الدكتورة خالصة الأغبرية – عُمان
تتباين نظرة المهتمين بحقل الترجمة تبايناً جذرياً. نلمس ذلك من خلال تعريفهم النظري لهذا العلم من جهة، واشتغالهم العملي به من جهة أخرى (يتمثل الأخير إما في ترجماتهم أو كتاباتهم عن الترجمة على حد سواء). وهذا الاختلاف – لا ريب – مدعاة إلى الاستغراب والدهشة، خاصة عندما يتوحد هدف الجميع في الارتقاء بالترجمة وتتساوى رغبتهم في تأطيرها وإرساء قواعدها، في حين تختلف نظرتهم الكلية والتفصيلية لهذا العلم – الذي ما يزال حديثا – اختلافاً لافتاً للنظر.
ولعل ما يعزز هذا الاختلاف ويؤجج الخلاف بين الطرفين ما نجده من إفراط وتفريط (لم أرَ توسطية إلى الآن) في الاعتداد بنظريات الترجمة على اختلاف مدارسها وتوجهاتها الفكرية. إذ يهتم بعضهم بتلك النظريات ويعتبرونها مرجعا أساسياً – لا غنى عنه – يقود إلى الإلمام بهذا العلم واحتوائه؛ بل قد تكون العصا السحرية في ترجمة ما استصعب من النصوص على اختلاف أنواعها. بينما نجد البعض الآخر متأففاً منها وناقماً على أيديولوجياتها المثالية ويعتبرونها مجرد حبر على ورق!
وليس هذا التباين ملموساً على صعيد أساتذة الجامعات من المتخصصين في حقل دراسات الترجمة فحسب؛ وإنما أيضاً ينعكس على أولئك المستغلين عملياً في قطاع الترجمة ممن ينفرون من نظريات الترجمة ويعتدون عوضاً عنها بالقواميس التجارية المتوفرة من ناحية، وبالاسم الذي كوّنوه لأنفسهم من ناحية أخرى. ومهما يكن الأمر، فالاختلاف أمر وارد ومحمود بل مطلوب أحياناً، وعليه – من وجهة نظري – فلا بد من الوقوف على هذا الاختلاف ومحاولة تحليله وبيان محاسنه، بدلاً من أن نجعله ثغرة نحاول من خلالها تصيُّد ترجمات الآخرين والتقليل من شأن توجهاتهم النظرية والعملية.
كما لابد من أن نضع في عين الاعتبار أن الاختلاف في الوقت نفسه سلاح ذو حدين. فعلى الرغم من كونه ظاهرة صحية وإسهاماً في نمو علم الترجمة في الوطن العربي، خاصة عندما يؤدي إلى إثرائه من الطرفين معاً مما قد يتيح مجالاً للدراسات المقارنة في الجامعات أو الكليات التي تدرسه كتخصص، إلا أنه في الوقت ذاته قد يؤدي إلى ما يسمى بـ “عنف الترجمة”. ذلك حينما – حسب تقديري الشخصي – يتبنى المترجم اعتباطاً نظرية تستهويه وتعطيه الحرية الكاملة في التصرف بالنص الأصلي، فيقوم بإلحاق تغييرات تخفى على قارئ النص المترجم، فيظن الأخير بمصداقية ما ترجم وخلوه من العبث، فيبرز الجانب “الاخيّر” للترجمة تباعاً. وستوضح الأسطر القادمة ما أعنيه بذلك، حيث سأعقد أولاً مقارنة بين تعريفي الطرفين للترجمة ثم أتحدث بشيء من الإسهاب عن دور هذا التباين في ما نتحصل عليه من ترجمات، ثم انتقل إلى دور إحدى نظريات الترجمة في تشويه “النية الخالصة” لهذا العلم، وهو بالطبع جوهر المقال وماهيته.
فمن ناحية التعريف النظري، يُعرِّف بعض المهتمين الترجمة بأنها “نقل” ما ورد في نص ما من لغة إلى أخرى، وكلمة “نقل” هنا مجازية الاستخدام إلا إنها مهمة حيث أنها تضع الخطوط الحمراء للمترجم، كما توجب على المترجم أن يتحرى الأمانة والدقة والصدق في ترجمة ما ورد في النص الأصلي بأي صورة من الصور أو شكل من الأشكال. فالمحتوى والنص ثابتان، والمترجم غير مخوّل في تغيير أو تحسين ما ورد من آراء تعسفية أو مناهضة إذ دوره لا يتعدى دور الناقل! وهذا لا يعني بالضرورة الترجمة الحرفية التي تؤدي إلى إخلال المعنى إلا إنها قريبة منها وأقول أن “النقل” يرقى من الحرف إلى ما هو أبعد منه – الفكرة كما وردت في النص المترجم دون محاول التغيير أو الإيضاح أو ما شابه ذلك. وعلى الرغم من كون “الأمانة” و” الصدق” استعارات دلالية تدلل على سلوك الناقل ودقته في النقل تدليلاً مجرداً، بيد أنهما بمثابة الإطارين الذين يحوم حولهما المترجم ولا يتعداهما إلى ما سواهما.
في حين يرى البعض الآخر الترجمة على أنها “إنتاج” نص جديد بلغة أخرى غير التي كُتب بها النص الأصلي. حينئذ يكون النص المترجم ملكاً فكرياً للمترجم، له حرية التصرف في النص الأصلي والتعريب والتغريب و الحذف والإضافة وقس على ذلك ما شئت. فقد يعمل المترجم – الذي ينتج – على حساب مؤسسات فردية تسعى لتحقيق مصالحها من خلال حقن مترجميها بإبر الولاء لها وإجبارهم على تحوير النص بما يتناسب وأغراضها الشخصية.
ما حملني على الكتابة في هذا الموضوع الشائك حضوري لمحاضرة قيمة ألقاها أحد المختصين بهذا العلم. تحدث فيها عن الأبعاد النظرية للترجمة وتطرق في أثناء حديثه إلى النظرية الغرضية. لم أسمع عن هذه النظرية قبل حضوري لهذه المحاضرة. ولفت انتباهي توجهات هذه النظرية التي تعطي المترجم الحرية الكاملة في التصرف بالنص الأصلي. وقد أحسست حينها بخطورتها لأنها قد تكون أحد الأسباب المؤدية لـ “عنف الترجمة” لذا قررت أن أبحث عنها في المصادر الأجنبية وألم بحيثياتها قبل أن أتسرع في الحكم عليها.
النظرية الغرضية، أو نظرية سكوبوس، وهي كلمة لاتينية الأصل تعني الغرض، تركز على قضية هامة ينبغي ألا يغفل عنها المترجم ألا وهي الغرض من الترجمة. إذ لا بد أن يسأل المترجم نفسه عن أهدافه ومراميه من ترجمة نص معين، وما الذي يسعى إلى تحقيقه من خلال اختيار النص الذي بين يديه، حيث من خلال معرفته للغرض تتبلور ترجمته لمحتوى النص (الآلية التي سيستند عليها في الترجمة). ويبرز لدينا نص آخر أصيل قد يعكس ما ورد في النص الأصلي المترجم أو قد يحيد عنه قليلاً أو كثيراً، وبالتالي قد لا تكون الترجمة – بناءاً على النظرية الغرضية – دائما وسيلةً للربط بين الشعوب متباينة الألسن وليست جسراً للتواصل ونقل الحضارات كما يعتقد الجميع، إذ قد تؤدي إلى تشويه العلاقات وإحداث النزاعات وهذا بالطبع يعتمد أولاً وأخيراً على غرض المترجم ونواياه.
ويقول فيرمير (1989م)(1) وهو مؤسس النظرية الغرضية شارحاً لها “يمكننا أن نفرق بين ثلاثة أغراض محتملة للترجمة. أولها: الغرض العام الذي يسعى المترجم إلى تحقيقه من الموافقة أو الشروع في ترجمة نص ما (ربما يسعى لكسب قوت يومه). ثانيها: غرض المترجم (ربما يسرد ظاهرة معينة بهدف تثقيف القراء). وثالثها: الغرض الذي ستحققه الإستراتيجية أو الآلية التي كان قد اتبعها المترجم في ترجمة النص (قد تكون الترجمة حرفية بغرض لفت انتباه القارئ إلى الاختلافات بين تراكيب لغة النص الأصلي واللغة الهدف)”. ما يعنينا هنا هو الغرض الثالث الذي يفتح المجال على مصراعيه للمترجم في تبني ما شاء من الاستراتيجيات في ترجمة النص (الحذف والإضافة والتعديل والتشويه وغيرها). ويشرح فيرمير قاعدة النظرية الغرضية في موضع آخر قائلاً “ويُترجَم (استخدم المؤلف كلمة يُنتج) كل نص بحسب غرض معين، ولا بد أن يخدم ذلك الغرض بعينه، وتقرأ النظرية الغرضية كالآتي: ترجم / فسر / اكتب بالطريقة التي تخدم غرضك أو غرض من أسند إليك هذا العمل، حيث لا بد أن تتوافق ترجمتك ومصالح الأشخاص الذين يستخدمونها، ولا بد أن تكون مطابقة تماما للغرض الذي يريد أن يصل إليه من يقرأها”.
حيث تكمن خطورة النظرية الغرضية في كونها “تحتم على المترجم أن يترجم بناءاً على غرض معين؛ ولكنها في الوقت ذاته لا تحدد الغرض” (فيرمير 1989). وبالتالي فهي لا تهتم بالصدق والأمانة والدقة في الترجمة لأن تركيزها المطلق يكون على النص المترجم والغرض الذي يحققه.
ونحن لا ننفي أهمية الغرض في الترجمة فهو –بلا شك – جلي، وقد دلل عليه المحاضر بذكاء عندما سأل الحضور عن الفرق بين كوب القهوة الذي كان يحتسيه في المحاضرة والهاتف النقال! كلاهما متباينان كلياً وهما مهمان؛ ولكن تكمن أهمية احدهما على الآخر (والآخر على أحدهما) في الغرض، فلا تفيدك قهوتك اللذيذة عندما تريد إجراء مكالمة هاتفية هامة إذ ليس كوب القهوة جهازاً لاسلكياً ذو أزرار رقمية! ونحن قبل أن نقدم على ترجمة نص ما، لا بد أن نسأل أنفسنا عن الغرض من اختيار هذا النص دون غيره، وبعدها يتوجب علينا أن نقف على محتوى النص ونحاول ترجمته بناءاً على توجهاتنا وأغراضنا. بمعنى قد يستدعى الغرض التركيز على ترجمة جزئية معينة وإغفال نقاط أخرى وردت في النص، أو قد يدفع صاحبه إلى تعريب النص كاملاً فيُقرأ كما لو كان قد كتب بالعربية أصلاً. ولكننا لا بد أن نتوقى الحذر وأن نتوسط في الاعتداد بمثل هذه النظريات. وأهم من ذلك كله ألا ننجرف لمثل هذه الأيديولوجيات الهدامة. فالانتقاء مطلوب!
ونحن حينما نؤمن بالنظرية الغرضية إيماناً مطلقاً، دونما النظر إلى سلبياتها وخطورتها، فإننا نخلق فجوة ثقافية بين النصين. فلا ريب أن للتباين الجذري بين النص الأصلي والنص أو النصوص المترجمة من الآثار ما لا يحصى. فما نتحصل عليه من ترجمات يكون منبثقاً بشكل مباشر من غرض المترجم ونظرته للنص الذي بين يديه والنظرية التي اعتمدها في إخراج النص المترجم. هذا بالطبع قد يخلق لدينا نصوص عديدة في الوقت الذي تتكاثر فيه أغراض المترجمين وتوجهاتهم المتعددة.
والترجمة لا بد أن تأخذ منحى التوسطية في الاعتداد بنظريات الترجمة على اختلاف توجهاتها ومدارسها الفكرية، وبما أن الجامعات قد أخذت على عاتقها مسئولية إخراج كوادر مؤهلة من المتخصصين في هذا العلم فأرى أن يتسلح المترجم بالقيم والمبادئ التي تنبثق من احترام ما ورد في النص الأصلي، والسعي الحثيث نحو وصل الحضارات والشعوب ببعضها البعض.