يوسف إسماعيل شغري – شاعر وناقد ومترجم – سوريا
(1)
أعتقد أن الترجمة من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية، ومن العربية إلى اللغات الأخرى، مسألة في غاية الضرورة والأهمية. وإذا نظرنا إلى التاريخ فإن أي تقدم حضاري يبدأ بالاتصال مع الحضارات السابقة له، كما فعل المترجمون السريان والعرب وغيرهم، الذين نقلوا التراث الحضاري (العلمي والأدبي والفني) لبلاد فارس والهند وبلاد الإغريق. ومنه نشأت وأضافت الحضارة العربية الإسلامية إلى التراث البشري. وهذا ما حدث أيضاً مع التراث العربي الإسلامي، الذي تُرجم إلى اللغات الأوربية انطلاقاً من اسبانيا. واليوم نحن بأمس الحاجة إلى ترجمة التراث الحضاري الأوروبي والأميركي وغيره إلى لغتنا. أما عن الترجمة الفورية المتاحة عبر الانترنت فقد أثبتت فشلها؛ إذ لا يمكن للترجمة أن تكون نتاج آلة ما أو جهاز الكتروني. لو كان ذلك ممكناً لاستبدلت الأمم المتحدة المترجمين الفوريين لديها واستبدلتهم بآلة كومبيوتر. وذلك لسبب بسيط هو: الترجمة فعل إنساني لا يمكن إنتاجه إلا للإنسان. من الطرائف في هذا المجال، أن صديقنا الفنان التشكيلي السعودي عبد الرحمن السليمان عندما ترجم له أحدهم موقعه على الانترنت، كان هناك مكان بعنوان ( كتابات نقدية) و المقصود طبعاً ( كتابات نقاد الفن التشكيلي من حيث تقييم الأعمال) وعندما اطلعت على الموقع قرأت الترجمة الانجليزية
لـ (كتابات نقدية) هكذا (cash writings). طبعاً الصحيح (writings of criticism). (cash) المال السائل (النقد) غير الشيكات وما شابه!!
(2)
لماذا أترجم؟ فهناك أسباب عديدة أولها إعجابي بالنص، ومتعة أن يشاركني فيه أناس آخرون لا يعرفون اللغة التي أنقل منها. وهناك هدف عام هو نشر الثقافة والتراث الإنساني إلى الناطقين بالعربية، أو التعريف بأدبائنا و فنانينا. باختصار التواصل مع الآخر مما يزيد مساحة التفاهم ويقلل التعصب، بحيث يفهم إنساننا الآخرين ويفهم الآخرون إنساننا.
أما لمن أترجم؟ فإنني اختار النصوص والكتب التي اعتقد أنها مفيدة للقارئ العربي، أو أقدم أدباء وفنانين من لغات أخرى إلى قارئنا العربي. في الترجمة إلى الانجليزية، أنقل من أدبنا وفننا، فقد ترجمت الكثير من القصائد من مختلف دول العالم منشورة في الصحف والمجلات السورية وفي مواقع الانترنت وأقوم بجمعها لإصدارها في كتاب بعنوان (قلب في راحة يد). وكذلك أعمل على إعداد مرجع هام في الفن التشكيلي هو (قاموس الفن التشكيلي الغربي). ترجمت العديد من المواد من عدة قواميس متخصصة في مجال الفن التشكيلي ومصطلحاته، وذلك لحاجة المكتبة العربية لمرجع من هذا النوع. وترجمت من إلى الانجليزية مجموعة الشاعرة العراقية وفاء عبد الرزاق (من مذكرات طفل الحرب)، وسيناريو فيلم عن أطفال العراق مأخوذ عن المجموعة وذلك ضمن مشروع لدعم أطفال العراق، المتضرر الأكبر من الحرب التي شنت على العراق.
’’الترجمة مسؤولية المترجم بالدرجة الأولى، ومسؤولية الناشر بعد ذلك والمؤسسات المسؤولة عن النشر، ومن ثم مسؤولية القارئ أيضاً’’
(3)
الترجمة مسؤولية المترجم بالدرجة الأولى، ومسؤولية الناشر بعد ذلك والمؤسسات المسؤولة عن النشر، ومن ثم مسؤولية القارئ أيضاً. أما عن المعايير فهي معروفة. من المتعارف عليه، أن ترجمة نص من لغة إلى أخرى يكون – ومهما تحرى المترجم الدقة – خيانة للنص الأصلي بدرجة ما. لأن طبيعة كل لغة فيها خصوصية، ومن هنا يكاد يكون من المستحيل أن تكون الترجمة مطابقة للنص الأصلي مئة بالمئة. دائماً، يضيع شيء ما أثناء الترجمة. إذا اتفقنا أن الترجمة هي خيانة للنص الأصلي بدرجة من الدرجات، فإن أول معيار هو أن تكون الخيانة بأقل قدر ممكن. بتعبير آخر ينبغي أن أقول مثلاً: لو أن صاحب النص الأصلي أراد أن يكتب هذا النص باللغة التي أنقل نصه إليها كيف كان يكتب نصه وبأية كلمات و أي تعابير. والمعيار الثاني أن لا يتم التأليف على النص: فهذا النص الذي أنقله ليس نصي، بل نص شخص آخر ينبغي أن أراعي ذلك. والمعيار الأهم ربما أن يكون المترجم عارف بدرجة مقبولة للغتين التي ينقل منها والتي ينقل إليها. وأعني بعارف للغة يعرف مفرداتها وإملاءها و قواعدها وصرفها. فلا يكفي أن يعرف إحدى اللغتين ومن ثم يتنطع للترجمة!! وإن لم يكن كذلك يمكن له أن يخرج عن النص أو يترك أجزاء من النص تعب ترجمتها. وكل ذلك يجعل الخيانة للنص أكبر فأكبر حتى تخرج الترجمة من حيز المقبول إلى غير المقبول!
أما عن معايير جودة الترجمة فالحقيقة لا يوجد ضامن في الوقت الراهن. ليس هناك رقابة على المواد المترجمة تتعلق بجودة الترجمة. ينبغي أن تكون هناك رقابة على هذا الجانب عند إجازة المخطوط للترجمة. وعلى حد علمي، هذه المؤسسة غير موجودة في معظم الدول العربية. يبقى الضامن الوحيد ذائقة القارئ. على أي حال، في وضع، يسود الانترنت فيه، لا يمكن مراقبة النشر. صار كل من هب ودب يترجم دون النظر إلى المقومات المهنية والعلمية للمتنطعين للترجمة. أذكر أنني، في الصيف الماضي، راجعت قراءة ترجمة الدكتور ثروت عكاشة لكتاب أوفيد “فن الهوى” وفي إحدى ملاحظاته في الهامش قرأت أنه تجاوز عن عشرات الأبيات ولم يترجمها “لأنها تخدش حياء القارئ العربي”!! ولما ثار الفضول لدي لأرى ما هي الأبيات التي “تخدش حياء” القاري العربي، عدت إلى الترجمة الانجليزية لنص أوفيد، فرأيت العجب العجاب. من حذف أبيات كثيرة بهذه الحجة. علماً أن أوفيد لا يستعمل الكلمات المباشرة بل يلجأ إلى التورية. وتابعت القراءة بالانجليزية وقارنتها مع النص المترجم، فهالني مقدار الخروج العجيب على النص الأصلي لاوفيد. هذا، والدكتور عكاشة المعروف “بأمانته”. فكيف غيره!! إذن أين الضمان إن لم يكن ضمير المترجم وأخلاقه وصدقه.
(4)
أما فيما يخص اهتمام الغرب بثقافتنا، على حد علمي، أن الغرب مهتم فينا بقدر ما تتطلبه مصالحة. لا شك أن التغيرات في العالم، واختيار المحافظين الجدد الإسلام كعدو بعد انهيار الأنظمة الشيوعية، ركز الاهتمام أكثر لمعرفة الإسلام وكيف يفكر العرب الذين من عندهم نشأ هذا الدين. ربما يكون هذا الوضع الجديد ركز الاهتمام أكثر بالترجمة عن العربية ليفهموا لماذا هم مكروهون. وكيف يمكن تغيير هذه العقائد أو نزع أسنانها ومخالبها على الأقل بحيث تصبح غير مؤذية. هم يترجمون ما يهمهم. وما يفيدهم في الوصول إلى أهدافهم. أما مسألة ردم الهوة المتعلقة بصورتنا في الإعلام الغربي. فتلك مسؤولية الدول والقادة السياسيين، الذين لا بد أن يدركوا أهمية أن يصل صوتنا كعرب إلى الشعوب الأوربية والأميركية. أما أن تكون الدوائر المعنية بالترجمة واعية وغير مرتبطة أو موجهة سياسياً، ففي رأيي لا بد أن يكون هناك توجه ما على المستوى القومي العربي. بالطبع لن تكون الترجمات بوق دعاية لهذا البلد أو الزعيم . إن كانت كذلك، فلن تكون مقنعة للمتلقي الغربي. أظن أن رسالة الترجمة ليست إعلامية آنية، بل ينبغي أن تكون على المستوى الحضاري. أن نحاور الغرب بما لدينا في الأدب والفن والعقائد الإنسانية .. إلخ. بالنسبة لنا، ينبغي أن نهتم بترجمة العلوم والتقنية الحديثة، بالإضافة إلى العلوم الإنسانية من آداب وفنون وتاريخ وفلسفة.. ألخ. بالنسبة لي، كل ترجمة جيدة مفيدة. صحيح أن هناك تقصير في ترجمة العلوم، خاصة العلوم التكنولوجية الحديثة. وإن كانت هناك ترجمات ركيكة لبعض هذه العلوم فذلك ناتج عن انعدام وجود مؤسسات مسؤولة عن الترجمة، خصوصاً ما يحصل في بعض الجامعات العربية . كلنا يعرف أن بعض “الدكاترة” المدرسين في الكليات العلمية يكلفون طلابهم بترجمة أجزاء من كتاب ما ويعطون مقابل ذلك درجات لهؤلاء الطلاب، الذين يلجاؤون بدورهم إلى مكاتب للترجمة غير متخصصة. ثم يجمع “الدكتور الهمام” المادة المجزأة و يطبعها باسمه على أنها من تأليفه!! و من هنا ترى العجب العجاب في ترجمة بعض المقررات الجامعية العجيبة!!
ينبغي برأيي أن يكون، في كل دولة عربية، مجلس ثقافي وطني يتكون ممن عرف عنهم الكفاءة في المجالات الثقافية المختلفة يتخصص في مختلف الفروع الثقافية المختلفة، ومنها مجلس للترجمة. يكون هناك مجلس على المستوى القومي العربي للثقافة والعلوم والآداب ينبثق عنه مجلس قومي للترجمة. تقوم المجالس الوطنية للترجمة على مراقبة وإجازة الترجمات، من حيث جودة الترجمة والأمانة للنص الأصلي، ووضع الخطة الوطنية للترجمة في مختلف الاختصاصات العلمية والأدبية. يتكون المجلس، على المستوى العربي، من مندوبين من المجالس الوطنية. أتمنى أن تكون هذه المجالس مستقلة عن الأجهزة الحكومية وبيروقراطيتها ومحسوبياتها مع تقديم الدعم المادي والمعنوي لها من قبل الدولة.
(5)
في النهاية، أظن أنه لا يمكن للترجمة وحدها أن تكون معرفة وافية بثقافة أخرى لكن الترجمة عامل هام جداً في فهم الآخر وثقافته. هناك أيضاً التفاعل المباشر وأجهزة الإعلام والفنون الأخرى كلها تلعب أدوراً مختلفة الأهمية في فهم ثقافة الآخر. وفي كل الأحوال تلعب الترجمة دوراً بالغ الأهمية لكنه ليس الوحيد طبعاً.