الذاكرة المنسية 

0 834

محمد الحميدي – السعودية

تزدحم بالتفاصيل ولا تدرك أبعاد القضايا وتلتهمك التفاصيل وتشعر بالضياع كلما تعمقت الحياة وأردت سبر أغوارها وكأنك آت من الجحيم أو منطقة بعيدة عن كوكب الأرض فلا ذاكرة ولا تاريخ ولا امتداد لك بما سبق، أهلا بك إذن في رواية “الخاطوفة” للكاتب: أحمد أنيس الحسون.

الحدث المؤسس حيث انبنت جميع التفاصيل اللاحقة هو حكاية أسطورية ولا يمكن تصديقها تتحدث عن سقوط الطفل “يوسف” في بئر القرية، وانتشار شائعة “الجني” أو “الغول” أو “سارق أرواح الأطفال” الذي يسكن العين أو بئر القرية، وهي من شعبيات العرب ومشتركة داخل الذاكرة بين أمم مختلفة.

تعود قصة الخاطوفة إلى حكاية النبي يوسف حينما رمى الأخوة به إلى القعر ولم ينجُ إلا بمعجزة القافلة التي مرت وانتشلته ورحلت به ناحية مصر ليؤسس ذاكرة جديدة على أنقاض ذاكرته الكنعانية، فالحكاية التاريخية تمد الرواية بتفاصيل كثيرة وكأنها استعادة لها.

الفوارق بين الحكاية التاريخية ورواية الخاطوفة تتضح في النهايات الدرامية التي تجعل من المستحيل تصديق هذا التلاقي في البدايات، فإذا كان مصير النبي هو تأسيس ذاكرة جديدة، فإن مصير طفل القرية “يوسف الصغير” هو الموت وانمحاء الذاكرة.

تتوالد من الحكاية الأولى ولحظة التأسيس الفني؛ حكايات أخرى تُنسج بداخل معمارها السردي لتصل بالقارئ ناحية “آدم” الذي يُسجن ويفقد ذاكرته ويعمل على ترقيم الجثث ويتحاور معها بلغة فريدة هي لغة العيون التي لا يعرفها أحد سواه.

فحين يتم إطلاق سراحه يتجه إلى التيه في الأرض ولا يستقر بسكن أو عائلة فذاكرته المعطوبة لا تمده بشيء، فيظل هائما إلى أن يتعرف عليه أحد الأشخاص ويرى فيه “صالح” المفقود من سنوات طويلة، وهكذا يعود آدم إلى عائلة غير عائلته وكأنه يؤسس لذاكرة وحياة جديدة.

المشهد لا يكتمل، فمخيم اللاجئين يضم تكتلات متصارعة تجعل من العسير العيش بحرية فكل تكتل يريد جذبه والتأثير عليه، المفارقة تحدث حين يتفق قادة المخيم على الهروب ناحية اليونان.

هنا تنتقل الرواية إلى آخر فصولها إذا يباشر المهاجرون صعود المراكب المطاطية متجهين ناحية المجهول وتاركين خلفهم عالمهم وحياتهم وذاكرتهم، فالهدف النهائي هو تأسيس حياة جديدة على أنقاض حياتهم القديمة، ولكنهم أيضا لا يصلون إلى هذا الهدف، وكأن الأقدار تعاندهم وتضع العراقيل أمامهم.

أثناء الرحلة؛ يهرب آدم من المركب المطاطي ويظل على صخور الشاطئ ولا يواصل الرحيل ناحية اليونان، وهنا تحدث المفاجأة حيث تهب موجة عاتية وتغرق القارب ومن عليه، أما الجثث فحملتها الأمواج للشاطئ وهناك قام آدم بترقيمها مثلما كان يفعل داخل السجن.

أدم وحده وقد بدأ يستعيد ذاكرته الحقيقية ويستغرق زمنا لتذكر جميع الأحداث، وليس معلوما مقدار هذا الزمن، بل ليس مهما على مستوى الرواية إذ الهدف النهائي قد اتضح وهو خلق ذاكرة جديدة أو تأسيسها على أنقاض المأساة السورية بما تحمله من خراب وألم.

يوسف الصغير في مقابل النبي يوسف، الذاكرة الميتة والعدمية في مقابل الذاكرة الحية والمتوهجة، هذه كانت البداية، أما النهاية فموت ذاكرة يوسف الصغير ومعها موت ذاكرة صالح وياسمين وفهمان وأبو سارة ووو والكثير من الشخصيات بلا مقابل وبلا أي ثمن، وكأن الحياة وضعتهم على الهامش وأغلقت دونهم الأبواب.

فشل المهاجرون في تأسيس ذاكرتهم الجديدة؛ حينما غرقوا وابتلعهم البحر، وبهذا يُسدل الستار على واحدة من المآسي العربية الكبرى في العصر الحديث، فالذاكرة انطفأت وما عادت تحتمل إعادة تأسيسها، فالزمن اليوم لا يشبه زمن النبي يوسف الذي استطاع النجاة وتمكن من تأسيس ذاكرته.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.