القهوة لم تكن يوما مرادفا للثقافة

صندوق الدنيا - المقهى

0 291

نادية الملاح – شاعرة بحرينية

المقاهي الثقافيّة، مصطلحٌ انتشر في الآونة الأخيرة بشكل واسع، واحتلّ الكثير من النقاشات والأحاديث ومساحات الصّحف، وعلى الرّغم من تحفظي على المصطلح ذاته إلا انّ ذلك لا يُلغي وجوده الذي رسّخه الإعلام وجذّره بصورة كبيرة، فالمقهى يظلّ مكانًا يقصده عامة الناس في كلّ الأوقات بلا قيد أو تقيّدٍ بغرض محدد، وكلٌّ له أسبابه، فالبعض يلتقي الرفاق، والبعض الآخر يجد فيه مكانًا للاسترخاء، وآخرون يحبذون البقاء في هذا الجو للقراءة، بينما نجد آخرين يقصدونه اعتيادًا حتى بات جزءًا من يومهم، وفي الطرف الآخر نجد ” الثقافة” التي أراها لاتُحدّ بمكانٍ ولا ترتبط بوقت، فهي أمرٌ يستسيغه المرء لذاته، من خلال القراءة أو الحوار أو المتابعة لكافة الأنشطة والفعاليات، فهي تتخطى الجانب المعلوماتي إلى جوانب أكثر أهميّة تتعلق بالتفكير والسلوك، والقدرة على التعامل مع الآخر مهما كانت كينونته إنسانًا أو حدثًا أو معلومة أو حتى مادة مكتوبة أو موقفًا عابرًا.

يأتي الربط بين المصطلحين بشكلٍ ترويجي – من وجهة نظري- لا سيّما في ظلّ الشِّلليّة الثقافية التي يعاني منها مجتمعنا البحريني بالرّغم من صغر هذا الوطن مساحةً، فكلّ مجموعة تؤسّس لنفسها كيانًا يرفض الكيانات الأخرى، ويحاول أن يوجد لنفسه خطًّا مغايرًا أو مناوئًا يتميّز به، قد يبدو المر في ظاهره إيجابيًّا إلا أنه واقعًا يؤدي إلى حالة من الشتات والتضارب، والوقوع في حيرة حدّ اختيار الابتعاد عن كلّ ذلك والنظر والمراقبة من بعيد.

تعدّد الجماعات الثقافيّة، لا سيّما تلك التي لا تبدو لها أهدافًا واضحة ولا ملامح مميّزة، يدفع كل جماعة إلى تخصيص مكانٍ يعلن عنها وتعرف به، لتجد نفسك تقف إزاء الفعاليات والأنشطة متسائلا: أين أذهب؟ فتكون حينها مضطرًا إلى التضحية بقصد مكان واحد فقط، وما أتعسك حين تجد أن ما فضّلته على سواه لم يكن سوى إهدارٍ للوقت لأنك ببساطة لم تجد ما يمكن أن يضيف لك أو يمنحك متعة ثقافية متفردة أو على الأقل مختلفة.

المقاهي الثقافيّة، تعددت في إثر ذلك، والبعض الكثير منها بات تابعًا لجماعة بعينها، تقيم من خلاله الأنشطة والفعاليات، ويرتاده منتسبوها لعقد اللقاءات الثقافية والاجتماعات، لاسيما في إثر المناسبات والاحتفاليّات، مثل: يوم الشعر، يوم المسرح… الخ. إلا أنّ البقاء للأفضل، والقصد أنّ سمة التخصيص لا تليق بالمثقف ولا بالثقافة، والشمولية هي التي تضمن البقاء وجودة العمل، فكلّما اتّسع أفق الأشخاص كانوا أكثر قدرة على رسم الملامح التي يهدفون إليها وتحديد الوجهة التي يريدون الوصول إليها، وبرأيي الشخصي أجد أن مكانًا مثل (فضاء مشق) جديرٌ بالاهتمام والتوجه إليه، فمنذ تأسيسه وهو يسير في خط الثقافة الشاملة المتكاملة، بدءًا من الدورات والورش التدريبية، مرورًا بالفعاليات والأنشطة والأمسيات، ووصولاً إلى اللقاءات العامة وزوايا القراءة والنقاش، وهو بالنسبة لي نموذجٌ لما يمكن أن يسمى مقهىً ثقافيًّا، لأنه يفتح ذراعيه لكلّ الأطياف وشتى الثقافات، لا يختصّ بفنٍّ دون الآخر، ولا يُلزم بنشاط دون سواه، ونشاطه خير شاهد عليه فمجموع الأنشطة والدورات والفعاليات المقامة على أرضية هذا المقهى تفوق بكثير عمره الزمني.

نحن بحاجة إلى مثقف حقيقي قبل البحث عن مقهى ثقافي، المقاهي متعددة وكثيرة، والمسميّات مجانيّة، لكن العبرة في التفعيل بشكل صحيح، ورسم الطريق بخط واضح وفاعل، الثقافة لا تقبل التجزئة، والفتات لا يعدّ ثقافة، تقبّل التوجهات المختلفة هو الأساس الذي يستند إليه العقل، ,يدور في فلكه المنطق، ويبني مثقفًا حقيقيًّا يكون بمثابة حلقة الوصل بين فكرٍ وآخر.

بالإضافة إلى هذا الجانب، نجد ظاهرة اكتظاظ المقاهي بالطلبة لا سيما في مواسم الامتحانات، ربما يكون ذلك بدافع المراجعات الجماعية، التي بات المقهى مرتعًا خصبا لها، حيث كانوا في السابق يجتمعون في بيت ( أحدهم) فبات المقهى بديلا عادلا وسائغا للجميع.

لكني على الرغم من ذلك ما زلت على قناعتي بأن الثقافة والعلم لا تحد بأسوار أو مسميات، ولم تكن القهوة يوما مرادفا للثقافة أو القراءة، إنما تلك تقليعات ابتدعها الدخلاء على الثقافة، واستماتوا في تأطيرها وربط هذا بذاك.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.