حرق كل النهايات. قراءة في تجربة عمار عبدالخالق الشعرية
رياض العلي – العراق
يقول ناظم حكمت” إذا كان العسل طيبًا، فالنحل من بغداد”، وإذا كان الشعر عراقيًا فهذا يعني أنه شعر جيد ودائمًا ما أقول أن الشعر بدء في العراق وسينتهي به حتمًا؛ لذا ليس غريبا أن يظهر كل يوم شاعر جديد، وتكون بدايته ليست اعتيادية فالشاعر العراقي يولد كبيرًا.
أداة أي شاعر هي اللغة، ولكل شاعر معجمه اللغوي الذي يستل منه مفرداته، ومن الشعراء من يبتكر له معجمًا خاصًا به ينحت من خلاله لغته الخاصة، وينفرد بذلك ويتميز به. هذا يأتي من الموهبة أولًا، وسعة الاطلاع، وعمق تجربة الشاعر الذاتية، ومنهم من يكون معجمه فقيرًا، وهذا ناتج عن القراءة الضعيفة وضعف في الموهبة.
يقول بيير روفيردي: دع الكلمات تتكلّم وتقول ما تريد قوله متناسياً ما كانت تحمله من المعاني في الآداب السابقة. دعها تعمل وتؤثر مستقّلةً، تتزواج فيما بينها أو تتنافر مؤلفة صورًا وكاشفةً عن واقعٍ لم يقُلْه أحدٌ بالضرورة.
والشاعر عمار عبد الخالق في نصوصه التي اطلعت عليها، والمنشورة في صحف ومواقع مختلفة، يقدم للقارئ وجبة دسمة من التلاعب اللغوي نادر الحدوث في المشهد الشعري العراقي؛ ففي السابق، أصدر الشاعر “حسب الشيخ جعفر” ديوانه الصعب جدًا (كران البون)، وقد أثار دهشة الكثير ممن قرأه بسبب اللغة الغريبة والأسلوب المعقد والغامض، وأعتقد أن ديوان “حسب” كان ثورة ضد التقليد الشعري، وضد السلطة المغرمة بالتقليد، وضد كراسي المقاهي التي تأنّ من ثقل أجساد الشعراء الذين لا يكتبون شيئًا، لكن عمار عبد الخالق في هذه النصوص يختلف عن “حسب”؛ فكل نصوصه مفهومة للقارئ، لكن تحتاج إلى مهلة عقلية للاستيعاب، كأنه يرمي بكل صيده الثمين علينا ويذهب تاركًا إيانا نسهر وراءه دون أن نختصم.
يستخدم الشاعر عمار في نصوصه أسلوب السريالية الشعرية بأبهى صورها، كما لم يستخدمها شاعر عراقي من قبل؛ فهو يوظف كل صوره الشعرية وفقاً لسريالية ممتعة تحتاج الى قارئ يترك كل شيء ويتفرغ للبحث عن جماليات الجملة الشعرية وصورها غير المطروقة من قبل .
ويذكر أن اول من ادخل السريالية الى الشعر العربي الحديث هو الشاعر السوري “أورخان ميسّر” في ديوانه الوحيد (سريال)، في العام 1948، في بداية التحديث في الشعر العربي الذي بدء من العراق، وكتب فيه مقدمة نظرية يعرّف السوريالية بأنها “ما يرسمه العقل الباطن من صور”، ويُفسّر العقلَ الباطن بأنه خزّان كبير يتكوّن من الغرائز المشتركة التي يقذفها إلى دائرة اللاشعور، فيسجلّها الشاعر كما هي ( انظر في هذا مقالة أورخان ميسّر.. شاعر الحياة والسريالية للكاتب فيصل خرتش). وطرح ميسر مفهومًا جديدًا وغريبًا في الشعر السوريالي من خلال تأكيده على أن اللغة في الشعر السوريالي لغة علمية، فيما هي في بقية أنواع الشعر لغة أدبية. في معنى أن لغة العلم لا تسمح بالعواطف، لأنها تدخل في مجال الاكتشاف أكثر مما تدخل في مجال الإبداع. (ينظر في هذا مقالة أورخان ميسّر… رائد السوريالية العربية)
لكن عمار عبد الخالق تجاوز كل ذلك كأنه يكتب في زمن لاحق لزماننا. ونصوص عمار عبد الخالق ليست استهلاكية، وأنا واثق من أن قارئه سيعمد إلى رصف ديوان الشاعر بعد طبعه في مكان قريب في المكتبة؛ لأنه سيعود إليه في أقرب وقت.
نصوص عمار عبد الخالق كأحلام اليقظة التي تنتاب الشاعر حين يفكر في كتابة غير مألوفة؛ تسحر المتلقي وتجعله يعيد قراءة النص بانتظار فهم جديد يختلف عن فهم القراءة الاولى.
لكن هل تنتمي هذه النصوص لما يعرف بشعر اللامعنى؟
نصوص عمار حالة من التمرد اللغوي الذي يصر عليه الشباب في هذه المرحلة المهمة التي يعيشها العالم كنوع من التحول الفكري، والذي جعل من اللغة جسرًا للعبور إلى ضفة المعنى المختلف، فهذه النصوص حرة لا تتقيد بأي قيود، وهذا هو هدف الأدب في عصر بعد مابعد الحداثة؛ فلم تعد اللغة جامدة راكدة، بل على الكاتب أن يبتكر لغته الخاصة به حتى لو ركب صهوة السريالية الغرائبية.
يقول اندريه جيد: (إني أفكر بتناسقات جديدة، نحو كلمات أكثر دقة وصرامة، (……) آه من سيحرر ذهني من سلاسل المنطق الثقيلة؟ إني أحس بروز أكثر انفعالاتي صرامة حالما يتاح لي التعبير عنه)
يربط الشاعر في هذه النصوص بين اشياء لا تربطها أي رابط إلا مخيلة الشاعر، مثلاً نقرأ :
(يستيقظ صوتي)
(شخير المعدة)
(نظام الاندرويد البرمائي)
(مرحاض النوايا الحسنة)
(رئة الخشب)
(رأس السماء)
(فحم المرضعات)
(حقول الحصى)
(خنازير الملح)
(حبر الوريد)
(صرير الفئران)
( وجه الجاذبية)
في النص الذي نشره الشاعر في صحيفة القبس الكويتية، على سبيل المثال، والمعنون (سيرة ذاتية للجهاز الهضمي) يمزج بين الشعور بالجوع والتمثيل على المسرح، لكنه في سبيل ذلك يرسم صور لا واقعية، مثلاً:
(كثيرون يرمون المنقار بوجه عقارب الساعة)
(كل الممثلين ميتون في ثلاجة النص)
لكن كيف يقف النمل بجانب الصوت الذي يستيقظ في كل وجبة طعام؟
انها مخيلة تفوق الحدود…
يرى إيلوار أن القصيدة مجموعة من الهلوسة والجنون والتذكر، والقصص القديمة، والمشاهد المجهولة، والأفكار المتضاربة، والتنبؤات البعيدة، وحشد العواطف، والعري، وتشويش العقل والعبث. إنها باختصار انطلاقٌ الوحي الحرّ من أعماق النفس، وتدفقه بحرية تامة مخترقاً جميع الحواجز .
في المشهد الشعري العراقي، نفتقر إلى نصوص شعرية تنتمي إلى بعد مابعد الحداثة، ونجد عزوفًا واضحًا عن قراءة النصوص التقليدية، سواء المطبوعة منها أو تلك التي تنشر في مواقع التواصل الاجتماعي؛ لذا فإن عمار عبد الخالق فهم اللعبة جيدًا، واختار أن يمضي في لعبة التناقضات والتمرد اللغوي، ليس في مجال المتن، بل حتى في عناوين النصوص ، مثلاً نقرأ هذه العناوين:
(ميلاد الخلايا العصبية بمقهى البرلمان)
(كرسي بأربع أسنان معطل)
(شاهدة على قبر الهيكل اللاسلكي لثلاجة المعبد)
(دعوة لتنظيف الحكمة في المتحف)
(بيروقراطية يد السوط تتمايل مع الريح)
(سمفونية العناكب تقلب ثنايا الآخر)
الحرفية العالية في اختيار العناوين تمهد لمحتوى غرائبي يتفوق على العنوان الذي يشد القارئ؛ فالعنوان هنا قصيدة بحد ذاته يشبه قصيدة الومضة السريعة التي تقول كل شئ ببضعة كلمات موجزة، فهي ليست كفضلات اللغة بين الكراسي، وأعتقد أن محنة اختيار العنوان لهذه النصوص تحتاج إلى دراسة أخرى مستقلة.
وعمار لا يستورد شئ من خارج الشاعر إلا مايراه هو بعين الرائي، يقول:
(كنت انظر الى الباب الخشبي
أرى حارسًا مراهقًا يدخن نهديها)
أو:
(كان لدي حديث طويل مع الهدهد
في تلك الساعة المخروطية من ذوبان الطغاة)
أو:
(قد لا أكون صريحاً هذه المرة
ولكن أنا شاهد عيان فوق رؤوسهم النووية)
فالعالم الذي يراقبه الشاعر عالم غير واقعي، عالم ينتمي إلى فلسفة “بودريار”؛ فما نراه يخفي وراءه عوالم مغايرة، وحواس الشاعر تلتقط هذه المشاهد بدقة متناهية، فلا صوت في المدينة سوى أصواتهم في باب الخان ولا شيء معنا سوى أذن مطاطية.
عوالم عمار عبد الخالق يشكلها من خلال منعطفات لغوية حادة تحتاج أن نمسك بمقابض المقاعد كي لانقع، فالاعمار الورقية تسقط على القشرة الأرضية بدم بارد، وكذلك فعل الشاعر بالقارئ الذي يتابع هذا التدفق غير المحسوب والانهيار المتعمد للغة التقليدية المتعارف عليها.
كيف نواجه هذا العالم غير الاعتيادي بنصوص غير اعتيادية؟
هذا العالم اللامعقول …
(جميعهم صيادون ماهرون بالقفز
بين الكاف والنون
من دون ميعاد)
فالخائف يغطي رأس حافة السرير بالأسئلة والأجوبة معًا، فأيامنا انفصلت تمامًا عن أجسادنا.
يواجه الشاعر هذا العالم المخيف بشجاعة، وليس هروبًا فإزالت الدهون من ملعقة الصباح تحتاج لممثل جيد، فهو ليس مجبرًا أن يجلس فوق صدر سلة المهملات، لكنه يخشى من غرغرة التبغ في فم الحرب؛ ففي عمق الزجاجة هناك كلام كثير.
اختيار الشاعر اللغة كهدف في قصائده القصد منه هو النظام الاجتماعي كما تذهب إلى ذلك سارة بيرنار أثناء حديثها عن الدادائية .والتراكيب اللغوية غير المنطقية في هذه القصائد تقف بالضد من النسق الخيطي لظواهر ثقافية يراد منها أن تكون معيارًا وميزانًا لكل ابداع، فهو -أي الشاعر- كمن يقول للجميع هذه لغتكم الجميلة شاهدوا كيف جعلتها طوع مخيلتي، فأنا أسيطر عليها وأتلاعب بها ككرة العجين أشكلها كما أريد لا كما تريد هي، وأصنع مفارقاتي اللغوية ومغامراتي اللفظية فهاتوا مالديكم .فحينما سئل بابلو بيكاسو: لماذا لا ترسم اليد البشرية مثلما رسمها رافاييل؟ فأجاب: لأنني قادر على أن أرسمها تماما كما رسمها رافاييل، فإنني حر في أن أرسمها كما أريد.
أرجو من القارئ الكريم أن لا يبحث في هذه النصوص عن قراءة تقليدية، أو معايير متعارف عليها في الشعر؛ لأن أي قراءة اعتيادية تخنق هذه النصوص، وتجعلها تتقيد بقيود، وهي بعيدة جداً عنها؛ فهذه النصوص قصائد غير تقليدية تحفر في ذائقة القارئ الملولة من تلك النصوص التي تكتب بلا هدف، أو تمر بدون أن ينتبه إليها أحد.
قراءة نصوص عمار عبد الخالق تحتاج الى قارئ غير تقليدي لأنه سيخرج بعد هذه القراءة بفهم مختلف عن اللغة الشعرية وبناء معمارية النص بضربات صادمة لا معقولة ، ومثلما استخدم الشاعر حريته المتناهية فأن القارئ حر ايضاً في ابتكار تأويلاته في فهم الرموز والدلالات التي تملأ النصوص.
واعتقد جازماً ان هذه القصائد حين صدروها في كتاب ستكون بداية لشعر جديد سيعيد للشعر العراقي مكانته في المشهد الشعري العربي.