (طفل في السابعة عشر من عمره)، والذي يشارك شوشو العمل على العربة الكارو لإعالة الأسرة (المكونة من سبعة أفراد) خصوصا مع هروب الأب الدائم. ينقل الإخوان (شوشو) جلود لإحدى المدابغ, و فيها (المدبغة) التي نرى حكايتين جديدتين (جلوكوز) و(همبكة).
مع يوم جديد يخرج (شوشو) بعربة صغيرة يجرها حمار هزيل (يعمل عليها في أوقات قلة العمل بالمدابغ) ليجمع كرتون وبلاستيك ومعادن صلبة من القمامة التي تنتجها المدابغ, لنرى بعض الأطفال الصغار الذين يعيشون مع أسرهم داخل هذه القمامة، وهكذا ندخل من حكاية لأخرى, و بداخل كل حكاية نرى حكايات صغيرة .
(جلد حي) هو فيلمي الأول الطويل (52 دقيقة) سواء في مجال الأفلام الوثائقية أو الروائية (لم أقدم قبله سوى تجريبي قصير وعدة برامج وثائقية لصالح منظمات أهلية وقنوات تليفزيونية)، أحاول من خلاله فتح طرق جديدة لتمويل مشاريع مشابهة نظرا لما تجده مثل هذه المواضيع من صعوبات إنتاجية داخل السوق الإنتاجي السائد بمصر، حيث لا تجد مثل هذه الأفلام الحماس من جهات الإنتاج المصرية الممولة للفيلم الوثائقي لأن أغلب هذه الجهات تتبع للحكومة المصرية التي بدورها لا ترغب في الكشف عن نتاج سياساتها.
الفلم الدعائي للشريط: