برتولد بريشت وفن السنيما

ورشة فن - سينما

0 930

سعاد خليل – ليبيا

إن علم الفن الحديث لا يمكن أن يتطور بدون أن يهتم ويحلل تلك الظواهر والعمليات، التي تتوضح فيها العلاقات والتأثيرات المتبادلة بين الأدب والرسم والموسيقي والمسرح والسنيما. ويجب أن يفحص فن السينما، الذي هو أكثر الفنون تركيبية، لكي تتوضح علاقاته ببقية الفنون الأخرى؛ وطبيعي أن فن السينما فن مستقل تمامًا وذو خصائص ذاتية، ومع ذلك فإن مسألة تفحصه، وكشف ظواهره تصبح مثمرة أكثر إذا ما جرى الاهتمام بالعمليات التي تحدث في الفنون المجاورة، والتي تعني انجازاتها فن السينما. إن النظريات الجمالية الجديدة التي تنشأ من تجارب الأدب والمسرح والفن التشكيلي تمارس تأثيرًا كبيرًا على نظريات وتطبيقات الفن السينمائي الحديث.

كما في بقية الفنون الأخرى، فإن فن السينما يحيا ويتطور أيضًا في تفاعله المتبادل مع كل مجالات الخلق الفكري، كما أنه يتمثل أكثر النتائج جدة في التفكير الخلّاق، وأن أقرب الفنون الي السينما هو فن المسرح ومنجزاته النظرية والتطبيقية التي يحولها فن السينما الصالحة ويحافظ بهذا على خاصيته كليًا إذا لا أخطر على الفيلم من مسرحية، لكن السعي الانتقادي الخلاق، والمستقل بكل معني الكلمة، للتجديد في المسرح والموسيقي دائمًا مثمر للنظرية وللتطبيق السينمائي

في كتاب مسرح التغيير، وهو مقالات في منهج بريشت الفني لقيس الزبيدي، نأخذ مقالة لديمشتز عن بريشت وعلم الجمال، يقول فيها: في يومنا هذا تلعب الافكار الجمالية والتجارب الفنية لبرتولت بريشت دورًا ليس بالقليل، إن الفنان بريشت لم يكن فقط شاعرًا ورجل دراما ومؤلف نثر ومخرجًا ومؤسسًا لأفضل مسرح معاصر، إنما كان أيضًا رجل نظرية بحث في القضايا العامة لعلم الجمال، كما بحث في القضايا الخاصة لعلم جمال المسرح والدراما. ومنذ سنوات شبابه حتي أيامه الاخيرة عبر بريشت تحريريًا وشفهيًا عن آرائه حول القضايا النظرية الفنية؛ وقد نشأ مذهبه الجمالي على أساس من التفكير الثوري، وعلى اساس من العلم الثوري، واعتمد مذهبه هذا علي مبادئ الماركسية اللينينية، وتمت صياغته بالعلاقة الحميمية مع التجارب الفنية لبريشت كمؤلف وكمخرج. إن التفكير العقائدي الجامد كان غريبًا عن بريشت، وكمنظر فن وجد نفسه في حركة وتطور دائمين ولم يعتبر احكامه وصياغاته منتهية وغير قابلة للخطأ. كان يصححها برغبة، ويجعلها أكثر دقة عندما كان يكتشف ضرورة لذلك، وهكذا علي سبيل المثال تخلي بريشت أثناء تطوره كفنان ونظري عن بعض الدوافع الاجتماعية المبسطة التي أخطأ فيها في أعماله الأولى، كما أنه غيّر جوهريًا مضمون مصطلح (المسرح الملحمي)، وأعاد النظر في العلاقة الأولى غير الممتحنة بما فيه الكفاية حول الآراء المسرحية لستاننسلافسكي.

علينا إذن أن لا ننظر إلى مذهب بريشت كنظام ثابت، إنما يجب رؤيته تاريخيًا، ثم الاستفادة من الجيد من أعماله الأولى حول قضايا الفن والاستفادة من كل النتائج التي توصل إليها بريشت في زمن النضج.

يقول صاحب المقال مثل كل شيء في نطاق التراث الجمالي يحتاج مذهب بريشت والأعمال التي تتألف منه إلى تأمل تاريخي، كما أنه يحتاج إلى علاقة خلاقة في تطبيق أفكاره الغنية المتنوعة، ومقدرة في تطبيقها ليس فقط في الدراما والمسرح فحسب، إنما في بقية الانواع الفنية الأخرى.

لقد كانت علاقة بريشت بالفن السينمائي محدودة، وقلما صرح شيئًا حول الأعمال السينمائية، لكن الكثير من أفكاره الجمالية يمكن ويجب أن يتم استخدامها في نظرية وتطبيق الفن السيمائي.

نظام بريشت ونظرية فن السينما، تعاليم بريشت الخلاقة والتطبيق الفني لمعلمي فن السينما الحديث:

هذه ليست امورًا مقفلة مطلقًا، إنما مواضيع ومهمات ناشئة موضوعيًا؛ وبهذا الصدد، سبق لسيردي بوتكوفتش أن صرح بحق عند أجوبته على أسئلة ناقد الماني بما يلي:

أنا اعتقد أنه ثمة توافق داخلي عميق بين أفكار ايزنشتاين حول الفيلم الذهني ونظرية بريشت حول المسرح الملحمي، فقد كان ايزنشتاين وبريشت ماركسين، بحثا عن معنى التطور الجدلي للعمليات التاريخية والسياسية والاقتصادية والاخلاقية، وعلى هذا الاساس كانا روادًا، وفي صياغة أفكارهما احتاجا أشكال تعبيرية جديدة دائما. في نفس الحديث مع الناقد الألماني، تكلم يوتكوفتش أيضًا عن مسألة المدى العريض الذي أُستخدمت فيه أفكار برشت في تجربة الفن السينمائي السوفياتي، والتي تحتاج إلى تأمل خاص وقال: إن تأثير بريشت على فننا يبدو لي شاملًا إلى حد كبير ويتوغل إلى أبعد من إخرج مسرحياته، وهنا أيضًا يجب على المرء أن يفكر عميقًا ويتحدث بتخصص.

كما نوهنا أن كان لبريشت علاقات محدودة بالفن السينمائي، وفي الرسالة المفتوحة التي توجه بها الي اللجنة للمؤتمر الامريكي للتحقيق في (المواقف الأمريكية) والتي طاردت فنانين هوليود التقدميين وأرادت أستجوابه هو ايضًا، أكد في هذه الرسالة بأنه ليس مؤلف أفلام، وتلك كانت الحقيقة كاملة: لأن السيناريوهات التي كتبها لهوليود لم يجر تقديمها للسينما. ومع هذا فإن ثمة ارتباطات لبريشت نشأت مع الفيلم على الرغم من كل ذلك.

برتولد بريشت أو بريخت كاتب مسرحي في المقام الأول، وهو إلى جانب ذلك مفكر ومناضل سياسي، وفيلسوف جمالي، وشاعر، وهو أيضًا منظر مسرحي كبير، فقد أثارت نظريته عن المسرح الملحمي جدلًا واسعًا بين المشتغلين بالمسرح وبالنقد جميعًا، كما أنها تركت آثارًا دامغة على  تطور الفكر المسرحي؛ بحيث يصح لنا أن نميز بين المسرح قبل بريخت والمسرح بعده.

قبل أن أضيف ما كتبه ديميشتر، سأتوقف قليلًا عند شعره، والعوامل التي أثرت فيه مع المراحل التي مر بها، والتي كانت من الرموز في أشعاره والفترات التي كتب فيها أروع الشعر، وهي المرحلة التي تنتمي إليها قصيدة “ترتيلة عيد الشكر الكبري”، وقصيدة “ضد الغواية”. تقول عنه الفيلسوفة الأمريكية الألمانية الأصل حنا ارنت بوصفها للشعرية العالية لهذا المبدع التي تفجرت في قصائد مرحلة ما قبل الماركسية عند بريخت، فتجد أنه على الرغم من نشأته في بيئة كاثوليكية عادية تعيش على الأمل والخوف من الجحيم؛ إلا أنه استطاع بروحه المعتدة بكبريائها الانساني أن يتحول عما تربى عليه وتلقنه في صباه من عقائد جامدة، ولم يكن هدا التحول نتيجة لمجرد الشك العقلي أو الرغبة الحسية، بل كان نتيجة هذه الكبرياء الانسانية التي وجهت شخصية بريشت وأصبحت من صميم تكوينه الروحي. لقد نكر بريشت الدين المسيحي كم عرفه، هو الوجه الآخر لحماسته في امتداح الإله “بعل” إله الحياة الأرضية بكل تواضعها وعرامتها وانتسابها الحقيقي الي ملكة الانسان. حيث تتوقف الفيلسوفة ارنت لترصد أثر الثقافة الفلسفية السائدة على مسيرة بريخت الشعرية، خاصة أثر فلسفة نيتشه الذي لم يكن ينجو منه مثقف حقيقي في ذلك الوقت، وتلاحظ أن أحدًا لم يستطع أن يفهم عبارة نيتشه المدوية عن (موت الاله) كما فهمها بريخت.

في نهاية العشرينات وبداية الثلاثينيات، فترة انتقال مؤثر في مسيرة بريشت الشعرية، حيث كانت تتمثل في روح الشفقة والتعاطف مع جموع المظلومين والجوعى الذين يناضلون من أجل أن يقيموا بالكاد أودهم، وهم في ظل صفوف الاستغلال والقهر الرأسمالي، لا يستطيعون أن يكسبوا ما يدعهم يعيشون في الكفاف يقول بريشت قصيدة في مطلع هذه المرحلة:

قالو لي: أنت تأكل وتشرب

فكن مسرورًا بهذه النعمة

ولكن كيف لي أن آكل وأشرب؟

ولقمتي مسروقة من فم الجائع

وكوبي يتمناه من يكادون يموتون من العطش..

نعود إلى حديثنا السابق حول اهتمام بريشت بالسينما، وكيف كتب أول سيناريو لفيلم “كوله فامبه”، من إخراج سلاتان دودوف، هذا الفيلم من أوائل الأفلام الثورية البروليتارية في المانيا. إننا لا نعتبر بريشت كاتبًا محترفًا لفن السينما، أو ناقدًا أفلام ولكنه اهتم في مقالاته وباستمرار ببعض ظواهر الفن السينمائي، وتنبئ بأن السينما ستصبح فنًا عظيمًا. أيضًا، لم يتوقف عن متابعة تقدم السينما حيث توغل في قضايا سينمائية خاصة جدًا، منها مثلا قضية الموسيقي في الفيلم الروائي، وفي ذلك الوقت ثمن بريشت في فن السينما الأعمال المتميزة بجدارة فنية. لقد دافع عن التجديد في الفن، واعتبر الفيلم السوفياتي أبنا للثور حيث فقال: قبل ان تبني البروليتاريا الروسية، بعد الثورة صناعتها الثقيلة بنت صناعتها السينمائية. كذلك ثمن بريشت أعمال عدة وأشاد بأداء شابلن، وتحدث عن التمثيل السينمائي الخاص بالمقارنة مع فن التمثيل المسرحي الذي يحتاج إلى جديد ليتطابق مع مهمة ملحمة المسرح.

كتاب مهم جدًا فيه الكثير ليس عن بريشت فقط، بل عن العديد من الفنانين والمراحل التي مرت في ألمانيا وروسيا ولكني اخترت بعض الوقفات لهذا المبدع العظيم، حيث يقول الكاتب ثمة تراجم مختلفة تشخص بريشت كعقلاني وذهني فقط، وكفنان للتفكير والتفكير فقط، وهذه التراجم ليس لها علاقة بالواقع، وهي تسقط في تناقض ولا تتلاءم مع مضمون وطبيعة الأعمال الواقعية العظيمة لهذا المؤلف ولا مع أسس علم الجمال عنده وإذا ما تسني لنا ملاحظة أعمال بريشت التي هي مزيج من محتوي فكري عالي مع الواقعية وحيوية في التعبير عن البيئة والشخصيات، فإننا سنرى أيضًا في علم جماله هذا المزيج من العناصر الواقعية والفكرية علي أتم وضوح.

إن بريشت كان فنانًا ملتزمًا بأفضل معنى لهذه الكلمة. وبالنسبة له، كان هذا الالتزام حزبية مواقفه وأعماله، لكنه كان عدوًا صلبًا لكل نوع من الالتزام السيء الذي يجد في الفن ظاهرة خاضعة مسبقًا لفكرة قسرية لا تنبع من الحياة.

في علم الجمال، لم يجد بريشت (قوة الأوامر) إنما التعبير عن موضوعية الواقع. في مقالة كتبها بعنوان “آفاق وتنوع طريقة الكتابة الواقعية” يقول: حول الأشكال الأدبية يجب أن نهتدي بالواقع وليس بعلم الجمال، ولا حتى علم جمال الواقعية؛ نحن نخدم علم جمالنا، مثل أخلاقياتنا، من حاجات صراعنا.

لقد كان بريشت خصمًا مناوئًا للفن الخطابي، ودعا إلى فن الاقتناع، إلى فن التأثير، الفن الذي يمتزج فيه الالتزام والواقعية في وحدة لا تنقسم. لقد أعطى بريشت أهمية خاصة للتأثر الأيديولوجي في الفن، وعلى أساس من هذه الأهمية أعتنى بالمواضيع المعاصرة، وفي جواب له علي فردريك دورنمات، الذي ثمنه كفنان وإنسان، وعارض آراءه القائلة بعجز المسرح في التعبير عن الحاضر، وأوضح بريشت (أن مسرحية الحاضر هي المسرحية التي تدعو الي تغيير العالم.)

هذا جزء بسيط من قراءة في كتاب مسرح التغيير لقيس الزبيدي.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.