خوخا في أرض العجائب.. قراءة في رواية: (البنت التي حملت بيتها)

0 984

زهير كريم- العراق-بلجيكا

هل يمكن للخيال التمتع بالمكانة المهيبة، وبالقدر الذي نستطيع فيه الاعتماد عليه لتحقيق أحلامنا الصعبة، بل والمستحيلة كذلك؟  أو العبور بنا من منطقة الجهل بالعالم الذي يحيط بنا، الى بوابة الحكمة، أو المعرفة بحقيقة الأشياء التي تتوافق مع الأسئلة التي تتفاعل في داخلنا؟ هذا ما حصل فعلا للسلحفاة (أم صبحي) فحصلت بمساعدة صديقتها (خوخا)، على جناحين للطيران، بعد مغامرة تقومان بها، تتلامس مع تلك التي قامت بها (أليس لبلاد العجائب) حيث تتحقق الأحلام بآلية هي أقرب الى العادي في أرض العجائب، أو في بلاد الكتابة التي دخلتها خوخا مع سلحفاتها.

 لكننا هنا أمام مغامرة أخرى، شيء يتعلق بالحيْرة التي تواجهنا، وبالتناقضات الغامضة التي تمنع تحقيق الإنجازات الطليعية التي لها علاقة برغباتنا، والتي تواجه دائما موانع من السلطة بكل أشكالها، منها سلطة البيت، أُمّ الراوية، الصارمة المتحكمة بابنتها مثلما تتحكم بشخصيات قصصها. ففي مقطع من هذا العمل الموجه لليافعين، تسأل الراوية (خوخا) سلحفاتها (أم صبحي) عن سبب رغبتها بالتخلص من صدفتها الجميلة، على الرغم من أنها، بيتها الذي يوفر لها الحماية. والسؤال يظهر هنا كما لو أنه يسير للوصول إلى غاية أبعد من الحصول على معلومة، أو إجابة تتعلق بسلحفاة تبدو غريبة الأطوار، تحلم بالمستحيل، بل بتلك الرغبة التي تتفاعل في رأس الراوية نفسها، ثم تأتي الإجابة متوافقة مع ما تريده (خوخا) نفسها، جواب يحمل الكثير من الأسى ونفاد الصبر، ويعبر كذلك عن التناقض الذي يغمر حياتنا، بين الحرية والأمن: تعبتُ من صدَفتي، أريد أن أعيشَ حرّةً وخفيفة، هل جرّبتِ أن تحملي بيتَكِ فوقَ ظهرِكِ أينما ذهبتِ؟

ومفردة البيت تشكل هاجسا – وليس هذيانا لا معنى له- للراوية ( خوخا) باعتباره العبء الذي يجب التخلص من بعض ثقله على الأقل، فهي تحمل في رأسها فكرة عن البيت كونه عائقا أمام حريتها ومنطقة إجهاض دائم لأحلامها، لكنها بهذا الحوار تستلهم كذلك فكرة الصراع بين الحرية التي تتحقق بجناحي السلحفاة (أم صبحي)، وبين الأمان الذي تقدمه الطبيعة للكائنات، والمتمثل بوجود صدفة هي الحامية من الأخطار، وفكرة البيت سوف تتسع دلالياً في نهاية الحكاية، حين تسافر عائلة (خوخا) إلى ألمانيا، فيتحقق جانب من أحلام البنت، ومنها امتلاك قطة وأشياء أخرى كثيرة لم تكن لتحصل عليها لولا هذا الانتقال،  لكن البيت نفسه، أو ذكراه، تصير في مجموعها نسيجاً عاطفياً مليئاً بالشجن، من خيوطه المتشابكة  تتشكل صورة الوطن البعيد الذي خربته الحروب، فالبيوت ليست ذكرى وحسب، إنها جزء من بنيتنا النفسية، وعاء لوعينا، بل هي جزء من هيكلنا العظمي، فنحن ومن خلال هذا الحوار، بل ومن خلال سير الحكاية التي لا أريد الكشف عن تفاصيلها، لن نكتفي  كقرّاء بالملامسة الخارجية لفكرة البيت، بل نعبر الى منطقة الاعتلال، أو الندبة التي تتركها البيوت داخل ذواتنا.

(عمر) صديق (خوخا) يقول بعد موت سلحفاته، بسبب سقوطها وتهشم صدفتها: إنّ الصّدَفة جزءٌ من الهيكل العظميِّ للسّلحفاة، تكبر مع نموِّها وتوجدُ تحتَها شبكةٌ مُعقّدةٌ من الأوعية الدّمويّة والنّهاياتِ العصبيّة.

 وبهذا التصريح الخادش للعاطفة، لن تكون الصَدَفة، البيت، مجرد جزء خارجي منفصل، بل هو مرتبط بأوعيتنا الدموية، الصورة نفسها لا تعود مجرد نقاط يتعلق إدراكها بالبصر، بل هي صورة تحضر في تفاصيل يومياتنا، إنها انقباضنا واسترخاؤنا أمام تجربة وجودنا.

والحكاية في هذه الرواية بسيطة في الظاهر، لكنها تنطوي على أسئلة صعبة، سلسلة من الحلقات المترابطة التي لا يمكننا نحن الكبار، فضلا عن اليافعين تفكيكها، إنها الجزء الثابت في مغامرتنا، أو وجودنا المليء بالغموض. بنت في الثالثة عشر، تخاطبنا _ في الاستهلال_ مباشرة نحن القراء، لتسرد لنا أحداث روايتها التي بدأت بكتابتها في دفتر وردي اللون، فيه قفل تفتحه في نهاية العمل، في إشارة على أن النص الأدبي يظل غائبا، منفياً وناقصاً، قبل أن يكتمل في وصوله إلى القراء شركاء الكاتب.

وتظهر لنا أن محرضات الكتابة لدى ( خوخا)  كانت أولا بسبب كسر جهازها( الآيباد) تسليتها الوحيدة في عطلتها الصيفية بعد سنة دراسية متعبة، ترفض الأم إصلاح الجهاز فتجد (خوخا) نفسها، أمام هذه الصرامة التي تصدر عن سلطة البيت، في مناطق تجريب مفروضة، تسليات أخرى لم تكن لتهتم بها، لكنها ترضخ لممارستها من أجل استيفاء شروط الحصول على جهازها ثانية، تنجح في بعض التجارب، تتصالح معها باعتبارها غير سيئة، بل مفيدة ومسلية، وتغادر أخرى ، لكنها لا تمنع نفسها من التصريح بأنها وجدت هذه التجارب المفروضة اصلا، معرفة وانفتاح على  الأشياء التي لم تكن تعرف أسرارها،  تجارب فتحت لها نوافذ لكي تطل على عالم كان قد غيّبهُ الانشغال بالآيباد. المحرّض الثاني (لخوخا) على كتابة رواية، هو للتعبير عن نفاد صبرها بسبب قائمة التعليمات التي تضعها الأم، والتي تبدو متسلطة -كاتبة القصص- واضعة المحددات المزعجة للبنت، والتي تشعر أنها ليست حرة في البيت، لا في نوع الطعام الذي تتناوله، ولا في أوقات النوم التي تفضلها، لا في أوقات استحمامها، ولا حتى في طلباتها  الأخرى التي تعتقد أنها مقبولة وطبيعية، ولا تجد سبباً منطقياً لرفضها، لهذا تحاول بواسطة الكتابة عرض مظلوميتها واعتراضها على بناء الحواجز أمام وجودها المنتهك، لكنها وفي الوقت نفسه تعرض رغبتها بالحصول على مساحة أكبر من الحرية، بل تعرض أيضا أحلامها الكثيرة، منها امتلاك قطة مثلا، والتي تحولت بعد ضغط منها  الى سلحفاة، تستقبلها في مشهد محبط،  لكن العلاقة بينهما تتحول فيما بعد الى رحلة خيالية هي جزء من هذه الرواية، إذ تدخل الراوية، مغامرة مع السلحفاة  هي أقرب إلى مغامرات أليس في بلاد العجائب،  وتدخل كذلك في  كتاب أمها، والذي تشتغل عليه، اثناء كتابة (خوخا) لروايتها، فيحصل هذا التداخل، بين نصين، رواية الأم التي استلهمت فيها سلحفاة ابنتها، بل ومغامرات ابنتها الخيالية، وبين رواية خوخا نفسها، والتي استلهمت رواية الأم، بالإضافة لعرض أحلامها.

ورواية -البنت التي حملت بيتها- بالإضافة لانطوائها على عنصر التشويق الذي تقدمه للقارئ، تجعله كذلك أمام العديد من الأفكار الشائكة، الحرية والخيال، والكتابة، لكن موضوعها الأهم، هو البيت، ظهْر السلحفاة، او رأس الراوية،  هذه الاستعارة العاطفية، التي تسحب القارئ لمنطقة لا تخلو من الحزن في بعض  المقتطفات، عن البيت الذي هدمته الحرب، البيت  الذي ابتعد كثيرا بعد الهجرة، البيت الذي هو مأوى احلامنا وذاكرتنا، البيت الوطن، ظهْر السلحفاة الذي بدونه سوف تموت كما أخبرنا (عمر) صديق (خوخا)، لأنه مرتبط بهيكلنا العظمي، بأوعيتنا الدموية، بل بوجودنا.

 رواية بدأت كما لو أنها تزحف ثم تمشي على قدمين، واقعية على شكل يوميات عادية، لكنها وبواسطة الخيال، يظهر لها جناحان فتطير في مساحة من الفانتازيا، والتي منحت النص تلك الحيوية والانفتاح على دلالة البيت.

*الرواية للكاتبة السورية روعة سنبل، وقد صدرت مؤخراً عن (ظمأ للطباعة والنشر والتوزيع- سوريا)

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.