كلمات حول الترجمة

جدل - الترجمة

0 397

عطية صالح الأوجلي – كاتب وقاص ومترجم – ليبيا

 (1)

على الرغم من أنني لا أنظر إلى نفسي كمترجم محترف؛ إلا أنني في حقيقة الأمر أزاول الترجمة بشكل متصل، منذ ما يقرب من عشر سنوات. وكثيراً ما تساءلت، بيني وبين نفسي، عن هذا الدافع إلى البحث عن نص ما وقرأته، ثم إعادة خلقه ناطقا للعربية. لماذا كل هذا الجهد لإعادة خلق نص لا يستطيع المرء أن ينسبه إلى نفسه؟ الأسباب كثيرة ومتعددة، كما هي الحال في هكذا قضايا. ربما يدرك المرء البعض منها ولا يدرك البعض الآخر. أفكر هنا في أمرين: الأول هو الحاجة إلى التواصل بيني وبين الكاتب الأصلي، إلى أن أدعوه إلى بيتي، إلى وطني، إلى ثقافتي ولغتي. وهل من سبيل للتعبير عن الامتنان والإعجاب بنص ما، أفضل من إعادة كتابته بلغة أخرى! والثاني هو العلاقة الخاصة التي نشأت عبر السنين بيني وبين الترجمة.

بدأت هذه العلاقة مبكرا. فقد عشت طفولتي، كما أبناء جيلي، في زمن كان الكتاب رفيقنا وكنزنا وبساطنا السحري. طفولة دفعت بنا مبكراً نحو المكتبات المدرسية والمكتبات العامة والمراكز الثقافية. آنذاك  كان المناخ الثقافي في مدينتي بنغازي مميزا؛ حيث تصدر العديد من الصحف اليومية والأسبوعية كالحقيقة، الرقيب، العمل، الزمان، البشائر، برقة …الخ؛ وتصدر مجلات كقورينا وجيل ورسالة؛ كانت هناك محاضرات أسبوعية بالجامعة، وكنا نتمتع برؤية زوار محاضرين من أرجاء الوطن العربي؛ كانت هناك أنشطة ثقافية حتى بالأندية الرياضية . كما كانت هناك العديد من المكتبات التي توفر الكتب والمجلات وبأسعار زهيدة. كانت هناك صحف ومجلات تأتينا من طرابلس مثل مجلة الرواد وصحيفة الحرية. وكانت هناك حركة كشفية نشطة. كانت هناك المكتبات المدرسية والمسرح المدرسي والمرسم المدرسي. كما أنني لا أنسى وجود بعثة تعليمية مميزة من مصر، وأساتذة أفاضل من فلسطين ومن السودان. كانوا بآرائهم وبنقاشاتهم وأحيانا بتعصبهم وخصوماتهم يساهمون بشكل وأخر في تشكيل وعي جيل بأكمله. كانت هناك مراكز ثقافية مثل المركز الثقافي المصري والأمريكي والبريطاني، والعديد من المكتبات العامة. كانت هناك إذاعة مسموعة بحق، وحركة مسرحية نشطة.

في مثل هذا المناخ الثقافي، يستطيع المرء أن يتفهم وبيسر سر انفتاحنا على عالم طل على عقولنا عبر صفحات الكتب وفي قاعات الندوات وعلى خشبة المسارح. في مثل هذا المناخ قرأت العديد من الكتب المترجمة، استهوتني في البداية كتب المغامرات من “روبن هود”  و”روبنسون كروز” حتى “أرسين لوبين”  و”شرلوك هولمز”، ثم انتقلت فيما بعد إلى قراءات أكثر جدية وإبداعاً، مثل قصص وروايات كبار الأدباء الأوربيين انطلاقا من كلاسيكيات “هوجو” و”ديكنز” و” دوستويفسكي” حتى روايات “سارتر” و”مورافيا” مرورا بـ “كازانتزاكس” و”كامو” و”كولين ويلسون”. كما توطدت علاقتي باللغة الانجليزية من خلال المنهج الدراسي، حيث كنا نقرأ بعض الروايات باللغة الانجليزية في المرحلة الثانوية. كذلك من خلال المركز الثقافي البريطاني الذي كان يقدم دورات اللغة الانجليزية. كما كان للترجمة دوراً آخر في حياتي لا يقل أهمية عن الكتب المترجمة، وذلك عبر مشاهدة الأفلام السينمائية الأجنبية.

الترجمة أتاحت لي فرصة التعرف والتمتع بهذا الفن الساحر الجميل، وساهمت في أن يأتي العالم بقصصه وموسيقاه وصوره إلى حيي، وبيتي، وحياتي.

التجربة الأهم كانت بعيداً عن أرض الوطن، حين ذهبت للدراسة والعيش بالولايات المتحدة، حيث تكشفت لي جوانب مهمة من العلاقة الخفية بين اللغة والمجتمع، والعلاقة بين اللغة والثقافة. أدركت الفوارق بين اللغة المحكية ولغة الكتب. وأدركت أن اللغة أكبر بكثير من مجموع مفرداتها. اللغة هي إنتاج تراكمي إنساني ثقافي؛ فالثقافة تلبس الكلمات ثوبها واللغة ترعى الثقافة بتركيباتها. إن اللغة ترسم حدود الممكن و تترك للثقافة عبء تفسيره.

كان أستاذ اللغة الانجليزية يقول لي: لن تستوعب اللغة إلا إذا استوعبت المزاج الوطني؛ فعليك بالملاعب الرياضية والمهرجانات والأسواق والمقاهي ودور السينما، طالع مجلاتنا وجرائدنا؛ تابع اخبار الرياضة والطقس، والفن والحروب. كان يقول “عندما تضحكك النكات الأمريكية فأعلم آنذاك انك تتحدث لغتنا”.

(2)

كيف بدأت أترجم؟ لم يكن الأمر مخططا له. فأنا أتابع بعض ما ينشر باللغة الإنجليزية. فتستهويني بعض النصوص فاحدث عنها أصدقائي الذين كانوا يحرضونني على ترجمتها. وهكذا كان الأمر. ولكن ما إن انتهيت من ترجمة النص الأول حتى شعرت بولادة جديدة وبعشق جديد. وبعد شيء من التمعن والممارسة أدركت إن الترجمة هي كتابة من نوع آخر. كتابة مقيدة ولكنها لا تخلو من الإبداع. ربما حجم التحدي الذي يواجهه المترجم  لا يقل عن ذاك الذي واجهه المؤلف.  أدركت أن المترجم المبدع خيميائي يحيل قطعة من الذهب إلى قطعة ذهب أخرى. وأدركت أنه كالخيميائي، قدره أن يتقن ويقدس أسرار ومهارات مهنته. الفرق هو أن الخيميائي في الأساطير يحيل التراب إلى ذهب، بينما في الترجمة لا نتعامل نحن إلا مع الذهب. نحن نحرس كنوز غيرنا كما تفعل الغيلان والمردة في قصص الخيال، مدفوعين بعشق  قاهر، ولكننا نختلف عن المردة في رغبتنا الملحة لكي يرى الآخرون هذه الكنوز ويستمتعون بها كما استمتعنا نحن بها.

’’الترجمة إعادة خلق للنصوص بروح جديدة ولغة جديدة’’

(3)

الترجمة الإبداعية فن وكأي فن، لا تخضع لمقاييس وقوالب جامدة. الترجمة كأي فن سيعاد تشكيلها مراراً وتكرارا، وستختلط قواعد العمل فيها مع اللمسات الفنية والجمالية الفردية. الترجمة عبوراً للأنهار؛ ولأنك لن تعبر النهر ذاته مرتين، فلن يُترجم  نفس العمل بنفس الطريقة مرتين. الترجمة تسلل عبر شقوق الزمن وتمرد على الجغرافيا، وعصيان لعقلية القطيع.

(4)

الترجمة إعادة خلق للنصوص بروح جديدة ولغة جديدة. هنا يضيف المترجم رؤيته للنص ويفصح عن قدراته في التواصل مع القارئ العربي. لابد للمترجم من أن يكون على اطلاع واسع؛ ليس فقط على اللغة المراد الترجمة منها، وإنما على البيئة الثقافية والسياسية لمؤلف النص. فنحن لا نستبدل كلمات، وإنما نترجم مفاهيم ذات دلالات محددة، ووليدة بيئة محددة؛ ودون فهم هذه الدلالات لن يختلف نتاجنا كثيرا عن الترجمة الآلية. النص في لغته الجديدة ينتمي للمترجم بنفس الدرجة التي ينتمي بها إلى المؤلف الأصلي. ولعل هذا هو ما دفع ميتسوس -وهو مترجم شهير- إلى قول ما معناه: “إن أحسن مترجم هو الذي لا يترجم عن المؤلف سوى العنوان، ويعتمد في الباقي على إبداعه الأدبي”. المسئولية التي تقع على عاتق المترجم هي الإخلاص لروح النص، وبذل كل جهد لنقل المحتوى بإخلاص وجدية. وككل القضايا الإبداعية والأخلاقية، سيختلف تأويل هذا المحتوى من مترجم إلى آخر. وهنا دعوني أتساءل معكم: أحقا قام رامي أو ” فيتزجرالد”، بترجمة رباعيات الخيام، أم بإعادة تأليفها؟

(5)

هناك شكوى في الولايات المتحدة، لدى مثقفي النخبة، من ضعف الترجمة لديهم. فمن مجموع الكتب التي تنشر في الولايات المتحدة، تًشكل الكتب المترجمة من لغات أخرى من2 % إلى 3%، بينما تصل النسبة في أمريكا اللاتينية إلى حوالي 35 %.  صحيفة “الفايننشال تايمز” وصفت ضعف عملية الترجمة بحائط برلين جديد. يحدث هذا في الولايات المتحدة التي تتمتع بسوق هائلة للكتاب، وبقراء يتمتعون بقوة شرائية لا تضاهى. يحدث هذا في أمريكا التي لغتها هي بوابة كتاب العالم نحو العالمية. في اليابان يقومون بترجمة ما يقدر بثلاثين مليون صفحة سنويا إلى اللغة اليابانية. وقد تعاقدت الحكومة اليابانية مع عدد من دور النشر العالمية لترجمة كل مطبوعة علمية مباشرة بعد نشرها في لغتها الأصلية. وهكذا، كلما اقترب مجتمع ما من العالم أدرك أهمية الترجمة. مشكلتنا نحن ليست في الترجمة وإنما في القراءة. فحائط برلين لدينا يقوم بين الكتاب وقارئه. إذا ما عزف الناس عن القراءة فلم الترجمة إذن؟

(6)

الصعوبات التي واجهت المترجمين العرب الأوائل في العصر الحديث هي ذاتها التي تواجه الرواد في كل مجال. لعل أشدها كان إثبات الوجود وكسر النظرة النمطية لهم. فالنظرة التقليدية للمترجم، كانت تراه كنادل في مقهى يقوم بتقديم وجبات لم يشترك في تحضيرها!! أو في أحسن الحالات كشبح تسمع عنه ولا تراه، أو ربما كساعي بريد. وعلى الرغم من ذلك، فقد تمكن عدد من المترجمين إلى إثبات وجودهم بشكل رائع. فمترجمون أمثال منير بعلبكي، سامي الدروبي، جبرا إبراهيم جبرا، ممدوح عدوان، بسام حجار، أسامة أسبر، آدم فتحي، صالح علماني، محمد علي اليوسفي، أسامة منزلجي، اسكندرحبش وغيرهم ممن اشتهروا بجودة الإنتاج، وحسن الاختيار، وباللغة الراقية الجذابة، تمكنوا من خلق جمهور لهم، وعلى خلق جماعات تلقٍّ جديدة. لقد استطاع الرواد تخطي جزء من الصعوبات؛ ولا يزال الكثير.

(7)

الإشكالات الحاضرة تكمن في غياب العمل المؤسسي بثقله المادي والمعنوي، وهي مسألة، حسب وجهة نظري، لها علاقة بدرجة تطور ونمو المجتمعات العربية، التي لازالت تفتقر إلى المؤسسات بأنواعها المتعددة وفي معظم القطاعات. أما على الصعيد الفردي فالصعوبة الحقيقية هي في التفاعل مع النص الأصلي. الباقي مجرد تفاصيل مهنية يمكن التغلب عليها بشكل أو بآخر. بالطبع لا أقلل من قيمة الصعوبات التي قد تواجه المترجم عند ترجمة الشعر مثلا، أو عند التعامل مع مفاهيم غير متواجدة أو غير معروفة في البيئة العربية. كما أن المترجم في نهاية المطاف يتحرك في إطار معرفي ولغوي وثقافي محدد سيترك أثره على النصوص المترجمة؛ ولكن هل ثمة مهرب من ذلك؟

( 8)

حاولت قدر إمكاني أن أقدم للقارئ العربي نصوصاً إبداعية من قارتي آسيا وأفريقيا. فقمت بترجمة نصوصاً لشاعرة البنجاب أمريتا بريتام، وللكاتب الهندي اميتاب غوش، والكاتبة الأميركية من أصل عربي ديانا أبو جابر، للكاتبة من أصل إيراني ياسمين كروثر، للأسترالي جريجوري ديفيد روبرتس، للنيجرية شيماماندا اديتشي والتركية أليف شفق، والصينية دايان وي لينج، للكاتبة الفلسطينية سعاد العامري، والإسرائيليين جلعاد عتصمون  وأميرة هاس، وللجنوب أفريقي ديمون قالقوت وغيرهم. لماذا؟ أولاً، لأنني معجب حتى الثمالة بالأعمال الأفريقية والأسيوية المكتوبة باللغة الإنجليزية. فاللغة راقية وشاعرية، المشاعر دافقة والأفكار هائلة. الكثير منها يتناول التعقيدات الناشئة عن العيش في ثقافة تختلف عن ثقافة الاباء والأجداد، مثل ما يحدث مع الجيل الثاني من المهاجرين إلى دول الغرب. فمسائل الهوية والانتماء وصراع الأجيال والثقافات، وعلاقة كل ذلك بحياة الأفراد العاديين هي المحور الرئيسي لكتاباتهم. ثانياُ،  لرغبتي في استطلاع أراض بكر بالنسبة للقارئ العربي الذي لا يجيد اللغة الانجليزية؛ وأرجو أن أكون قد وفقت في ذلك.

( 9)

بالنسبة لنا كأمة، قدرنا هو الترجمة التي لسنا بغرباء عنها. فقد شكلت الترجمة دوما إحدى المكونات الرئيسية لنهضتنا الثقافية. كما أن الترجمات والشروح العربية للنصوص اليونانية لعبت دورا رئيسيا في اليقظة الأوروبية. الترجمة دليل نضوج ويقظة.

(10)

أخيراً، نحن نعيش عصر الحضارة الغربية. شئنا أم أبينا. وإذا أردنا العلوم والتقدم والتقنيات ومناهج التفكير والتنظيم الحديثة فعلينا بترجمتها لتطوير وتحديث مجتمعاتنا. الترجمة كانت ولا زالت أداة للحوار والتفاعل بين الثقافات ووسيلة للتطور الحضاري. الترجمة طوق نجاة لمن يريد أن  يتفادى الغرق. أدرك أن العلاقة بيننا وبين الغرب مرتبكة ومربكة لنا ولهم. وقد زاد من تعقيدها بروز العامل الديني وتوظيفه سياسياً من قبل الجانبين. في ظل هذا التوتر، تبدو الدعوة للحوار والتسامح نغمة شاذة ودعوة طوبائية وربما توسم بالسذاجة؛ لكن هل هناك بديل عن الحوار والتفاهم ؟ من يملك بديلا أفضل فليرنا إياه.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.