الترجمة بوصفها خيانة مستعذبة

جدل - الترجمة

0 742

 عبد الوهاب أبو زيد-شاعر مترجم سعودي

“الترجمة خيانة”؛ تلك هي العبارة الأشهر التي ترد إلى الذهن حين يتم الحديث عن الترجمة. ثمة ما يشبه الإجماع الضمني على كون هذه الخيانة خيانة محمودة غير مذمومة كغيرها من الخيانات. إنها خيانة مستعذبة حسب ما يقوله عباس بيضون حتى أن بسام حجار، الشاعر والمترجم اللبناني المعروف، قد وضع كتابا جعل عنوانه (مديح الخيانة)، والخيانة المعنية هنا هي الترجمة بطبيعة الحال.

جميعنا نعرف العبارات، التي تردد دائماً حول الترجمة، باعتبارها ضرورة ملحة وشيئا محتماً وأمراً مطلوباً لتحقيق التواصل والتلاقح والتثاقف ما بين الشعوب والأمم والثقافات المختلفة، التي تشكل اللغة فيها عاملاً أساسياً وجوهرياً في صوغ هويتها الثقافية وتشكيل كينونتها الحضارية. لذا، لن نعمد إلى الإطالة والإسهاب فيما يخص هذا الجانب تحديداً. ولا أحسبني بحاجة إلى التذكير، كذلك، بواقع الترجمة المرير والمتأخر والمتخلف في عالمنا العربي السعيد، فالأرقام التي وردت في تقرير التنمية البشرية العربية لا تزال طازجة في الذهن.

الحديث عن ضرورة وحتمية معرفة المترجم باللغة التي يترجم منها واللغة التي يترجم إليها معرفة كافية ووافية، كذلك الحديث عن المشاكل التقنية التي يواجهها المترجم أثناء انخراطه في ترجمة نص ما ومهمته شبه المستحيلة في التوفيق والموازنة ما بين نقل النص بأمانة من جهة، والتصرف فيه ليتلاءم ويتواءم مع اللغة المنقول إليها من جهة أخرى، كل هذه أمور تمت مناقشتها طويلاً وقتلت بحثاً، كما يقال، وليس لدي شيء جديد أضيفه حولها. كما أن مثل هذه الأمور لا تعني كثيراً أولئك الذين عادة ما تكون الأعمال المترجمة موجهة لهم، ونعني بهم هنا كل من لا يحسن إلا لغته الأم، والذي لا سبيل أمامه للتعرف على الآخر إلا عبر الترجمة.

الجديد، الذي سأسعى لتقديمه متمنياً أن أوفق إلى ذلك، هو تقديم تجربتي الشخصية البسيطة والمتواضعة مع الترجمة، وإن كنت أول المشككين في مدى جدارتي بذلك واستحقاقي له بالنظر إلى ضآلة ما قدمته في ميدان الترجمة كماً وكيفاً. غير أن ما يشفع لي جرأتي هذه هو حسن ظن الآخرين بي ممن أتلقى ردود أفعالهم الإيجابية حول بعض النصوص التي ترجمتها ، وكذلك انطلاقاً من كون الترجمة تشغل حيزاً غير قليل من وقتي وجهدي.

أول نص ترجمته، حين كنت لا أزال طالباً في الجامعة، كان لشاعرة لا أتذكر اسمها الآن ترثي فيه والدتها التي تحتضر على فراش الموت. لقد أحدث ذلك النص أثراً كبيراً في نفسي، وتعلقت به وأحببت أن أشرك الآخرين في متعة التعرف عليه والتلذذ به. لذلك أقدمت على ترجمته وأذكر أنني نشرته فيما بعد في جريدة اليوم في صفحة الواحة التي كان يشرف عليها الدكتور سعد الناجم.

’’نجاح المترجم يقاس بمدى التوفيق الذي يصيبه في تغليب صوت من يترجم له على صوته الخاص’’

إذن، فإن الدافع الأساسي، الذي يحرضني ويدفع بي لترجمة نص ما، هو ذلك الشعور بالحب والألفة معه والرغبة في إشراك الآخرين في المتعة التي يتركها في نفسي. أعتقد جازماً أنك لكي تترجم نصا ترجمة جيدة فلا بد لك من أن تقع في حبه أولاً. تأتي بعد ذلك عملية استبطان النص وعيشه وتقمص شخصية من كتبه حتى لكأنك تتحدث بصوته وتفكر بعقله وتكتب بيديه.

المترجم الناجح يشبه الممثل الناجح إلى حد كبير، كما أشار إلى ذلك المترجم المصري بشير السباعي. فكما أن نجاح الممثل يقاس بمدى تمكنه من تقمص ملامح وسمات الشخصية التي يلعب دورها، بحيث لا نحس نحن المتلقين أو المتفرجين بوجوده كممثل؛ فإن نجاح المترجم يقاس بمدى التوفيق الذي يصيبه في تغليب صوت من يترجم له على صوته الخاص. يصح هذا الكلام بشكل أكبر وبصورة أوضح على النص الشعري أكثر من النص السردي أو النثري. في النص الشعري، كما نعلم، يكون حضور الذات أو الأنا أكثر جلاء ووضوحاً، الأمر الذي يتطلب جهداً مضاعفاً من المترجم ليعكس النبرة الذاتية والشخصية المختزنة في خلايا النص ومفاصله.

إن إحدى الإحباطات الكثيرة، التي يواجه بها المترجم، هي تلك النظرة الدونية (سأستخدم هذه الكلمة إلى أن أجد كلمة أخرى أخف) إليه باعتباره مجرد ناقل أو وسيط، لا فضل له يقوم بنقل نص ما من لغة إلى لغة. فهو لا يبدع شيئا من ذاته و لا يأتي بشيء من عنده ولا ينشأ من عدم. وإذا ما حدث وأن شمله البعض بعطفهم ورأفوا بحاله سموه مبدعا ولكن من الدرجة الثانية، فمهما كانت ترجمته جيدة ومبدعة؛ فإن الفضل يرجع أولاً وأخيراً إلى مبدع  النص الأول وليس له هو.

يخطئ حتماً من يظن أن الترجمة هي مجرد عملية نقل آلي بوسع كل من ألم بقدر معقول من المعرفة بإحدى اللغات الأجنبية أن يقوم بها. إنها عملية إبداع موازٍ، لا تقل بأي حال من الأحوال عن لحظة الإبداع الأولى للنص بل قد يصل الأمر، وتلك حالات غير نادرة، إلى أن يتفوق النص المترجم على النص الأصلي كما يقال عن بعض ترجمات رباعيات الخيام إلى اللغة العربية على سبيل المثال. أو أن بعض النصوص المترجمة قد تتحول إلى جزء أساسي ومهم وذي تأثير كبير في المتن الكتابي للغة المترجم إليها كما حدث مع ترجمة فيتزجارلد الذائعة الصيت لرباعيات الخيام إلى اللغة الإنجليزية، التي أصبحت من روائع القصائد الإنجليزية عبر تاريخ الشعر الإنجليزي كله، فلا تكاد تخلو منها أي أنطلوجيا تعنى بذلك الشعر وتعرض للنصوص الأبرز في متنه النصي.

أود أن أورد، فيما يرتبط بكون الترجمة إبداعاً موازياً ليس أقل شأناً من الإبداع الأصلي، فكرة أتى على ذكرها المترجم فواز طرابلسي، في المقدمة التي وضعها لترجمته لكتاب إدوارد سعيد (خارج المكان). فحوى الفكرة هو أن الترجمة تشبه إلى حد بعيد عملية إعادة التوزيع في الحقل الموسيقي. فاللحن الأصلي أو الأساسي واحد ولكن المترجم، أو كل مترجم، يقدم قراءته الخاصة لهذا اللحن وفهمه الخاص به، وتأويله له والذي سيختلف بالضرورة عن القراءات/ التوزيعات/ التأويلات الأخرى التي يقدمها المترجمون الآخرون.

على الصعيد الشخصي كثيراً ما ألجأ إلى الترجمة، ترجمة النصوص الشعرية على وجه التحديد، كنوع من التعويض عن عملية كتابة الشعر ذاتها خصوصاً حين أصاب بفترات النضوب والاحتباس الشعري وهي كثيرة. ولا أحسبني مبالغاً إن قلت إن اللذة والمتعة التي أتحصل عليها من ترجمتي لنص شعري جميل لا تقل إطلاقا عن متعتي بكتابة نص جديد لي.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.