الترجمة والحتميّة الحضاريّة

جدل - الترجمة

0 486

مصطفى القلعي -كاتب ومترجم من تونس

“ليس عندنا من الأقلام والأدمغة ما يفي بسدّ الحاجات. فلنترجم ولنحلّ مقام أسرار عقول كبيرة تسترها عنّا غوامض اللغة، يرفعنا من محيط صغير محدود نتمرّغ في حمأته إلى محيط نرى منه العالم الأوسع، فنعيش بأفكار هذا العالم الأوسع فنعيش بأفكار هذا العالم وآماله وأفراحه وأحزانه. فلنترجم.”(1)

  1. الترجمة حتميّة لا اختيار:

هل الترجمة ترف ثقافيّ؟ مَن يحتاج إلى الترجمة؛ الشعوب المتقدّمة أم المتأخّرة أم كلاهما؟ من الذي لا يحتاج إليها؟ هل للترجمة علاقة بالثروة؟ هل لها علاقة بالثقافة؟ هل لها علاقة بالدين؟ من يترجم؟ ممّن يترجم؟ ما هي الترجمة؟ من كان أوّل المترجمين؟ مَن مِن الشعوب كان أوّل المتفطّنين إلى ضرورتها؟ هل كان ذلك منذ هجرة نوح عن دياره، بعد البلبلة البابليّة، كما قال أمبيرتو إيكّو(2)؟ هل الترجمة فعل ثقافيّ أم هي فعل حضاريّ؟ هل الترجمة فعل لغويّ بحت؟ ألا تجوز الترجمة من الألسنة الناطقة إلى فنون أخرى كالرسم أو النحت أو الرقص أو السينما أو من هذه الفنون إلى اللغة؟ قد لا يتوقّف سيل الأسئلة الملحّة هذا إن شئنا المضيّ قدما في الإصغاء إلى صوت الحيرة العاتية القادمة من أعماق الذات المفكّرة.

إنّ منطلق هذا المقال مسلّمة مفادها أنّ الترجمة فعل حضاريّ، لاسيّما أنّها نشاط فكريّ قديم في الثقافة العربيّة. ومعنى كونه فعلا حضاريّا، أنّها تتجاوز اعتبارها حاجة ثقافيّة لأمّة من الأمم أو لشعب من الشعوب لأجل التواصل مع الأمم والثقافات الأخرى المجاورة أو البعيدة. إنّ الحاجة الثقافيّة يمكن سدّها بنظيرها، أو بما يعوّضها أو بما يفي بها أو ببعضها من إنتاج محليّ. فالحاجة الثقافيّة حاجة داخليّة تحصل داخل ثقافة من الثقافات. لكنّ الحاجة الحضاريّة تفرضها شروط التواصل الكونيّ.

بمعنى آخر، إنّ الدافع إلى الترجمة هو نوع من الإحساس بنقص طال الذات، وانكشف أمامها بفعل الاتّصال بالآخر، أيّ آخر. وهذا يعني أنّ كلّ الشعوب شاعرة بهذا النقص لا محالة. فالشعوب الثريّة المرفّهة، مثلاً، هي أكثر الشعوب ترحّلاً وانتقالاً في المكان واتّصالاً بغيرها بفعل عاداتها السياحيّة. وهو ما يجعلها أحوج إلى امتلاك المعرفة بالآخر، سواء قبل التعرّف عليه أو بعده. ولا يمكن أن تتاح لها هذه المعرفة إلاّ بإحدى وسيلتين: تعلّم اللغة، أو الترجمة منها. ولعلّ الترجمة أوسع من التعلّم لأنّ فعل التعلّم يقف عند الاستعمال الذاتي للغة المكتسبة في التواصل. أمّا الترجمة فإنّها تجمع إلى الاكتساب والإتقان النقل المعرفيّ. يعني ذلك أنّ الترجمة، بهذا المعنى، تتحوّل من فعل ثقافيّ إلى فعل حضاريّ حتميّ.

  1. في مفهوم الترجمة:

إنّ المشتغل على موضوع الترجمة لابدّ أن يتذكّر ما قاله القدامى فيها لاسيما الجاحظ والتوحيدي والفارابي. فلقد اعتبر الجاحظ الترجمة فعلاً جديّاً صارماً لا تهاون فيه. ويتّضح ذلك من خلال الشروط التي وضعها للمترجم. فالناظر في هذه الشروط يتأكّد بيسر أنّ فعل الترجمة يكاد يكون مستحيلاً. وقد حذا الجاحظ في ذلك حذو الإمام الشافعي الذي وضع شروطاً للمجتهد، في كتابه “الرسالة”، يستحيل توفّرها في كائن بشريّ ممّا يجعل فعل الاجتهاد فعلاً مستحيلاً. فهما يفعلان كمن يأخذ باليسرى ما يقدّم باليمنى.

قال الجاحظ: “ولابدّ للترجمان من أن يكون بيانه في نفس الترجمة، في وزن علمه في نفس المعرفة. وينبغي أن يكون أعلم الناس باللغة المنقولة والمنقول إليها حتى يكون فيهما سواء وغاية. ومتى وجدناه أيضا قد تكلّم بلسانين، علمنا أنّه قد أدخل الضيم عليهما لأنّ كلّ واحدة من اللغتين تجذب الأخرى وتأخذ منها وتعترض عليها. وكيف يكون تمكّن اللسان منهما مجتمعين فيه كتمكّنه إذا انفرد بالواحدة، وإنّما له قوّة واحدة. فإن تكلّم بلغة واحدة استفرغت تلك القوّة عليهما، وكذلك إن تكلّم بأكثر من لغتين، وعلى حساب ذلك تكون الترجمة لجميع اللغات. وكلّما كان الباب من العلم أعسر وأضيق والعلماء به أقلّ، كان أشدّ على المترجم وأجدر أن يخطئ فيه. ولن تجد البتّة مترجما يفي بواحد من هؤلاء العلماء.”(3)

’’الترجمة فعل حضاريّ، لاسيّما أنّها نشاط فكريّ قديم في الثقافة العربيّة. ومعنى كونه فعلا حضاريّا، أنّها تتجاوز اعتبارها حاجة ثقافيّة لأمّة من الأمم أو لشعب من الشعوب’’

أمّا أبو حيّان التوحيدي فقد كان موقفه من الترجمة ألين من سلفه. بل إنّه بدا متحمّساً لفعل الترجمة حين جعلها بوّابة للحكمة متى احترمت خواصّ المعاني. قال: “على أنّ الترجمة من لغة يونان إلى العبرانيّة، ومن العبرانيّة إلى السريانيّة، والسريانيّة إلى العربيّة، قد أخلّت بخواصّ المعاني في أبدان الحقائق إخلالاً لا يخفى على أحد. ولو كانت معاني يونان تهجس في أنفس العرب بيانها الرّائع، وتصرّفها المعجز، وسعتها المشهورة، لكانت الحكمة تصل إلينا صافية بلا شوب وكاملة بلا نقص. ولو كنّا نفقه عن الأوائل أغراضهم بلغتهم كان ذلك أيضاً ناقعاً للغليل، وناهجاً للسبيل، ومبلغاً إلى الحدّ المطلوب. ولكن لابدّ في كلّ علم وعمل من بقايا لا يقدر الإنسان عليها، وخفايا لا يهتدي أحد من البشر إليها.”(4)

أمّا في الثقافة العربيّة المعاصرة، فلقد راجت تعريفات كثيرة للترجمة. فمن الباحثين العرب من يرى أنّ “الترجمة تمازج بين الثقافات وتبادل”(5). لكنّ هذا التعريف قد يوحي بأنّ الترجمة فعل اختياريّ الغاية منه إقامة حوار مع الآخر. وهو ما يستدعي توضيح فكرة الترجمة والحوار. يقول الباحث نفسه: “ولسنا نقصد بالحوار إقامة تساوٍ مع الآخر أو ذوباناً فيه أو تماهياً معه، بل نعني حوارا يبقي على الفوارق الثقافيّة وعلى الخصوصيّات المميّزة لكلّ طرف”(6). غير أنّنا نحتاج إلى الخروج من التعميم، في مثل هذا الكلام، إلى تدقيق الآليّات التي بها يتمّ ضمان الحفاظ على الفوارق الثقافيّة والخصوصيّات المميّزة لكلّ طرف.

ومن التعريفات، أيضاً، ما اختزل الترجمة في بعدها التقنيّ حين عمل على تحديد شروط المترجم. نقرأ: “الترجمة هي نقل نصّ من لغة إلى أخرى. وهذا النقل يفرض أن يكون المترجم متقناً للغة المصدر ومتقناً للغة المنقول إليها”(7). ومنها ما ذهب إلى أنّ الترجمة تأويل: “إنّ ما نصادر عليه، على ضوء تعدّد المذاهب الفكريّة والنظريّات الألسنيّة في العصر الحديث، أنّ الترجمة، في نهاية الأمر، تأويل لنصّ ما”(8). وهذا الاعتبار يعيد تشغيل الجدل السائد حول الأمانة العلميّة والحياد وغيرهما من مصطلحات الترجمة وشروط المترجم.

ومن المترجمين الباحثين العرب المعاصرين من بدا شديد الحرص على وضع السياق آن ممارسة فعل الترجمة موضع الاهتمام والتدقيق، حتى لا تتحوّل الترجمة إلى ما سمّاه “لغوا”. نقرأ: “إنّ الترجمة العربيّة بصدد خلق سياق لغويّ لئن لم يصطحبه سياق هو سياق الشيء، أشبه أن تصبح اللغة جعجعة ولغواً. وإنّنا لنرى اليوم بيننا أنسجة لزيقة (كذا!) من الدوالّ التي لا ندري عمّا تتحدّث”(9). وهو ما يعني أنّ الترجمة قد تتحوّل إلى فعل خطر قد يدخل الاضطراب على الأنظمة اللغويّة المستضيفة وعلى السياق الاجتماعيّ المحليّ.

ولتجنّب هذه الفوضى، يدقّق الباحث نفسه في صفة المترجم. فيقرن بين الترجمة والتفكير. فالترجمة ليست فعلاً ميكانيكيّاً يكفي لإنجازه إتقان لغة ناقلة وأخرى منقول منها. وإنّما لابدّ أن يكون المترجم مفكّراً قادراً على النفاذ من سطح الأشياء إلى أعماقها، ومن شكلها الظاهر إلى بناها العميقة المعقّدة. نقرأ: “لذلك لا يمكن أن يكون المثقّف، الذي يأتي اليوم، ترجماناً فحسب. إنّه خاصّة مفكّر، جوهر تفكيره أن تخلُق الترجمة على يديه سياقاً يوازن الأصل، بل أن يخلق لها هذا السياق الموازن للأصل حتى تكون ترجمة بحقّ، أعني أن تتكلّم انطلاقا من الشيء نفسه، غيرا.”(10)

ويلحّ الباحث نفسه على أنّ المشكل الفارابيّ، المتمثّل في عمليّة نقل الكلمات من سياقها الطبيعيّ إلى دلالتها الاصطناعيّة، يظلّ ملحّا في الثقافة العربيّة. فالمشكلة ليست كامنة في اشتقاق الألفاظ والمصطلحات فقط، وإنّما في “تجربة المعنى”. فكيف نشتقّ ألفاظا متصالحة مع معانيها في لغتنا؟ نقرأ:

“إنّ مشكلنا في العربيّة يظلّ دوما فارابيّاً [الحروف] : كيف يمكن نقل الكلم من سياقها “الطبيعيّ” إلى دلالتها الاصطناعيّة، تلك الدلالة التي نصطنع فيها الكلمة لمعنى ونتصانع على ارتباطهما تصانعاً؟ إنّ الأمر لا يتعلّق مثلاً بتمنّع للألفاظ والمفردات عن الاصطناع بقدر ما يتعلّق بقصور اللغة عن تجربة المعنى. كيف يمكن للغة من اللغات أن تحتمل همّ نقد الميتافيزيقا وهي لم تضق بها ذرعاً؟ هل يمكن اختزال تجربة فكريّة برمّتها بتقويل لغة من اللغات للمرادف المفهوميّ الذي تتلخّص فيه تلك التجربة. إنّ هذا هو جوهر المشكل في ترجماتنا العربيّة: أنّنا لن نخلق فلسفة ولا علماً ولا شعراً بإحداث الكلمات. وإنّ قائمة المفاهيم التي تُؤدَّى ترجماتُها من غير أن تُتمثّلَ مقتضياتها لقائمة طويلة مطوّلة: فهذه لغة تكاد لا تسمع نفسها، وإنّما في هذا يتمثّل مشكلها الحقيقيّ. وإنّنا لفي دور، بل في دوار منه.”(11)

  1. الترجمة والنهضة الحضاريّة:

لقد ارتبطت الترجمة بالنهضة الحضاريّة منذ القديم. فلقد مارستها كلّ الحضارات لاسيّما الحضارة العربيّة. ﻔ “يرى أحمد أمين أنّ الترجمة في التاريخ الإسلاميّ توزّعت على ثلاثة أدوار كبرى: الدور الأوّل يجعله من خلافة المنصور إلى آخر عهد الرشيد (136ﻫ- 193ﻫ). وأهمّ من يمثّله من المترجمين ابن المقفّع (ﺗوفي حوالي 145ﻫ) الذي ترجم من الفارسيّة “كليلة ودمنة” وجورجيس بن جبرائيل ويوحنّا بن ماسويه أستاذ حنين بن إسحاق. الدور الثاني: وهو الذي “ترجمت فيه أهمّ الكتب اليونانيّة في كلّ فنّ”. ويمكن اعتبار حنين بن إسحاق برأسه زعيم مدرسة للترجمة في هذا الطور. أمّا الدور الأخير فيمثّله مترجمون لاحقون من أبرزهم متّى بن يونس وسنان بن قرّة (ﺗ 331ﻫ). وأهمّ ترجماتهم كتب أرسطو الطبيعيّة والمنطقيّة”(12).

ولأنّ الترجمة فعل حتميّ، فقد تمأسست منذ النصف من القرن الثاني الهجريّ، بعد أن أسّس المأمون بيت الحكمة في بغداد. يعني ذلك أنّها تحوّلت من جهد فرديّ قائم أساساً على الاجتهاد والانطباع إلى جهد جماعيّ تقوم على تنظيمه وإنجازه مؤسّسات مخصّصة للترجمة. ﻔ “لولا الترجمة ما كان للتعليم الحديث أن ينشأ ولا للرحلات أن تنجز ولا للصحف أن ترى النور وتؤدّي مهمّاتها في الإعلام والتنوير”(13).

لقد أتاحت الترجمة للحضارة العربيّة إمكانيّات تاريخيّة للاطّلاع على مضامين التقدّم الأوروبيّ، وعلى الحركات الاجتماعيّة والفكريّة والاقتصاديّة وغيرها، وعلى الثورات التي غيّرت وجه أوروبّا والعالم بأسره. “وهكذا يمكن القول بأنّ جيل الروّاد كان همّه الأوّل تبليغ مضمون التقدّم الأوروبيّ في خطوطه العامّة، ولاسيما ما يتّصل بالإصلاح السياسيّ والاجتماعيّ. ولذلك كان الهمّ الأوّل منصبّاً على المصطلحات والمفاهيم. وهو ما يمكن أن نطلق عليه “التعريب”. وحتى الكتب، التي تمّ تعريبها في موفّى القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، كانت في التاريخ والفكر الاجتماعيّ، إضافة إلى الحقوق وعلوم الحياة والجغرافيا. ومن خلالها عرف النابهون من المثقّفين العرب أسماء منتسكيو وروسو وأرنست رينان وديمولان عن طريق فتحي زغلول ويعقوب صروف وفرح أنطون ثم عادل زعيتر.”(14)

إنّ ملفّ الترجمة ملفّ واسع ممتدّ. والحديث فيه يطول والمجال عنه يضيق. بقي أنه لابدّ من التأكيد على أنّ الترجمة ليست ترفاً ثقافيّاً. وإنّما هي حتميّة حضاريّة فرضتها شروط الكينونة قديماً وحديثاً؛ ترجم، إذن، تكن.

مراجع:
  1. ميخائيل نعيمة: الغربال، دار نوفل، بيروت، ط 15، 1991، ص 126.
  2. أومبيرتو إيكوّ(Umberto Eco) : فيلسوف إيطالي، وروائي وباحث في القرون الوسطى، وُلد في5 يناير 1932، ويُعرف بروايته الشهيرة اسم الوردة، ومقالاته العديدة. وهو أحد أهمّ النقّاد الدلاليّين في العالم.
  3. الجاحظ، الحيوان، تحقيق: عبد السلام هارون، ط مصطفى الحلبي وأولاده بمصر، (د.ت) جI، ص 74 وما بعدها.
  4. أبو حيّان التوحيديّ، المقابسات، المقابسة الثالثة والستّون.
  5. د. محمد قوبعة: الترجمة والتفاعل الثقافيّ، ضمن كتاب “الترجمة وتفاعل الثقافات”، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ص 930.
  6. نفسه.
  7. منجي الشملي: “طه حسين في مرآة العصر”: أبحاث مترجمة من الفرنسيّة إلى العربيّة بقلم: منجي الشملي وعمر مقداد الجمني، بيت الحكمة، قرطاج، 2001، ص 16.
  8. يوسف الحناشي: الترجمة من قدسيّة النصّ إلى تأويله، مجلّة الحياة الثقافيّة التونسيّة (وقد اهتمّت وزارة الثقافة التونسيّة بالترجمة. فخصّصت لها العدد قبل الأخير 214، عدد شهر جوان 2010، من مجلّتها الشهريّة:) ص 54.
  9. د. محمد محجوب: الترجمة والمعايير، مجلّة الحياة الثقافيّة التونسيّة، نفسه، ص 08.
  10. والدكتور محمد محجوب هو مدير المركز الوطني للترجمة في تونس.
  11. د. محمد محجوب: الترجمة والمعايير، نفسه. د.محمد محجوب، الترجمة والمعايير، نفسه.
  12. جليلة الطريطر: حنين بن إسحاق: حياته ومدرسته في الترجمة، الحياة الثقافيّة التونسيّة، نفسه، ص 16.
  13. حفناوي عمايريّة: بداية الترجمة في العصر الحديث بالبلاد العربيّة، مجلّة الحياة الثقافيّة التونسيّة، نفسه، ص 45.
  14. حفناوي عمايريّة: بداية الترجمة في العصر الحديث بالبلاد العربيّة، مجلّة الحياة الثقافيّة التونسيّة، نفسه، ص 47.
قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.