عمرو العزالي – ناقد مصري
طالما كان المقهى معادلاً للحرية، واقتراحاً رئيسياً حين أتغيب عن المدرسة يوماً بدون علم الأهل، لأحقق ما كنت أتوق إليه منذ صغري، كأن أجرب نشوى تدخين الشيشة، ومناداة (القهوجي) وإملاء الطلبات عليه، وسط مجموعة من الأقران، كلٌّ منا يتقمص نموذجه المرجعي، دون أن يخبر أحدنا الآخر بالطبع، فلعل أحدنا يتقمص الأب، وآخر يتقمص صديق الأب، وثالث يتقمص الخال أو العم، أو أحد أقربائه الذي يسبقه بسنوات معدودة، ندخن الشيشة، ونخرج الدخان من أفواهنا وأنوفنا بمنتهى الافتعال، مختلطاً بإحساس رجولة وهمية تتشكل ملامحها الإجرائية في تلك اللحظات.
كان منتهى الأبهة بالنسبة ليافعين لم تتجاوز أعمارهم الخامسة عشر أن يعرف القهوجي أسماءهم، وأن يدخر لقب (أستاذ) لمن يمنحه من بينهم بقشيشاً معقولاً، بما يمكنه من طلب تشغيل شريط كاسيت معين لمطربه المفضل، أو أن يطلب لمسة خاصة لا يعتني بها عمال المقاهي غالباً لزبائن في مثل هذه السن، كأن يضيف إلى الشاي أعواداً من النعناع، أو أن ينثر له بعض حبات الكاكاو على سطح المشروب من باب التزيين وتقوية الطعم، وبتلك المساحة من الحرية والتحقق في اختيار التفاصيل البسيطة استقر المقهى كمهرب آمن ودائم في خيالي المراهق.
وبقيت المقهى بالنسبة إليّ، حتى الآن، معادلاً للحرية، وموقعاً سحرياً للانفصال عن العالم والاتصال به في الوقت ذاته، وتعددت أشكال علاقتي بالمقهى، بحكم تعدد أشكال المقاهي في مصر، من حيث ملامح شخصية المقهى، فالمقهى أولاً وأخيراً صديق، وليس مجرد مكان يحتويك، فهناك المقهى التاريخي الذي تشعر نحوه بتعظيم ما، ولعل ذلك كان يتمثل لي في مقهى (المسيري) في مدينتي الأم دمنهور، حيث يختزل لي هذا المقهى كثيراً من التواريخ، وقت جلوسي فيه، باحتوائه على جدران تتجاوز السبعين عاماً، وبمجاورته لأقدم أسواق المدينة.. وهناك المقهى المألوف المفتوح على الشارع، المناسب لحديث يطول مع صديق حول موضوع عام، وكذلك هو مناسب للجلوس وحيداً، لتأمل ما مضى، أو لانتظار ما لا يجيء دون ضجر.. وهناك (الكافيه) الأنيق المهذب الهادئ المكيف غالباً، والذي يصلح لجلسة عمل، أو للقاء عاطفي أول بين اثنين.
ودوماً ما أتذكر لي على المقهى محطتين: أولاهما: أن أول جلوسي على المقهى كان موازياً لعرض فيلم (إسماعيلية رايح جاي) في دور السينما في مدينتي الصغيرة، وكان الفيلم محطة جديدة في السينما المصرية، والتي تم فيها التدشين لمرحلة ما بعد عادل إمام ونبيلة عبيد ونادية الجندي، من خلال سلسلة أفلام تتحدث لغة ذلك الجيل، وتوثق همومه على الشاشة الفضية، وكان للفيلم أغنية مشهورة تسمى (كامننا)، وكان المقهى لا يتوقف عن تشغيل تلك الأغنية على CD، وهي مرحلة ما بعد شريط الكاسيت وما قبل الفلاش ميموري.. لا أنسى ذلك اليوم أبداً، كانت فيه محاولتي الأولى للتسرب من الصف الدراسي، وكان تدشيناً لهواء آخر ومرحلة أخرى وعين أخرى ترى ما لم تكن تراه، وروح تنفس الهواء بشكل آخر..