تماثيل ونصب تذكارية عبر المدن الجزائرية تفتقد لأدنى مقاييس الجمال والإبداع

0 449

ادريس بوسكين – الجزائر

عرفت بعض المدن الجزائرية في السنوات الأخيرة إقامة تماثيل ونصب تذكارية مخلدة في أغلبها لشخصيات تاريخية وثقافية، غير أنها تفتقد في مجملها لأدنى مقاييس الجمال والإبداع؛ ما جعل العديد من النحاتين المحليين وأساتذة الفنون يطالبون السلطات الثقافية بالتدخل لإعادة الاعتبار لهذا الفن، ووضع حد لانتشار مثل هكذا أعمال رديئة صارت تشوه المنظر العام، وتعطي صورة سيئة عن الفن الجزائري.

ولعل من أبرز المنحوتات التي أثارت ردود فعل ساخرة، تمثال برونزي للقائد العسكري الأمازيغي “ماسينيسا”، كان قد نصب في 2019 بالجزائر العاصمة، حيث جاء مشوهًا من حيث حجمه وشكله، وأيضًا هيئته الرومانية البحتة التي أعطت الانطباع بأنه جندي من روما، وليس شخصية تاريخية مستقلة من شمال إفريقيا.

وفي نفس العام، أيضًا، أقيمت كذلك أربعة تماثيل نصفية برونزية بالعاصمة تخلد بعض مشاهير المسرح الجزائريين كعائشة عجوري (كلثوم)، وعز الدين مجوبي، وعبد القادر علولة، وقد جاءت بدورها مشوهة إلى درجة أنها لم تشبه بتاتًا الشخصيات الحقيقية.

غير أن الأكثر إثارة للسخرية كان تمثال أسد إسمنتي غريب الشكل، ومثير للضحك، تم نصبه بداية هذا العام بإحدى الولايات الشرقية؛ ما أثار العديد من ردود الفعل المنددة به، وبهذا المستوى الوضيع من الفن الآخذ بالانتشار دون أي رقيب.

ويبدي النحات المحترف الطاهر هدهود تأسفه للمستوى “المتدني” للعديد من المنحوتات المنتشرة عبر المدن الجزائرية، معتبرًا أنها غير مدروسة، وأن المشرفين عليها مقاولون، لا ذائقة فنية ولا جمالية لهم، داعيًا إلى اعتماد مناقصات علنية مفتوحة تضم دفاتر شروط لفائدة النحاتين الراغبين في المشاركة بأعمالهم، وكذا تأسيس لجان تضم مستشارين فنيين لاختيار أحسن الأعمال. وفي سبيل الرفع بمستوى هذا الفن، يشدد هذا النحات على ضرورة إقامة سمبوزيوم دولي بالجزائر على شاكلة ما ينظم في عدد من البلدان العربية والأجنبية أين له “أهمية كبيرة” على عكس الجزائر أين يعتبر “مجرد ديكور” رغم تاريخه العريق. ويرى هدهود أن مثل هكذا تظاهرة ستكون فضاء للتلاقي، وتبادل الخبرات، كونها ستجمع نحاتين دوليين محترفين سيعملون على إنجاز منحوتات من الرخام حول فكرة ثقافية أو تاريخية معينة يقترحها المنظمون، وستعود كلها لفائدة الجزائر؛ مؤكدًا أن النحت اليوم لم يعد حبيس التصور التقليدي الذي يجسد الأشكال الخارجية للأشخاص، وإنما صار بنظرة مستقبلية من خلال اعتماده على مبدأ التجريد والفكرة.

ويضيف في هذا السياق أن المنحوتات التجريدية لهذا السمبوزيوم يمكن استعمالها في الفضاءات العمومية بغرض التزيين، ورفع الذائقة الجمالية، بالإضافة إلى دورها التربوي والتثقيفي، وكذا أهميتها في الدفاع عن الهوية وحفظ الذاكرة. ويلفت هذا الفنان إلى أن للتجريد والرمزية “طابع جمالي أكثر”، خصوصًا وأنه يتماشى مع الفن المعاصر، ويتناسق مع مختلف الفضاءات العمومية، ويساير القناعات الدينية والقيم المحلية، حيث أنه يعبر عن مجتمعه ويساعد في تجاوز الحاجز الديني.

ومن أجل ترقية النحت في الجزائر، يدعو أيضًا هدهود السلطات للمبادرة باحتضان المؤتمر التأسيسي لاتحاد النحاتين العرب الذي “اتفق مجموعة من هؤلاء على إقامته بعد رفع حظر الطيران بسبب جائحة كورونا”، معتبرًا تنظيمه في الجزائر “إضافة كبيرة” لفن النحت المحلي. كما يدعو لإقامة مسابك فنية خاصة بقولبة وتشكيل البرونز؛ إذ يقول أن مسبكة الجيش بالبليدة (جنوب العاصمة) هي الوحيدة في البلاد وهي “غير فنية” (غير متخصصة)، ضاربًا المثل بعدد من البلدان العربية التي تمتلك مثل هكذا مسابك فنية كمصر.

ويعتبر هدهود من أبرز النحاتين الجزائريين، حيث بدأ نشاطه في مجال التشكيل والنحت في بداية التسعينيات، ويعرف حاليًا بأعماله التجريدية المنجزة من الرخام والريزين والبرونز والخشب والمعروضة في حوالي عشرين بلدًا حول العالم كتركيا والسعودية وكمبوديا وتونس.

ويرى، من جهته، التشكيلي وأستاذ التعليم المتخصص بالمدرسة الجهوية للفنون الجميلة بتيبازة (غرب الجزائر العاصمة) وأستاذ مادة التشريح الفني بالمدرسة العليا للفنون الجميلة بالعاصمة، سليم ركح أن انتشار الأعمال النحتية “الرديئة” أثر سلبًا على المحيط العام، والتهيئة الجمالية الخارجية، وكذا صورة الفن والفنانين الجزائريين في الخارج؛ مرجعًا أسباب هذا “التدهور” ليس فقط على الفنان وإنما على الإدارة بدرجة أكبر. ويعتبر ركح أن الجماعات المحلية تتعامل عادة مع مشاريع النحت كأي مشروع تهيئة آخر، حيث تمنحها لمقاولين ليس لهم أي حس فني أو جمالي، مضيفًا أنها لا تعتمد أيضًا على أي مستشارين فنيين من ذوي الخبرة. ويضرب هذا الفنان المثل بتمثال المرأة، بعين الفوارة بسطيف (شرق الجزائر)، الذي رمم بطريقة “كارثية” كما يقول؛ مشددًا على أن اللوم الأكبر لا يقع على الفنان الذي بذل مجهودًا وإنما الإدارة التي قبلت بهذا الترميم. وكان هذا التمثال الرخامي الذي أنجزه نحات فرنسي عام 1898 قد تعرض في 2017 لمحاولة تخريب قبل أن “يعاد ترميمه” من طرف نحات محلي غير أن العديد من النحاتين قد أعابوا كثيرا على ذاك الترميم.

ويندد ركح، في سياق كلامه، بما سماه أيضًا السياسة التي تعتمدها الكثير من الإدارات في استيراد منحوتات من الخارج بأثمان باهظة لا علاقة لها بالهوية ولا بالثقافة الجزائرية، بالرغم من توفر الكثير من الفنانين المحليين المحترفين.

على غرار هدهود، يدعو أيضًا ركح إلى إقامة سمبوزيوم دولي للرفع من مستوى النحت في الجزائر؛ نظرًا لكونه فضاء للتواصل وتبادل الخبرات، بالإضافة إلى إمكانية الاستفادة من أعمال النحاتين الدوليين المشاركين فيه. ويختم بالقول أن النحت لا يزال يلقى عزوفًا في المجتمع خصوصًا أنه “بلا سوق” و”بلا جامعين مهتمين”، و”غائب” أيضًا عن الفضاء العمومي من ساحات وحدائق ومؤسسات وغيرها؛ لافتًا، في هذا السياق، إلى أن الجانب الديني “لا يزال يلعب دوره في غياب ثقافة اقتناء وجمع المنحوتات”.

وتحوز الجزائر العديد من المواهب النحتية الشابة، وخصوصًا في الفن المعاصر بما فيه فن الاسترجاع، غير أنها لا تلقى الرعاية من السلطات فنادرة جدًا المعارض المخصصة للنحت في المتاحف والأروقة، عمومية كانت أو خاصة، على عكس تلك المخصصة للوحات التشكيلية، وكأن النحت فن معزول عن بقية الفنون. وعدا صعوبة عرض أعمالهم هذه في الفضاءات العمومية، إن لم نقل استحالتها تقريبًا، فإن النصوص القانونية تمنع أيضًا على هؤلاء النحاتين عرضها في الخارج أو تصديرها أو حتى بيعها لمشترين أجانب كما يؤكده العديد منهم.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.