فيلم أنا أفكر في إنهاء الأمور I’m Thinking Of Ending Things وتداخل الأزمنة

ورشة فن - سينما

0 1٬560
لهؤلاء المهووسين بتسلسل الأحداث، وتصاعد دراميتها بشكل متعاقب ستكون الأحداث كالتالي:
عامل النظافة العجوز يجلس في سيارته بعد أن انتهى من عمله في ليلة عاصفة، يفكر جديًا بالانتحار. في هذه الأثناء يعيش العجوز أحلامه التي تكون الفتاة واحدة من يقظتها. لذلك ستجد أنها لا تملك اسمًا ولا مهنة ولا موقف. لأن جاك نفسه التي صادفها ذات ليلة وبادلته الابتسامة، كان يفتقر إلى الجرأة لمبادلتها الحديث، هذا الافتقار جعله لا يعرف أي شيء عن شخصيتها بخلاف كونها لطيفة.
وعليه، ليس ثمة رحلة بين جاك والفتاة للقاء عائلة الأخير، إلا في مخيّلة جاك العجوز. وأن كلّ هذا التداعي الحر وتدفق الأفكار في رأس الفتاة هو في الأصل يشتعل في رأسه. لذلك ستجد أن القصيدة التي قرأتها، هي قصيدة موجودة في إحدى كتبه في غرفته. وأن هذه القصيدة على حسب تعبيره وكأنها كتبت عنه.
والسؤال هنا: هل ثمة ضرورة تدفع بمخرج ومؤلف العمل تشارلي كوفمان لأخذ هذه القصة البسيطة بالترتيب أعلاه، لكل هذا التعقيد والتداخل والغموض الذي يراه البعض في الفيلم؟!
أعتقد أن الإجابة على هذا التساؤل تكمن عبقرية كوفمان. وهنا أختلف مع ما ذهب إليه الناقد محمد العباس في كون كفاءة الفيلم تأتت من الثقل المعياري للمقولات الثقافية والأفكار الفلسفية، والجرعات العالية والمكثفة من الأدب والفن والشعر والسينما، مع تسجيل كامل إعجابي وتقديري لذكاء المخرج والمؤلف في تسريب كل هذه الجرعات إلى المتلقي بشكل سلس جدًا. ولكني أرى أن العمود الفقري الذي يرتكز عليه كوفمان في تجربته الأخيرة، هي محاولته الجادة في الإمساك بإيقاع الحلم الذي يعيشه البطل، وزج المتفرج في هذه الأحلام.
في الحلم تغيب الوحدة والترابط. وفيه يقول بورخيس في “سبع ليال”: “إن ترى في لحظة أزليةٍ خاطفة البداية، سباق (الخيل)، والنهاية. ترى كلّ شيء في لمحة واحدة (…) بنفس الطريقة التي يرى فيها الله من أزليته الشاسعة السيرورة الكونية برمّتها”. وتشارلي في فيلمه “أفكّر في إنهاء الأمور” يحاول جادًا الإمساك بهذه اللمحة، باعتبارها اللمحة التي تراود جاك العجوز في سيارته قبل الانتحار. ولتحقيق هذه المحاولة، يعي جيدًا كوفمان أن ثمة فارق بين إيقاع الحلم وإيقاع اليقظة. هذا ما يجعل الهذيانات السريالية، وتداخل الأزمنة ضرورة حتمية لخلق هذا الإيقاع.
نجاح كوفمان في امساك هذا الإيقاع المتداخل في الزمان، هو ما جعل كل هذه المقولات الثقافية والأفكار الفلسفية مقبولة في طرحها. وبذلك، يكون الحلم الذي يعيشه جاك العجوز ذريعة كوفمان لتسريب هذه المقولات على لسان شخصياته بشكل سلس، حتى وإن شابها الكثير من التداخل والقفزات، ستظل مقبولة لأنها ضمن نطاق إيقاع الحلم نفسه القابل للتداخل والقفز.
بشكل موازٍ؛ أرى أن هذا الفيلم من الأفلام القادرة على قراءة واقعنا اليومي. فبحسب HOOTSUITE فلقد بلغ عدد الساعات التي يقضيها الفرد على الانترنت عالميًا ٦ ساعات و٤٣ دقيقة باليوم وذلك في ٢٠١٩م، أي أنه يقضي حوالي ٤٠٪ من وقته (بدون وقت النوم) على الإنترنت. والسؤال ما هو إيقاع هذه الـ ٤٠٪ من يوم الفرد؟!
لن يختلف الأمر كثيرًا فيما لو قضى الفرد هذه الساعات في تويتر أو الفيسبوك أو يوتيوب أو أي وسيلة من وسائل التواصل الاجتماعي. فعبر إبهامه سينتقل من لوحة تشكيلية على سبيل المثال، إلى تغريدة تتحدّث عن افتتاح بيت الفن والثقافة في أبوظبي، ثم تغريدة تتحدّث عن الطائفية، وبعدها فجأة يجد الفرد نفسه في سلسلة من التغريدات عن النسوية، من ثم لا يعرف كيف صار يقرأ خبرًا عن انضمام أمريكيين إلى تنظيم داعش، ولا يدري لماذا صار مهتمًا فجأة عن مفهوم التنمر. وهو بين كل هذا ثمة حوارٍ داخلي بينه وبين نفسه، يعلّق على ما يتلقاه. ألسنا نعيش جميعًا هذا التداخل والفوضى وعدم التراتبية في التفكير؟ ألسنا محكومون بتداعي صور لا يمكن وصفها إلا بهذيانات سريالية؟! والسؤال الأهم: أليس هذا ما نراه في فيلم “أفكر في إنهاء الأمور”؟!
قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.