على المترجم أن يستشعر صوت المؤلف الأصلي للنص

جدل - ترجمة

0 438

سامر أبو هواش- شاعر ومترجم فلسطيني

(1)

هناك خطأ مبدئي شائع يتعلق بمفهوم الترجمة بوصفها نقلاً من لغة إلى لغة أخرى، وهو ما يدفع إلى الكلام عن ضرورة الترجمة في عصرنا الحالي، وقد أصبحت الترجمة الفورية متاحة عبر الانترنت عبر برامج الترجمة الإلكترونية، والاعتقاد أن هذه البرامج يمكن أن تؤدّي عمل المترجم البشري، والحلول محله وتوفير الجهد والوقت. من المؤكد أنه لم يبتكر حتى الآن مثل هذا البرنامج الإلكتروني الذي في وسعه ترجمة نص كامل أو حتى فقرة كاملة، فالبرامج الموجودة اليوم هي نسخ مطوّرة بعض الشيء عن القاموس الورقي، وأنا شخصياً أفيد كثيراً من هذه البرامج، بمعنى أنها توفّر عليّ وقتاً كثيراً في البحث عن معاني المفردات بقدر ما يعينني البحث عبر الشبكة العنكبوتية على إيجاد سياقات واستعمالات معينة لمفردات بعينها، لا سيما العامية منها أو المستحدثة، قد لا أعثر عليها في القواميس. غير أنه لا القاموس الورقي، ولا ذلك الإلكتروني يسعه تقديم أي إضافة تذكر في ترجمة نص كامل، ولا سيما إذا كان هذا النص أدبياً، وتكفي محاولة واحدة لترجمة جملة واحدة تكون بسيطة أيضاً عبر برنامج (غوغل) للترجمة على سبيل المثال، حتى يكتشف المرء عقم هذه المحاولة، هذا مع اعتقادي جازماً أن النصوص العلمية أو السياسية أو الفلسفية لا تقلّ ترجمتها استحالة عن ترجمة النصوص الأدبية عبر البرامج الإلكترونية. على العكس تماماً فإن هذه البرامج تكشف جوهر الترجمة، بوصفها تفاعلاً فكرياً وثقافياً ونفسياً وروحياً ومعرفياً، وليست مجرد عمل تقني أو قاموسي. وهذا أيضاً يبيّن جوهر اللغة التي هي مجموعة من الدلالات والإشارات التي تختلف اختلافات جذرية أحياناً بحسب السياق الذي توضع فيه. أحياناً النقطة أو الفاصلة أو علامات الترقيم يمكنها أن تحدث مثل هذه الفروقات الكبيرة في فهم النص وتأويله. حين يترجم المرء عملاً شعرياً أو روائياً فإنه لا يقوم بنقل مجموعة من المعلومات والبيانات، بل يحاول قدر إمكانه أن يعكس صوت الكاتب مثلما يتبدّى في هذا العمل، وهذا في رأيي جوهر الترجمة.

شخصياً، في ترجماتي، أترجم غالباً الأصوات التي أجد فيها ما يثير اهتمامي وينسجم مع مشروعي الأدبي الخاص، لكن الترجمة في الوقت عينه هي حرفتي والعمل الذي أعيش منه، وعليه فإنني أترجم أحياناً نصوصاً قد يتطلبها عملي المهني، وإن كنت أحاول الحفاظ على مسألة الخيار في هذا المجال.

(2)

عن مقاييس الترجمة، فأنا أميل من حيث أدوات العمل والشروط التقنية وما إلى ذلك، إلى الوضوح والفهم. بالطبع هذا لا يعني التبسيط وتحويل نص مركب مثلاً إلى نص عادي ذي اتجاه واحد، إنما أن يكون هذا النص واضحاً حتى في تركيبه وتعقيده، وهذا لا يكون إلا في حال كان الشخص القائم على عمل الترجمة مستوعباً العمل الذي أمامه وهاضماً إياه، وربما – وهذا الأهم – مستشعراً بعمق كاف، صوت المؤلف الأصلي للنص.

(3)

المعروف أن ما ينقل إلى اللغة العربية من لغات العالم قليل، فكيف بما ينقل من اللغة العربية إلى هذه اللغات والذي يكاد يكون نادراً. ومن منطلق أن الترجمة أداة لمعرفة الآخر ووعيه، فإن صورتنا كعرب اليوم ينقلها التلفزيون أكثر بكثير مما تنقلها النصوص الإبداعية أو المعرفية، وعليه فهي صورة مجتزأة، لا تعبّر كثيراً عن واقع المجتمعات العربية، وهو واقع شديد التعقيد ومتعدد المستويات. ما ينقله الغرب للأسف هو أيضاً ما يناسب صوره وتصوراته. تجذبهم الكتابات التي تعرض لقضايا مثل الحجاب واضطهاد المرأة وما إلى ذلك، وهي قضايا مهمة بطبيعة الحال، غير أنه في كثير من الأحيان لا يعود ثمة تمييز في جودة النصوص أو أهميتها، لأن التقييم يتمّ على أساس الموضوع أو “الجرأة” أو “اختراق المحرمات”، لا على أسس إبداعية حقيقية. رغم ذلك فإن ما ينقل من ثقافتنا العربية ومن نتاجنا الإبداعي العربي إلى اللغات الأجنبية يكاد لا يذكر.

(3)

لا أتفق تماماً مع من يقول أن هناك كماً هائلاً من الجهات التي تترجم من لغات العالم إلى العربية. فبمقارنة ما يترجم عن الإنجليزية مثلاً بما يترجم عن الألمانية أو الإيطالية أو اليابانية أو غيرها الكثير من لغات العالم التي تنتج أدباً ومواد معرفية، نجد في حقيقة الأمر أن هناك تقصيراً كبيراً في هذا المجال، وهو يشمل أيضاً الترجمة عن اللغة الإنجليزية. فالترجمة عن ثقافة ما يفترض أن تقرّبنا أكثر من هذه الثقافة وتتيح لنا سبلاً أكثر تعدداً وتنوعاً لفهمها والتفاعل معها، وهذا غير حاصل عندنا، والسبب لا يقف عند ندرة المؤسسات الثقافية التي تتولى مثل هذه المشاريع، بل أيضاً عند قلة المترجمين المتابعين والمهتمين. ذلك أن ترجمة أدب أمة ما أو ترجمة ما يكفي من أدب أمة ما لا يقوم به شخص واحد ولا تقوم به مؤسسة واحدة. على سبيل المثال، إذا أردنا اليوم أن نفهم المجتمع الأمريكي أو الإنجليزي أو الفرنسي أو الألماني فعلينا أن نترجم ما يكتب وينشر اليوم، أعني راهناً، والذي بالضرورة يرسم صورة عن عوامل الصراع أو عن تركيبة هذه المجتمعات. نحن نختار مثلاً أن نترجم عملاً أساسياً لكاتب ما بعد عشرين سنة على صدوره إن لم يكن أكثر، وفي كثير من الأحيان لا نترجمه أساساً، وفي كثير من الأحيان نختار ما يناسب أجندتنا السياسية أو الأيديولوجية الخاصة فنبحث عما يعبّر عنا أو عمن يتضامن معنا، ولا نبحث عن ترجمة الآخر فعلاً. هذا أجده نقصاً فادحاً وكبيراً يساهم في حالة الانقطاع الكبيرة التي نعيشها كعرب عن العالم، وإن كان هناك بعض المظاهر التي توحي بعكس هذا الانقطاع، غير أن الأحداث الأساسية كما بنية الوعي الأساسية عندنا، تؤكّد مرة بعد مرة مثل هذا الانقطاع.

وفيما يتعلق بترجمة المعارف العلمية والمهنية، أرى أن الضامن الأول لجودة الترجمة هو أن تقوم مؤسسات مرتبطة بفروع المعارف المختلفة بتولي أعمال الترجمة والإشراف عليها. نحن لدينا مثلاً نقص كبير في المنشورات الجامعية بصورة عامة سواء الموضوعة باللغة العربية أو المترجمة. من المعلوم أن المنشورات الجامعية في الكثير من بلدان الغرب تتمتع بمكانة مرموقة وتقدم مساهمات كبيرة في شتى المجالات، بل في كثير من الأحيان تكون ذات قيمة معنوية ومرجعية كبيرة. على سبيل المثال، النصوص الأنثروبولوجية التي ترجمنا من وقت لآخر شذرات منها، ألم يكن من الأفضل لو كان ثمة فرع أنثروبولوجيا في جامعة عربية مرموقة يتولى متابعة ما يصدر من كتب ودراسات في هذا المجال، ثم يقدّمها للقارئ العربي بصورة أمينة وجيدة، بل أيضاً تفاعلية. ذلك أن الترجمة في مثل هذه المجالات لا تنفصل عن العمل الأكاديمي، بمعنى أنها جزء من عملية التعلم والنتاج الثقافي، ومن عملية إيجاد المصطلح ونحته. في الوضع الحالي ليس هناك من ضامن لجودة الترجمة سوى أمانة المترجم في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى أمانة الناشر والجهد الذي هو مستعد لبذله في سبيل كتابه. ولكن حين نجد أن بعض الناشرين يهملون عملية التحرير المتعلقة بسلامة اللغة العربية نفسها أو حتى خلو النص من الأخطاء المطبعية، فلا يمكن التفاؤل كثيراً بما هو أكثر من ذلك.

(4)

قد تكون كارثة الكوارث في رأيي أن تبدو الترجمة الأدبية هي أكثر أنواع الترجمة رواجاً مقارنة بأجناس معرفية كالفلسفة وعلم النفس والطب والهندسة. لذا، فإنني أفضل قراءة النصوص الأدبية بلغتها الأصلية، أما النصوص الأخرى الفلسفية والعلمية والطبية إلخ، فإنني أميل إلى ضرورة ترجمتها إلى اللغة العربية. السبب بسيط، وهو أن هذا يغني اللغة العربية نفسها ويوسّع آفاقها وحتى معجمها، ويقدّم مقترحات تساهم في الإنتاج الثقافي العربي، ناهيك عن أن ترجمة هذه النصوص – بما هي ليست مجرد نقل – بل أحياناً تعليق وتأويل.. إلخ، يسهّل عملية قراءتها على نحو واسع أمام القراء العرب. ربما غياب الجامعات والمراكز المتخصصة هو السبب في هذه الهوة الكبيرة، وربما كان السوق يلعب دوراً في ذلك، بمعنى أن الرواية المترجمة تلاقي رواجاً قد لا يلاقيه الكتاب العلمي أو البحثي، وبالتالي فإن الناشر يميل إلى سلوك الطريق الآمنة التي تحقق له الربح، بما أن الغالبية العظمى من دور النشر العربية لا همّ ثقافياً لها ولا أجندة معرفية، ولا تجيد الجمع بين البعد التجاري والبعد الإبداعي والثقافي.  

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.