الترجمة بين الحرفية والمعني

0 560

ناصر ونوس-مترجم سوري

(1)

بالحديث عن الترجمة في عصرنا الحالي، أجدها ضرورية لعصرنا ولكل العصور، لشعبنا ولكل الشعوب، ولمعرفة أهمية الترجمة في تقدم الشعوب، يكفي أن نعود إلى التاريخ قليلاً، ونرى كيف أن جميع التجارب النهضوية والتحديثية لم تكن لتنجز لولا ترجمة العلوم والمعارف والآداب عن لغات الشعوب الأكثر تطوراً. من عصر المأمون، إلى عصر النهضة الأوروبي، إلى عصر بطرس الأكبر في روسيا القيصرية، إلى التجارب التحديثية في اليابان والصين، وغيرها. وهذه الضرورة لا تعني أن تعطى الترجمة الفورية عبر الإنترنيت، أو بواسطة برامج الترجمة الإلكترونية أهميتها، فيكفي أن نجرب هذا النوع من الترجمة لنرى كم هي ترجمة ناقصة ومشوهة ومغلوطة وبعيدة كل البعد عن نقل المعنى الحقيقي للنص المصدر.

(2)

لأني ببساطة أترجم كي أنقل معرفة أو تجربة لشعبي وبلدي وأمتي، يمكن الاستفادة منها في المنحى أو الموضوع أو الحقل الذي أترجم فيه، فإني أؤمن أن للترجمة معاييرها الخاصة مثل: جودة النص وأهميته للغة المترجم إليها، وفائدته بالنسبة للقراء المستهدفين، وقدرة المترجم على نقل هذا النص وتمكنه من اللغتين: لغة المصدر ولغة الهدف، ومعرفته الجيدة بموضوع النص والسياق الثقافي والمعرفي الذي أنتجه، ومعرفته الدقيقة بمصطلحاته وتعابيره ومفرداته. هذا من جانب، أما من جانب آخر، فلا بد من تطوير وتحديث القواميس ومعاجم المصطلحات بما يواكب تطور اللغات التي نترجم عنها، كذلك تطوير لغتنا كي تستطيع استيعاب ما هو جديد في اللغات الأخرى.

(3)

لا بد لأي مشروع ترجمة أن يكون له ضامن لجودة الترجمة، وهو وجود لجنة من القراء الخبراء في الترجمة لدى كل دار نشر. مهمتها تقييم المخطوط المترجم، ومدى جودته ومطابقته للنص في لغته الأصلية. لجنة تتصف، إلى جانب الخبرة، بالحيادية والنزاهة، ليست كاللجنة الموجودة لدى وزارة الثقافة في سورية مثلاً، ممثلة بالهيئة العامة للكتاب، التي رفضت، على سبيل المثال لا الحصر، نشر كتاب للمفكر الأمريكي المعارض للسياسة الأمريكية والإسرائيلية “نعوم تشومسكي” بعنوان (الحرب على غزة ونهاية إسرائيل)، لا لشيء سوى لأن مترجمه ليس من شلة هذه الوزارة. في حين أن هذه اللجنة نفسها هي التي نشرت كتابا مسيئاً للعرب والسوريين على وجه الخصوص، ومسيئاً إلى بعض الأقليات الدينية في سورية، وبعد أن انتشر الكتاب بوصفه فضيحة للوزارة في الوسط الثقافي السوري اضطرت لسحبه من الأسواق وفرمه. هذا هو الكتاب الثاني خلال عام واحد تنشره وزارة الثقافة، ومن ثم تسحبه من الأسواق وتفرمه. هذه ظاهرة تحدث للمرة الأولى في وزارة الثقافة، مما يعكس حالة التخبط التي تسيطر على عملها وتقييمها للمخطوطات. مثل هذه اللجنة في وزارة الثقافة السورية لا يمكن أن تكون ضامنة لجودة أي ترجمة، بل على العكس ضامنة لرداءتها وسوء اختياراتها.

(4)

إذا كانت الترجمة أداة لمعرفة الآخر ووعيه، فبطبيعة الحال كان “الغرب” ومازال معنياً بمعرفتنا، بوصفنا “شرق” غني بالثروات التي يجب نهبها. إنه مهتم بمعرفتنا بقدر ما تفيده هذه المعرفة في دوام سيطرته علينا، واحتلال أراضينا ونهب ثرواتنا، وإبقاء شعوبنا في حالة التخلف المزمن والمؤبد. هذا هو ما يريده الغرب منا، إلا في استثناءات قليلة وفردية وبعيدة عن مؤسسات الغرب الرسمية. هذه كانت مهمة الإستشراق عموماً، كما كشف إدوارد سعيد. مهمة الإستشراق الغربي كانت خلق معرفة بالشرق تمهد لغزوه واحتلاله. هذا ما فعلته تلك المعرفة منذ حملة نابليون بونابرت إلى مصر، حتى غزو العراق في نيسان 2003. وهنا، أذكر مثالاً من الغزو الأمريكي للعراق، فمنظمة اليونيسكو أبلغت السلطات الأمريكية بضرورة المحافظة على المتاحف العراقية، لما تتضمنه من كنوز آثارية تحكي تاريخ بلاد الرافدين والمنطقة عموماً؛ لكن ذلك كان بالنسبة للسلطات الأمريكية بمثابة التذكير بضرورة نهب هذه الكنوز. وكان أن تم ذلك، فالغزاة الذين دخلوا بغداد توجهوا أول ما توجهوا إلى المتحف الوطني العراقي، ودخلوه بدباباتهم ونهبوا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. لماذا يهتم الغرب مثلاً بالأدب الذي يتحدث عن الأقليات العرقية والدينية في الشرق؟ الجواب هو أن الغرب معني بدراسة هذه الأقليات ومعرفتها كي يسهل عليه التوجه إليها واستمالتها إلى جانبه في أي مشروع نهبوي (ولا أقول استعماري) يخطط له يعمل عليه ويتوجه به للمنطقة.

’’الترجمة لا تستوفي شروطها إلا بمعرفة عميقة بالثقافة المترجم عنها، وبالسياق الثقافي والمعرفي الذي أنتج النص المزمع ترجمته’’

يفترض بمسؤولية ترجمة ثقافتنا التي تمكن من ردم الهوة المتعلقة بصورتنا في الإعلام الغربي أن تقع على عاتق جامعة الدول العربية، ووزارات الثقافة والإعلام في الدول العربية؛ لكن للأسف فإن جامعة الدول العربية وتلك الوزارات هي أبعد ما تكون عن تحمل مثل هذه المسؤولية والقيام بهذه المهمة، بل أكثر من ذلك، ليست لديها مشاريع من هذا النوع، وهي أبعد ما تكون عن التفكير بمثل هذه المشاريع. لم نسمع عن وزارة ثقافة في أحد البلدان العربية، قامت باختيار أهم ما أنتجه مبدعو هذا البلد وترجمته إلى إحدى اللغات الأجنبية. كل الترجمات التي تمت من العربية إلى اللغات الأخرى قامت بها مؤسسات ومترجمون من تلك اللغات. في أواسط القرن الماضي، كانت هناك مؤسسة أمريكية تعنى بترجمة الكتب الأمريكية إلى اللغة العربية، هي مؤسسة فرانكلين، والتي بفضلها تعرفنا على الأدب الأمريكي والمسرح الأمريكي والثقافة الأمريكية الرفيعة في أبهى حللها. والآن وبعد أكثر من نصف قرن، لم تظهر مؤسسة عربية مماثلة تستفيد من تلك التجربة وتعنى بنشر الثقافة العربية في اللغات الأخرى. قبل عدة سنوات، بادر عدد من المترجمين العرب المقيمين في العاصمة الروسية موسكو، وقدموا اقتراحاً إلى مندوب جامعة الدول العربية بترجمة مئة كتاب من العربية إلى الروسية. وبعد نقاش طويل وانتظار أطول، لم يحدث أي شيء من هذا القبيل، وطوي المشروع. هنا، وبعد فقدان الأمل من المؤسسات الرسمية العربية، لا بد من اللجوء إلى المؤسسات غير الرسمية والمبادرات الفردية، وهو ما ينسحب أيضاً على قضية تصحيح صورتنا في الإعلام الغربي. إن تصحيح مثل هذه الصورة هو مهمة وزارات الإعلام في الدول العربية. على هذه الوزارات تأسيس وسائل إعلام ناطقة باللغات الأجنبية، أو الإنكليزية على الأقل، للقيام بهذه المهمة. في سورية، يستعدون الآن لإطلاق قناة فضائية إخبارية. يبدو أن همّ وزارة الإعلام لدينا منصب على إقناع المشاهد العربي بعدالة قضيته، وهنا المفارقة المضحكة المبكية، بدل أن يكون اهتمام هذه الوزارة منصباً على المشاهد الغربي، ومحاولة تصحيح الصورة الذهنية لديه عن العرب وإقناعه بعدالة قضيتهم. في حين نجد إيران تطلق قناة فضائية باللغة الإنكليزية هي قناة “بريس تي في”؛ هدفها الدفاع بمختلف الوسائل عن قضايا العرب والمسلمين وتصحيح الصورة النمطية لدى المشاهد الغربي عن العرب والإسلام؛ نجد الدول العربية مجتمعة عاجزة عن إطلاق مثل هكذا قناة تدافع من خلالها عن نفسها. لقد وصلنا إلى حالة من العجز عن الدفاع عن أنفسنا حتى بالكلام. بينما نجد الآخرون يقومون بهذه المهمة طواعية نيابة عنا. إنهم الآخرون الأصدقاء الممثلون بقنوات مثل بريس تي في (الإيرانية)، وتيلي سور (الفنزويلية)، وبأعلام مثل تشومسكي وجورج غالاوي وروبيرت فيسك.

(4)

تبدو الترجمة الأدبية هي أكثر أنواع الترجمة رواجاً، مقارنة بأجناس معرفية أخرى كالفلسفة وعلم النفس والطب والهندسة، وهذا دليل على غياب المؤسسات الرسمية في الوطن العربي التي تبادر وتسارع إلى ترجمة العلوم والمعارف. إن الترجمات التي تتم إلى اللغة العربية هي جهود فردية محضة. فالمترجم يقرأ عملاً أدبياً ويعجب به ويبادر إلى ترجمته، لكنه من النادر أن يقرأ، أو بالأحرى لن يقرأ، كتابا في الهندسة ويعجب به ويبادر إلى ترجمته. هنا أذكر مثالاً من إيران، البلد الذي عشت فيه بضع سنوات. إيران تقيم سنوياً معرضاً دولياً للكتاب، تستضيف خلاله أهم دور النشر العالمية، وفي مقدمتها دور النشر التي تعنى بنشر الكتب العلمية. ثم تقوم المؤسسات الجامعية والعلمية بشراء آخر الكتب العلمية الصادرة في لغاتها، وتقوم بترجمتها على الفور ونشرها وتدريسها. وهذا أحد الأسباب الذي جعل من إيران بلدا متقدماً جداً من الناحية العلمية، ويتقدم بوتيرة سريعة.

(5)

الترجمة لا تستوفي شروطها إلا بمعرفة عميقة بالثقافة المترجم عنها، وبالسياق الثقافي والمعرفي الذي أنتج النص المزمع ترجمته. أما مسألة خيانة النص الأصلي التي تتردد كثيرا، فثمة رأي يقول إن كل ترجمة هي خيانة، خصوصاً إذا كان النص المترجم هو نص شعري. وهنا ندخل في خيارات صعبة: هل نترجم ونخون، أم لا نترجم كي لا نخون، وبالتالي ننقطع عن الاطلاع والمعرفة والتمتع بما ينتجه الآخر من ثقافة وآداب وفنون؟  كما ندخل بمسألة مناهج الترجمة، هل المطلوب هو الترجمة الحرفية أم ترجمة المعنى، وهما منهاجان معروفان في الثقافة العربية منذ القدم. باختصار شديد، هناك كما هو معروف، مدرستان في الترجمة، الأولى هي الترجمة الحرفية، وتقتضي ترجمة مفردة بمفردة بغض النظر عن السياق واستواء المعنى، وكان يمثلها في عصر المأمون يوحنا بن البطريق وابن الناعمة الحمصي، أما المدرسة التي تقول بترجمة المعنى بغض النظر عن معنى كل مفردة على حدة، بل تركز على المعنى العام للجملة وسياقها والسياق العام للنص، فكان يمثلها ابن اسحق والجوهري. والقاعدة الذهبية في هذا هي ترجمة تستفيد من المنهجين معاً، أي أن تكون مزيجا من الترجمة الحرفية وترجمة المعنى.

 

 

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.