يوسف نبيل – مصر
منذ بضعة أعوام تحولت إلى عالم الترجمة عن الروسية وكرست له جل وقتي. أدّى انخراطي في عالم الترجمة إلى متابعة كل ما أستطيع الوصول إليه من ترجمات عن الروسية إلى العربية. جئت من خارج الحقل الأكاديمي. صحيح إني تخرجت من كلية الألسن بجامعة عين شمس، إلا إني لم أعد أي رسائل علمية ولا انخرطت في الحقل الأكاديمي بأي شكل من الأشكال.
في بداية ولوجي إلى عالم الترجمة تعرضت لمواقف كثيرة محبطة، وارتكبت أخطاء كثيرة، وكنت في حاجة ماسة إلى الإرشاد. عبر عالم الفيس بوك والوسائط الإلكترونية بدأت أتابع المترجمين الكبار عن الروسية، وكان د. تحسين رزاق عزيز ممن تابعت نشاطهم الهائل. في البداية قرأت اسمه على بعض الكتب المترجمة عن الروسية في مجال الإدراكيات اللسانية، ثم بدأ التواصل الإلكتروني بيننا. الآن وبعد مرور أعوام على صداقتنا على العالم الافتراضي لا أصدق إني لم ألتق به وجهًا لوجه لمرة واحدة. في أحيان قليلة تتوطد العلاقات على هذه الفضاءات الإلكترونية لتصير أقوى وأوثق من علاقات كثيرة في العالم الواقعي.
بدأت العلاقة بالمتابعة الوثيقة من جانبي لمشروعي الترجمي، ثم لجأت إليه في بعض الجمل التي استعصت ترجمتها عليّ. قلت في بالي الرجل لن يجيب على سؤالي، فهو لا يعرفني، ومن المؤكد أن وقته شديد الضيق. أجاب د. تحسين فورًا على سؤالي الذي تلاه سؤال ثاني فثالث… إلخ. لا يمر أسبوع تقريبًا إلا وأرسل إليه أكثر من سؤال.
توطدت العلاقة مع الزمن، وبدأ د. تحسين بدوره يتابع خطواتي في عالم الترجمة. لا يمكنني وصف قدر التشجيع الذي نلته – ولا أزال أناله – من جانبه.
طوال هذه الأعوام يواظب د. تحسين على صنع كل الخدمات الممكنة لإنسان لم يلتق به يومًا، بل رأى فيه قدرًا من الاجتهاد وقرر تدعيمه بدلا من محاولة هدمه، كما حاول البعض للأسف.
طوال هذه الأعوام وأنا أتلقى عروض ترجمة من دور نشر عرفتني عن طريق د. تحسين، كما يرسل لي باستمرار مراجع وقواميس وكتبًا يرى أنها قد تساعدني في عملية الترجمة. أحيانًا لا أصدق قدر الاهتمام الذي يبديه بي، فإذا سألته سؤال في أي وقت من اليوم يجيبني فورًا، وأنا أعرف جيدًا مدى ضيق الوقت الذي يعاني منه ليتمكن من إنجاز كل هذه المنجزات العظيمة. إذا كان في سفر يصر على إرسال رسائل لي يُعلمني فيها بذلك حتى أدرك إنه لم يتأخر عن الإجابة عن أي سؤال مني عمدًا، وفور أن يعود يرسل لي الإجابة فورًا. بعد إرسال الإجابات يحاول التيقن مما إذا كنت إجاباته ملائمة لسياق النص الذي أترجمه أم لا.
لم تقتصر العلاقة بالطبع على الأسئلة والأجوبة، حيث أصر د. تحسين على معاملتي بندية كاملة؛ أي إنه اعتبرني صديقًا صغيرًا له، بالرغم من فارق السن والخبرة والقيمة. أدت هذه العلاقة إلى تبادل الأحاديث والنقاشات حول عالم الأدب الروسي، قديمه وحديثه، وعن دور النشر وعن المشهد الأدبي الروسي المعاصر.
تعلمت منه أمورًا كثيرة؛ على المستوى الإنساني والعلمي على السواء. تعلمت منه مثلا ضرورة أن يمتلك المترجم مشروعًا له ملامح محددة في الترجمة. إذا تأملنا مثلا مسيرة د. تحسين الترجمية سنجد بعض الملامح الواضحة والمميزة. انخرط أولا في ترجمة بعض الكتب عن مجال لم نقرأ فيه شيئًا عن الروسية بتاتًا؛ ألا وهو مجال اللسانيات. ترجم اللسانيات الإدراكية وأبحاثًا في اللسانيات وسوسير واللسانيات المعاصرة واللسانيات العامة… إلخ. بعد هذه المرحلة ركز د. تحسين على محاولة نقل صورة جيدة عن الأدب الروسي المعاصر إلى القارئ العربي. يرى د. تحسين أن القارئ العربي كوّن فكرة عن الأدب الروسي الكلاسيكي والسوفيتي، ولكنه لا يعرف شيئا تقريبًا عن الأدب الروسي المعاصر. اقتحم د. تحسين هذا المجال، وقد دفعته رؤية واضحة إلى فعل ذلك، وهي رؤية مفادها إن الأدب الروسي المعاصر يتضمن أسماءً أدبية لا تقل جودة عن عمالقة الأدب الروسي الكلاسيكي. في الوقت الذي استسهل فيه بعض الباحثين الحديث عن سقوط الأدب الروسي المعاصر وتشظي المشهد الأدبي في روسيا وما إلى ذلك، حاول د. تحسين بصورة عملية أن ينقل لنا قصور هذه الصورة. ترجم د. تحسين لبعض من أهم أسماء المشهد الأدبي المعاصر مثل: يفجيني فودولاذكين – جوزال ياخينا – لودميلا بتروشيفسكايا – لودميلا أوليتسكايا – فلاديمير شاروف – زاخار بريليبين – أليكسي إيفانوف وغيرهم. أثناء هذه الرحلة قدم لنا أيضًا بعض من نفائس العصر الفضي في الأدب الروسي. ترجم مثلا كتبًا لديمتري ميريجكوفسكي – بوريس بيلنياك – ميخائيل بولجاكوف.
يعيش د. تحسين رزاق في روسيا منذ أعوام، وللأسف الشديد لم يتلق التقدير الكافي من وطنه العراق.
أثق تمام الثقة إنه بعد مرور أعوام طويلة سيظل اسم د. تحسين واحدًا من أهم أسماء المترجمين عن الروسية في عالمنا العربي. أثق أيضًا أني سأظل ممتنًا له طوال عمري.