نصر سامي: سيّدات القمر، لجوخة الحارثي رواية الإيهام بالتاريخ، والاندراج في الاستشراق

0 1٬018

نصر سامي – تونس

تصدير:

حين رأت ميا عليّ بن خلف، كان قد أمضى سنوات في لندن للدراسة وعاد بلا شهادة، لكنّ رؤيته صعقتْ ميا في الحال. كان طويلًا لدرجة أنّه لامس سحابة عجلى مرقتْ في السماء، ونحيلًا لدرجة أنّ ميا أرادت أن تسنده من الريح التي حملت السحابة بعيدًا.  كان نبيلًا، كان قدّيسًا، لم يكن من هؤلاء البشر العاديّين الذين يتعرّقون وينامون ويشتمون. “أحلف لك يا ربّي أنّي لا أريد غير رؤيته مرّة أخرى”

جوخة الحارثي

انتفضت هذه الرواية فجأة مثلما انتفض طائر الفينيق قديمًا. لا يدري أحد كيف. من قبلها طلع على العالم العربي كاتب مجهول، اسمه محمّد شكري برواية صدرت بالإنجليزية أوّلا ثم بالفرنسية، لتصبح ظاهرة في الأدب العربي، وهي الخبز الحافي. أرجع وقتها النقّاد السبب لشهرة مترجمها إلى الإنجليزية قبل عشر سنوات من صدورها بالعربية المحكية التي رويت بها. وهو بول بولز، وردّ آخرون شهرتها لمترجمها الثاني إلى الفرنسية الطاهر بن جلّون. ثمّ صدرت الرواية بالعربية بطريقة بقيت غامضة إلى حدّ الآن، لأنّ الأصل الذّي ترجمه بول بولز كان عن أصل محكي باللهجة المغربية وليس بالعربية. وما حصل للرواية يعرفه الجميع بعد ذلك. سيّدات القمر أيضا رواية بقيت عشر سنوات دون أن تحظى بالاهتمام، وفجأة التقطتها يد مترجمة خبيرة، هي مارلين بوت، فأحدثت بها انعطافة حقيقيّة في حياة كاتبتها وفي الأدب العماني وفي الأدب العربي المنقول إلى الإنجليزية. يثير كلّ ذلك أسئلة عن حياة الكتب، وعن طبيعة القراءة.

تبدو جوخة الحارثي في نظر نقّادها منذ روايتها السابقة نارنجة كاتبة قصيرة النفس، تعتمد التشظّي، ولا تهتمّ في الغالب بأبطالها الكثيرين، إذ تتركهم دون ملامح إلاّ ما يتأتّى من حديثهم، وهي تثقل سردها بمتون نصية كثيرة تنهض بحاجات الذّات الكاتبة ولا تحقّق للذّات القارئة أيّ فائدة، وهي تسهب في غير مواطن الإسهاب، وتوجز في غير مواطن الإسهاب، وتغرق السرد في واقعية ثقيلة، وتهتمّ بجعل سردها منتهكا! آراء كثيرة، لكنّها في الغالب صادرة عن قرّاء النصّ العربي للرواية.

وحين فازت سيدات القمر بجائزة البوكر الجائزة الأهم عالميا للروايات المترجمة، وهي مختلفة عن جائزة البوكر الأكثر شهرة والتي تمنح للروايات المنشورة أصلًا باللغة الإنجليزية بدأت تتغيّر لهجة التناول النقدي. وظهر رياء نقديّ عمّ الجرائد والدوريات العربية مفاده أنّ “سيّدات القمر” ظلمت من النّقد العربي، ومن الجوائز العربية، وأنّ الرّواية تستحقّ أن تقرأ من جديد.

من الواضح أنّ جوخة الحارثي قد أعادت إنتاج الرؤية الاستشراقية المسيطرة على الذّهن الغربي بخصوص الثقافة العربية، إذ استعادت الرواية جميع المتخيّل الغربي عن مراكز تجارة الرقيق وعن المجتمعات الخليجية قبيل إنتاج النّفط، مع ما ارتبط بتلك الصورة النمطية من عادات وتقاليد وتمثّلات تتعلّق بالعرق واللغة والعلاقات البشرية القائمة على التراتبية. هذا المتخيّل المستعاد الذّي كتب بطريقة أدبية فيها الكثير من التقطّع قالت عنه رئيسة لجنة تحكيم البوكر بيتاني هيوز: “إنه يستحوذ على العقول والقلوب على حد سواء”. وعكست جوخة الحارثي في عملها مجتمعًا غنيّا بالخيال، تطرّقت فيه إلى مسائل تتعلّق بالزمن والموت العميق. والرواية رواية معقّدة، شديدة الاختلاف، تهتمّ بزمن طويل نسبيّا، ثلاثة أجيال، تتابع فيها بتأنّ أسرة عمانية من بداية القرن التاسع عشر إلى اليوم. في سرد يوهم بأنّه مخترق بالتّاريخ والجغرافيا، على الحقيقة، هذا الإيهام السّردي رفع الرواية من مجرّد لعبة سردية فنّية إلى شهادة عن تاريخ حقيقي لمكان لا يزال مجهولًا عند القارئ العربي في ضفّته العمانية؛ ورفعت الغطاء عن قدر كان ولا يزال محاطًا بالإخفاء والسرّية؛ وكشفت لأوّل مرّة في السّرد العماني القيعان المبعدة عن التداول، المخبّأة، والمستورة للمجتمع العماني، فنقلت دون تهيّب بنى طبقية كان يظنّ أنّها انهارت، وعلاقات كان يعتقد أنّها تغيّرت وأصبحت من التاريخ. في الرواية، يكشف المجتمع عن تحوّل بطئ لا يكاد يرى، تتنازع فيه قوّتان: قوّة الحداثة التّي تفتقد لجميع مقوّماتها، وقوّة الماضي الثّابتة المحتمية بإرث أخلاقي متعاظم يعيد باستمرار إنتاج نماذجه الثبوتية السكونية ذاتها. الإيهام بالتاريخ الحقيقيّ نقل الرواية من مجرّد أثر فنّي إلى نصّ شاهد على بنى اجتماعية قديمة لا تزال تشتغل وتؤثّر. ولقد أثّر هذا على بنية الرواية نفسها فبدت دفقًا من الصور والمشاهد والحالات النمطية المتكرّرة المنسوجة بتوليف مدروس وناجح ليكون دليلًا على لغة وثقافة محلية غير معروفة في الغرب. يرى جين هوشم أنّ هذه اللمحات التي تقدمها جوخة عن مجتمعها بديعة، وتؤكّد جوخة ذلك بدمج روايتها ضمن الخطابات التّي تقدّم للقرّاء الأجانب “لينظروا إلى بلدها بعقول وقلوب مفتوحة”، هذه النظرة الإلحاقية للرواية بالنّصوص التّي تتنزّل في أفق الحوار تدفع بقوّة نحو ما قلناه من أنّ في الرواية طاقة إقناعية وخطابًا حضاريًا ورؤية توثيقية هدفها الأوّل إنسانيّ يرتبط بأغلب المجتمعات العربية ونظيرتها الغربية، وهو أنّه “لا يزال أمام الإنسانية الكثير لتفعله”، وأنّ هناك حجبًا يجب أن ترفع، وعقبات يجب أن تزول.

وتتنزّل رواية جوخة الحارثي ضمن الطفرة السردية العربية التي تسبّبت فيها الجوائز العربية، وهي وإن لم تفز بإحداها، بسبب جودة الروايات المجايلة لها، فإنّها حظيت بعد ترجمتها باهتمام نقدي غربيّ برّر فوزها بمبرّرات متعدّدة، لا تخرج في رأينا عن عرض الرواية القويّ لمجمل البنى الثقافية للمجتمع العماني من خلال قرية متخيّلة، في القرنين 18 و19، وهي رؤية تتجاوز نسبيا المرحلة الأولى من الخطاب الاستشراقي المتّسم بالرومانسية، لترتكز على الجانب الثقافي واللغوي وهو ذات التمشي الذّي اعتمدته الرؤى الاستشراقية ما بعد الاستعمارية. ولقد انبنى هذا التصور على مفاهيم سلبية وتفاسير مضرة وقديمة للناس في الشرق ولمجتمعاتهم. وفي حين تتغيّر عمان، فإنّ أبطال رواية جوخة الحارثي لا يزالون مشدودين إلى واقع لا يكاد يتغيّر. هناك في الرواية “شخصيات على حافة التغيير”، هناك أيضا تراثًا غزيرًا ومتنوّعًا وقع تصريفه بعناية خلال الرواية ليشكّل خصوصية سردية فارقة، وهناك أيضا وعي بأنّ ما يصنع الرّواية ليس الحبكات السردية القويّة فقط كما تعودناها في النماذج الغربية المستقرّة، بل حركة المجتمعات نفسها وهي تتقدّم في الطريق. وتحسن جوخة متابعة التفاصيل، وتستمتع بسماع أبطالها وهم يتكلّمون عن حياتهم، ولا تضيق بعلاقاتهم الكثيرة، ولا تتّخذ منهم موقفا، بل تعرضهم للنّاظر كما هم. وتؤكّد مارلين بوت المترجمة هذا الرأي، حين تعترف أنّ الكاتبة تستخدم التعبيرات المحلية والشعر العربي الكلاسيكي استخداما مكثّفا، وأنّها تستدعي المخيّلة، وترى أنّ هذا يشكّل في الترجمة تحدّيا “يوسّع حدود ما يمكننا قوله والتفكير فيه”.

تتعاقب أحداث الرواية في فصول قصيرة يتبادل فيها المواقع ضميرًا الغائب والمتكلم، ممّا يسمح بسرد عليم لتحوّلات الماضي والحاضر ورواية مآسي بشر لا ينقصهم شيء ومآسي آخرين ينقصهم كلّ شيء. وتنقل جوخة بنوع من الاستعراض الحياة الواقعية مع ما يخالطها من سحر وخرافات وطقوس وعادات وتقاليد من خلال شخصيات راغبة في التغيير لكن الماضي ببنياته التّي لم تتفكّك بعد يطؤها بثقل لا مرئي. ويعرض السّارد في مساحات واسعة النّاس في قرية العوافي في مئة عام تقريبًا، يأتي فيها الواقعي والاجتماعي في سياقات تاريخية تأطيرية، خصوصًا ما يتعلّق منها بالاحتلال البريطاني وتجارة الرقيق والسلاح وحركة التحديث في المرافق والمباني. وهنا تحشر الكاتبة عائلتين كثيرتي الأفراد لتستقرئ الملامح التّي تأبى التغّير والتّي تبدو ضاغطة بقوّة آسرة على مصائر الشخصيات وعلى رؤيتها للوجود. وتتعدّد النماذج النسائية، ويتفرّغ السارد لنقل رؤى نموذجية نمطية “ستيريو تيب”، لحيواتها انطلاقًا من الحاضر وعودة إلى تاريخها القريب والبعيد. والرواية تهتمّ بإثبات أطروحتها أكثر من إصغائها للشخوص نفسها، وكلّ شيء فيها موظّف لانسحاق الذّوات أمام واقع لا قبل لهم به يقبع في دواخلهم مثل جراح غائرة.

وتستعمل جوخة سجلات قول كثيرة متبايبة ترسّخ وطأة التقاليد لتشكّل اللغة نفسها تمثيلًا جيّدًا للبنى المتحكمة في العقل العماني المسكون بالماضي شعرا قديمًا وأمثالًا في نوع من التواشج بين الفصحى واللهجة. ولقد نهض هذا التنوع بتمثيل جيّد للفسيسفاء الثقافية وكشف لنا مختلف تصوراتها بلسان سكّانها. ولقد عرضت الروائية في سيدات القمر قضية المتاجرة بالعبيد والاغتصاب والحرية الجنسية السرية والمعلنة والسحر والزار والجنّ والمكائد النسائية والأعشاب السامة والعلاقات الحرّة والشعوذة والزواج من الأجانب والطلاق والعذاب والهجران وغيرها من العلاقات التّي تكشف في جوهرها بنية مجتمعية بطريركية طبقية مسيطرة تورث بين الآباء والأبناء كما تورّث الأموال. ولقد استطاعت جوخة في روايتها أن تحشد كلّ هذه القضايا في سرد متسارع كثير القطع والانتقالات مخطط له بعناية ليكشف البنى المتحكّمة في الفعل الجاثمة بقوة على الذّهن، لذلك تبدو أصوات الشخصيات عندها متشابهة متكرّرة كأنّها مصنوعة من طين واحد. تقول إحدى الشخصيات في الكتاب: “الصوت الذّي خـرج منّي. لم يكن صوتي. كان صوت أبي”. تكفي قضية واحدة من هذه القضايا المحشورة في الكتاب لتكون رواية، ولكن للسّارد أولويات الاندراج اللاواعي في الرؤية الاستشراقية مثل: خلال عرض الفئات لا الذوات، ومن خلال التمثيل لا الحصر، ومن خلال الشهادة لا الفعل السردي الموجب للمغامرة. هذا العرض تمّ بأسلوب روائي صوّر مجتمعًا مشدودًا إلى ماضيه شدّا، ما تزال بنى المعرفة لديه قديمة، وما يزال يعيد ممارسات اجتماعية كان يظن أنّها اندحرت أمام ما تراه العين في الحاضر من حركة الإنسانية نحو المساواة والعدل.

فوز الرواية بالمان البوكر للروايات المترجمة يضع سيّدات القمر ضمن أهمّ الروايات ليس فقط في الرواية العربية المترجمة، بل ضمن سياق ترجمة الرواية في العالم، وهذا أمر مهمّ لأنّ سلسلة الترشيحات تتضمّن أسماء مهمّة جدا مثل آني آرنو من فرنسا، وماريون بوشمان من ألمانيا، وأولغا توكاركوك من بولنديا وخوان جابرييل فاسكويز من إسبانيا وعلياء ترابوكو من إسبانيا وإيطاليا. وهو فوز مستحقّ في غياب سياسات عربية موحّدة للترجمة، وفي سياقات عالمية تعادي ما هو عربي إسلامي، كما أنّ هذا الفوز سيكون له أثر مهمّ لدفع القارئ عالميًا وعربيًا لاكتشاف غابة السرد العمانية التّي لا يجب أن تحجبها شجرة اسمها جوخة الحارثي.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.