حزنٌ برائحةٍ واخزة

0 677

روعة سنبل – سوريا 

   منذ سنوات، تُجتَثّ أجنحةُ بعض أمنياتها بقسوة، وتُوأد كثيرٌ من ملامح روحها بعنف، بين الحين والآخر، تُحتضر الأمنيات والملامح، ثمّ تتبخّر كلّها.

   هذه المرّة، تبخّرتْ ثمّ شكّلتْ سحابةً صغيرة، رماديّة من حزن، ظلّت تطوف جوفها أيّاماً، انشطرت سحاباتٍ صغيرةً مؤلمة، غلّفت قلبها ومعدتها ورأسها.

   جرّبت لأيّامٍ الحلول التي تعرفها للحزن: فقرأت سوراً من القرآن، وصلّت ليشرح الله صدرها.

 شربت مغليّ أعشاب مهدّئة، وتجرّعت بعضاً من حبوب مسكّنة، وأخرى مضادّة للاكتئاب.

ثرثرتْ في الصّباحات مع جاراتها، وبعد الظّهر أغرقتْ نفسها في أعمال المنزل، فأعادت طيّ الثّياب في الخزائن المرتّبة، وغسلتْ زجاج النّوافذ النّظيف أصلاً، ومسحتِ السّجاد والأرائك.

أعدّتْ وجبات طعام صعبة التّحضير، تتطلّب مهارة، وتستهلك وقتاً.

تعبتْ، لهثتْ، تعرّقتْ، آلمتْها قدماها، احتجّتْ ركبتاها، ولولَ ظهرها!

لم تزدد سحابتها إلّا كثافة وسواداً وثقلاً، حبلى بحزن يركلها، دون أن تتمخّض ولو دمعة واحدة فترتاح، اكفهرّت سماؤها، وغرق كونها في الظّلمة.

    لجأت للحلّ الأخير، على طاولة خشبيّة في مطبخها جلسنَ معاً، هي، الكسيرة المقهورة، وهنّ، على اختلاف أحجامهنّ، مكوّرات، محتجبات.

 فكّرتْ: كم يشبهن بعضهنّ بعضاً، ويشبهنها!

أعدّتْ ركوة قهوة كبيرة، ارتشفتها بمفردها بهدوء، بينما رحنَ يرقبْنها بفضول.

   بهدوءٍ مجرم، ولذّةٍ مريضة، حزّت بسكّينها الحادّة ثيابهنّ، قرأت الرّفض في عيونهنّ المستكينة فازدادت متعتها، عرّتهن باستمتاع: الطّبقة الأولى، فالثّانية.

تجرّعت مرارة قهوتها بسعادة، وبتشفٍّ راحت ترقب انعكاس ابتسامتها على سكّينها، تتأمّل بنشوة استغرابهنَ، ذعرهنّ، ضعفهنّ، استسلامهنّ، والبياض الشّاحب لعريهنّ.

   بسكّينها الحادّة نفسها، أخذتْ تخِزُهنّ، تستمتع بمراقبة خدوش سطحيّة مرّة وعميقة مرّة، تخطّها هي عليهنّ، أشفقت لحالهنّ، مسكينات، أنّى لجروحهنّ الالتئام، محرومات هنّ من دفق النّزف، ومن لذّة نكء الجرح نفسه مرّة بعد مرّة، في غمرة شرودها خدشها النّصل، راقبت الدّم النّازف من جرح صغير في طرف إصبعها، عصرتْه ففرّت القطرات حمراء، خضّبتْ بها أجسادهنّ، شابتهنّ حمرةٌ خفيفة، فصارت جروحهنّ أكثر واقعية، فابتسمتْ برضى.

بسكّينها الحادّة نفسها، بتأنّ شديد وإتقان ملفت، أفرغتْ شيئاً من غضبها المكبوت، وحزنها المكتوم، بأجسادهنّ المذعورة الملتفّة البضّة.

   تبعثرت حبّاتُ البصل على لوح الفرم أمامها مكعّباتٍ وأجنحة، انبعثتْ منهنّ رائحة قهر واخز، تحرّض على البكاء، لفّتها الرّائحة، سكنتْ أنفها، حاصرتها، وحين أدركتْ أنّ اللحظة الذّروة اقتربتْ، وآن الهطول، أسندتْ ظهرها إلى الكرسيّ، واستسلمتْ.

 هطلٌ هادئ، ثمّ غزير، تبعثرت بعده سحابتها شيئاً فشيئاً، ثمّ تبدّدت.

بكت حتّى تورّمت عيناها، مستعينةً بين الوقت والآخر بعلبة مناديل ورقيّة.

    أحضرتْ أكياس مؤونة، شفّافة صغيرة، وضعتْ في كلّ منها حفنة ممّا اقترفت يداها، ثمّ أودعت كلّ كيس في آخر أكبر، أحنت رؤوس الأكياس، ثمّ شنقت أعناقها بإحكام، كي لا تفضح الرّائحة المنبعثة جريمتها.

ألقت أكياس أشلائهنّ في عمق الثّلاجة، وأغلقت الباب.

اختارت تحضير وجبة تتطلّب وجودهنّ، بدا لها طبق “مسخّن الدجاج” مع “شوربة العدس”، خيارين ملائمين.

   انقضت نوبة الكآبة مع انتهائها من إعداد الغداء، كل ّما يلزمها الآن حمام ساخن جدّاً بصابون معطّر لتتخلّص تماماً من رائحة الحزن!

 على الغداء، قال طفلها:

-“ماما! الطّعام طيّب اليوم”

بحثتْ عن نظرة استحسان في وجه زوجها المتجهّم دوماً، هرب بعينيه إلى الورقة المثبّتة بمغناطيس على باب الثّلاجة، قرأ لوازم المنزل، التقتْ عيناها المستكينتان بعينيه اللّتين تقدحان شرراَ، ارتعدتْ حين نهَرَها صارخاً باستنكار:

-“بصل! ما قصّتكِ أنتِ؟

منذ يومين أحضرتُ بصلاً، معقولٌ أنّك استخدمته كلّه!”

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.