قلعة بني هلال..حكاية التهجير والعودة

صندوق الدنيا - القلاع

0 914

بلقاسم قاسمي- الجزائر- سماورد

القلعة التي تلاشت، ولم يبق منها غير أثر صار اليوم مزاراً للناس لممارسة طقوس الحضرة والرقص الشعبي على أنغام الناي والدف، وملجأ للكثيرين كل على هواه وغايته. ما دام المعْلم غير محمي ولا يحرسه سوى جبل عالٍ قليلا، وسماء بعيدة جداً.

هناك التفاتة مؤخراً في محاولة للاعتناء به كمعلم تاريخي.

قلعة لم يبق منها أثر كبير، وسميت في زمن المستعمر الفرنسي بـ (البياردو)؛ لأنها تشبه طاولة البياردو بنظرة فوقية.

رسمها الفنان العالمي إتيان دينيه أو نصر الدين ديني الذي عاش وأسلم ودفن بمدينة بوسعادة.

الروائي الجزائري واسيني الأعرج في روايته (نوار اللوز –  تغريبة صالح بن عامر الزوفري)، استلهم من تغريبة بني هلال، وكذلك الخير شوار في روايته (حروف الضباب). بالإضافة إلى العمل المعروف بأجزائه الخمسة (تغريبة بني هلال)؛ ولأني لا أملك إطلاعا كافيا خفت أن يتسبب هذا في مشكل لك للمجلة ولي. خاصة، وأن ذياب أو دياب الهلالي يعتبره البعض رمزاً للبطش والغدر، ويعتبره أبناء منطقته رمزا للذكاء والحيلة والشهامة والبطولة؛ ولكن لا بأس على ما أعتقد مادام الأمر يتعلق بالموروث الشفهي.

تؤكد الجدة، عندما نجتمع حولها لحظات قلائل بعد سقوط الليل بصمته ورهبته، أن القصة التي سترويها حدثت على أرض الواقع، وعلينا أن لا نكذبها كي لا تلحق بنا لعنة الأولين. نظراتنا البريئة تندس في تجاعيد فمها، وكلنا آذان صاغية وقلوب مشرئبة لحكايات قلعة دياب بن غانم الهلالي. أحد أمراء بني هلال الذين مروا بمنطقة الوسط الجزائري، خلال ترحالهم إلى المغرب العربي.

قلعة الأمير دياب الهلالي، التي ارتبطت بهذه الشخصية التاريخية الشعبية المعروفة وبحكايات كثيرة، لم تفلح البحوث الأكاديمية والسير التاريخية في تغيير اعتقادات الناس بها، وبما ارتبط في ذاكرتهم من قصص قصيرة موجزة وأخرى تزعم جدتي أن سردها يستغرق ثلاثة أشهر بأكملها؛ ولكنها كثيرا ما عزفت عن ذلك كلما أرادت سرد الحكاية من أولها لارتباط تغريبة بني هلال بالكثير من اللعنات التي تطارد أصحابها. وأقول في ذاتي الصامتة لعل اللعنة الوحيدة التي تطارد ذاكرة التاريخ المادية واللامادية هو الإهمال، وعدم الاهتمام بموقع تاريخي بهذا الحضور المكثف في حياة الناس. تاريخهم المحكي وتراثهم الشفهي.

الحكايات في هذا المنحى لا تستند على معطى تأريخي أكاديمي؛ بل تتكئ على ما توارثه الأجداد من جلسات السمر ولحظات السرحان الطويلة، في طبيعة كانت تمنح الوقت والفراغ، الذي عادة ما تذكيه الحكايات والبطولات المستوحاة من حقائق تاريخية. غالباً ما تتحول إلى لباس ضيق يعمل الخيال الشعبي على توسيعه وترقيعه بما يتناسب وانتمائهم الجغرافي، وعطشهم القديم للتمسك ببطل أسطوري، والزج به في اللاشعور الجمعي، ودحرجته بين ثنايا هذا اللباس الفضفاض الأقرب إلى ذاكرتهم.

حكت لنا الجدة ذات يوم، أن بني هلال الذين كانوا يقطنون بقلعة دياب الهلالي بمنطقة “الديس”، قد داهمهم الجوع في إحدى السنوات، ولم يجدوا ما يقتاتون به؛ فاجتمعوا ذات ليلة وكلفوا قائدهم دياب بمهمة يقوم بها. المهمة هي أن يذهب إلى خليفة الزناتي، جارهم القاطن بكدية بانيو، مع بعض الأفراد من قبيلته ليمنحهم سلفة من القمح والشعير يشدون بها أزرهم؛ حتى يتسنى لهم إرجاعها في السنة المقبلة. لما وصلوا إلى خليفة الزناتي عرضوا عليه المطلوب والمرغوب، فرحب بهم واستضافهم. بعدها قرر إعطاءهم ما يكفيهم في ذاك العام من قمح وشعير على أن يردوا له هذه السلفية في العام القادم إن جاءتهم الصابة (الغلة أو المحصول الزراعي المنتظر). ورجع بنو هلال إلى قلعتهم بهذه السلفة، التي استغلوها كغذاء لمدة سنة؛ حتى جاء العام القادم والذي كانوا قد زرعوا فيه بالأراضي المجاورة لقلعتهم قمحاً و شعيراً. كان عاماً ممطراً؛  إذ حصدوا فيه الكثير من القمح والشعير. دعا دياب قومه. حين اجتمعوا، ذكّرهم بما هو دين عليهم من قمح وشعير المسلَّم لهم من طرف خليفة الزناتي في العام الفارط؛ فتنكروا ولم يعترفوا بهذه السلفة. ولما أحس دياب أن قبيلته قد عزمت على عدم إرجاع دينها، أراد أن يذهب إلى خليفة الزناتي ليشرح ما وقع له مع قبيلته؛ فأراد خليفة الزناتي، بمعية قومه، الذهاب إلى بني هلال ليجد حلاً. لما وصل إليهم ودياب مأسور لديه، عرض عليهم إما إرجاع سلفة القمح والشعير أو الاحتفاظ بدياب ابن غانم كأسير وراعي لأغنامه وجماله. وافقوا على ذلك ورجع خليفة الزناتي إلى قبيلته وكلف دياب برعي الأغنام والجمال حتى ترجع قبيلته دينها . في العام الموالي، كرر خليفة الزناتي طلبه لبني هلال في إرجاع السلفية، وإلا سيجعل من قائدهم دياب أضحية له فوافقوا على ذلك. وعزم خليفة الزناتي على نحر دياب الهلالي. ما كان من دياب سوى الهروب ليختار مهرة من قطيع الجمال الذي كان يرعاه. كانت مطيعة له فركبها وترك بقية الجمال والأغنام ترعى لوحدها وترك زوجته وابنتها المسماة الجازية؛ فما كان من خليفة الزناتي لما علم بالأمر سوى إرجاع الزوجة وابنتها إلى قبيلة دياب، كونهم كانوا في أعرافهم لا يحتفظون بالنساء كأسرى؛ وقام بالبحث عن دياب في كل الأماكن المجاورة لهم، وعزم على ترحيل قبيلة بني هلال من مكانها بالقلعة جزاء إخلافهم لوعدهم معه. بعد مرور أشهر، تبين انه لا اثر لدياب بالمناطق المجاورة لهم، فما كان من الجازية سوى الاختيار بين المكوث في قبيلتها أو الزواج. ولأنها كانت معروفة لدى الكثير من القبائل؛ بحكم جمالها الفتان حتى أنه يقال أن شعرها يلامس كعب قدمها؛ وبمجرد إعلانها أنها تريد الزواج؛ تقدم لها الشريف ابن هاشم خاطباً إياها والذي كان يقطن مع قبيلته في واد سوف المتاخمة للحدود الليبية. ما إن وصل واستضافته قبيلتها حتى كان شرطها قنطاراً من الذهب والفضة توزعه على قومها وترحل معه زوجةً. ومرت السنة على زواجها. وأراد أهلها زيارتَها، فأرسلوا بثلاثة أشخاص  يطلبون زيارة الجازية. لما وصلوا إلى قبيلة الشريف ابن هاشم أسرَهم وبعد مدة قتلهم. ولما طال غياب هؤلاء أرادت قبيلتهم التقصي بمجموعة أخرى، أكثر عدداً ومسلحين بالسيوف والخناجر. حين وصلوا قبيلة الشريف بن هاشم، دخلوها ليلاً لمعرفة مصير أصحابهم. عرفوا أنهم قُتلوا؛ فما كان منهم إلا أن يقتحموا خيمة الشريف ابن هاشم ويقتلوا حراسه، وأمروا الشريف أن يعطيهم الجازية؛ لأن  قبيلتها قد اشتاقت لها شوقا كبيرا. ما كان من الشريف إلا أن يجهز ناقة للجازية، حتى تذهب معهم؛ وكان شرطه في ذلك أن يذهب معهم هو أيضاً. وفعلا قبلوا بذلك. رحل الشريف معهم، وحين وصولهم أرادوا أن ينتقموا منه جزاء ما فعل بأصحابهم؛ لكن الجازية عارضتهم، وأرادت أن تفقده عقله بأعشاب وعقاقير كانوا يستعملونها من خلال دسها في الشاي و القهوة والأكل. أصبح الشريف مجنوناً لا يعي شيئا، فبعثته رفقة أفراد من قبيلتها إلى قبيلته، وطلبت منهم أن يأتوا لها بأبنائها منه. كان لهم ذلك حيث قايضوه مع قبيلته  بأبناء الجازية . وقالت لهم بالمثل العامي – ملسو من طينكم يسجالكم أنا عربية وناسها أفراس – وتقصد ما فعلوه مع أبناء قبيلتها. أرادت الجتزية ،بعد ذلك، البحث والتقصي رفقة أبنائها وبعض الفرسان من قبيلتها على دياب ابن غانم. وقد وعدت من سيجده بمكافئة معتبرة. قاموا بالبحث المضني والشاق عبر الصحراء، حتى عثروا على قطيع من الأغنام والجمال. سألوا الراعي عن دياب ابن غانم الهلالي فأجابهم الراعي أن هذه قطعانه وأراد أن يدلهم على مكانه؛ لكن لما علم دياب بمجيئهم أمر حراسه أن يستعدوا لمواجهة أبناء قبيلته، ولم يكن يعرف أن الجازية معهم؛ لأنه تذكر ما فعلوه به مع خليفة الزناتي. وعند وصولهم، رأى الجازية ابنته التي كبرت فاستقبلهم استقبالا جيداً، وأراد أن يخلو بزوجته ليعرف ما جرى في كل السنوات التي كان غائبا فيها. سألها عن ما فعل بها خليفة الزناتي، خلال هروبه؛ فحكت له الجازية كل شيء بما فيه زواجها بالشريف بن هاشم، وإنجابها منه ولدين، وأن خليفة الزناتي قام بترحيل قبيلته من القلعة التي كانت تقطن بها. لما علم دياب بهذا، رجع رفقة فرسانه وقطعان الغنم  والجمال التي أصبحت ثروته، مع أبناء قبيلته إلى القلعة التي كان يقطن فيها. هناك، قابل خليفة الزناتي، لدى وصوله، وأرجع ما على قبيلته من دين القمح والشعير مقايضة بالجمال والأغنام التي جاء بها من الصحراء، وكان له ذلك. وعادت قبيلته إلى قلعته التي تسمى إلى الآن قلعة دياب الهلالي.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.