شفيق العبادي – السعودية-سماورد
1
طالعك السراب وطريقك الرحيل
قالت العرافة وهي تتلمس طريقا للعودة بين تعرجات
كفها المنصوبة كمتاهة
لم تكن الأولى ولا الأخيرة من غرقـت في رمال صحرائها الشاسعة
لا نعلم عنها إلا أنها كانت هنا منذ أول خطوة طبعتها القبائل على أحضان هذه الفسحة من الأرض
كانت ناياتهم في لحظات الحزن
ورباباتهم في هذيان السعادة
ونخبهم في حلقات السمر
كانت بوصلاتهم لطوالع النجوم
وذاكرتهم لما كان وما سيكون وما هو كائن
كانت المرايا والذاكرة والبوصلة
قيل أنها ابنة الخطيئة الأولى
وقيل أنها سقط لإحدى القبائل الرحل
وقيل أنها حورية بحر عمدتها الشواطئ لحماية مراكبها من اليم
قيل في ذلك الكثير
وسقط سهوا أنها هي التي تختار مريديها
هي التي تنتخبهم من طوالع الشهور
وتصفيهم عن شوائب التراب
وترقيهم ببخور الأزقة وزعفران التشرد وأخلاط العزلة
وتهيؤهم لحلقات الكشف وصومعات العشق
وتمطرهم بسحب الرؤيا
ثم تأمرهم بالسير في دروب الغواية.
2
لم تكن مجرد شامة تضيء على وجه صبية (كما يحلو لي وصفها). اسمها (تاروت) ولهذا الإسم رواية أخرى. هذه الجزيرة التي استعارت اسمها أو استعير لها من آلهة الجمال، نظراً لما حبتها الطبيعة من آيات الحسن والفتنة خولّها أن تكون محضية مقربة لسادة التاريخ والجغرافيا فسحة من الزمن، والدليل على ذلك أنهم تركوا فيها أثراً منهم ليظلوا حاضرين في ذاكرتها إلى الأبد. لا، لم تكن مجرد شامة تتهامس خلسة عليها النظرات مهما استطال (لبلاب) الزمن. إن لم تكن السنوات هي التي تبتكر مساحيقها من أقواس قزح، تلك التي انشغل مبدعوها بأن تبقى حديث الزمن، وانشغل من حفر بها دروباً للتاريخ كي يسلك أول خطوة تأخذ به نحو كوة لبصيص ضوء يظفر من خلاله بسبق لتعرية تاريخها الملتبس حتى اللحظة. وانشغلنا نحن الذين كنا حروفاً على هوامشها ننقب بما أسعفنا به وقود الذاكرة، ورحيق المخيلة عن خيوط لسر اقتحامها يومياتنا. فهي القلعة (قلعة تاروت). الإسم الأشهر والقادر أن يوصلك إلى كل نقاط الأشكال الهندسية المتكونة منها جغرافية الجزيرة. القلعة التي اختصرت بين صفحاتها تاريخ من مروا من هنا. هي الماضي، والحاضر، والمستقبل. الماضي الذي بهره لنا الآباء والجدات بحكاياتهم المعجونة برائحة الجن والعماليق، والتي كانت منسجمة وكؤوسنا المعرفية حينها. ولأننا أبناء اليومي والعادي، لا مجال للتاريخ في افتراضاتنا. وهي الحاضر لأنها تشكل مساحة لا بأس بها من ذائقة بصرية عززتها مغامرات كل الفنانين اللونية والتي تسللت دون استئذان لصندوقهم الأسود، ليشرع كل على طريقته في الثرثرة اللونية لنقر جدران سـر هذه الغامضة. والمستقبل لأنها كعادة المحترفات في طريق الغواية لا تفضح كل أوراقها فما زالت ثمة أبواب تحضن أبواباً أخرى لم تسمح إلا بالمواربة، لتصب من زيتها ما يضمن لنار اللهفة أن تظل مستيقظة تمطر بسحب الإحتمالات التي غالباً ما تلجأ إلى لعبة الأسطرة.
3
الأسطرة هذه اللعبة التي حذقناها أطفالاً، والتي كان يسكبها في أذهننا الكبار لتجـسير الهوة بين طبيعة الأفق (المعماري) للجزيرة، من خلال نسيجه الذي وإن كان يعيش طفرات جينية كونه أحد أفخاذ قبيلة العمارة الإسلامية، وبين هذا الإبداع الهندسي الشامخ والذي يشكل مفردة نافرة عن السياق. فبينما تكون تلك تدويراً واستغلالاً لأدوات الطبيعة المحيطة، تبدو الأدوات التي تشكل منها بناء القلعة بدءاً من الرؤيا الهندسية حتى باقي التفاصيل شبه غائم في أرشيف ذاكرة المنطقة. كذلك مستوى الارتفاع بين (المعمارين)، والذي أيضاً له بعد (ثقافي) أكثر منه (وظيفي)، يتكأ على منظور الرؤيا الإستراتيجية لكليهما. مما يحفز أجنحة الأسئلة على الطيران لاكتشاف هذا الجين المتقدم عن سياقه الزمني؛ لكن ونظراً لوجود سلم أولويات لدى الكبار أوجه من هذه الأسئلة الترفية، وهي محاولة التأقلم مع شظف الحياة وتأمين احتياجاتها الضرورية تم ايعاز هذه المهمة لنا نحن الصغار وقتها.
4
حيث كانت محطة عروجنا نحو سماء بيضاء من كل قيود. منصة لكسر رتابة السهول المتنافرة وفائض الطاقة المسمى طفولة تنعشنا بأرواح مجنحة الخلود مما يشعرنا وقتها بزهو العظمة. مسرح لإعادة ترميم ذواتنا، من خلال بعث تلك الحكايات المختمرة بذاكرة جذرانها، حيث خصوبة خيالنا الطفولي يسعفنا بأبدع القصص والسيناريوهات والتي غالبا ما تكون مادتها من عجينة الحروب. ونظرا لأن المسرح مفتوح، لذا فعلى كل من يشترك فيه أن يختار الدور الذي يلائمه وفقاً لخريطته النفسية. لا يوجد كثير عناء من انتظام هرم أبطاله؛ فالقائد لا يحتاج لانتخاب، والمحارب لا ينتظر توجيه، والعدو ليس بحاجة إلى إرث تاريخي لتعميده. ومن الغريب، الذي لابد له من تفسير، أن مغامراتنا القتالية لا تتم إلا فترة الغروب؛ ربما رغبة لإضفاء مسحة من الخلفية الدرامية تتلائم وطبيعة الحدث التي توفره لنا الطبيعة تفضلا. من المدهش أننا نعيش الأدوار بكل تفاصيلها؛ وليس من المستغرب أن بعضنا يعود إلى بيته ليبدأ مشوار تضميد جراحه النازفة. ألم أقل إننا لا نمارس لعبة؛ إنما كل واحد منا يعيش منولوجا داخليا. كنا وقتها، نعيش في برزخ الواقع متلبسين بأرواح من لم يزالوا في تصورنا يلونوا تاريخ هذه القلعة، فلا غرابة إن شعرت الأجيال، التي عاشت قريبة من نبضها، أن ثمة مشتركات روحية تشف لها ما وراء هذه الرقعة الزمنية بما تصطخب به من أحداث كانت هذه إحدى أجنتها؛ وأنفاق فكرية تجسر ما سقط من حروف وقف أمامها التاريخ حائرا حتى حين. ومن حسن حظي، أنني من هذه الأجيال وإن كان آخرها (نظراً لأن ثمة مستجدات أمطرتها سحب الحضارة صرفت الأجيال الجديدة عن السفر في تفاصيل تاريخها ).