الابتسامة المُلهمة

القلب حين يدافع عن نفسه بالترجمة

0 304

د. هناء خليف غني – العراق

تعود بداية معرفتي بالمترجم تحسين رزاق عزيز إلى لحظةٍ أعدها مهمةً في عملي الأكاديمي. إذ كلفني قسم الترجمة الذي أعمل فيه بتدريس مادة الترجمة الأدبية لطلبة الدراسات العليا/الماجستير في البرنامج الدراسي الأول قبل قرابة الست سنوات. استصعبت المهمة في بادئ الأمر ربما لأنَ تخصصي الرئيس هو المسرح الحديث لا الترجمة التي لم أدرسها دراسةً أكاديميةً، وربما لنفوري من الولوج في مسالك ومجالات لا أحسن قيادها، وربما لبحثي الدائم عن إجابةٍ لسؤال يشغلني طوال الوقت: ما الذي يُمكن للمُدرس تقديمه إلى طلبته في العصر الراهن حيث سهولة الوصول إلى المعلومة وتعدد مواردها؟ ما السُبل الكفيلة بتحبيب المادة العلمية إليهم وتحفيزهم وتنمية طاقاتهم واستخراج أفضل ما عندهم لا سيما في مجال الترجمة؟. الثقة التي وضعها القسم في قدرتي على تدريس المادة القائمة على مسيرتي المتواضعة في ترجمة الكتب والمقالات، وعزمي على مقاربة الدرس بأسلوبٍ جديدٍ قهرا التردد في داخلي، فشرعت أجمع ما تيسر لي من مصادر ومعلومات تخص مشكلات ترجمة النصوص الأدبية وإستراتيجيات حلها مُعززةً بعددٍ وافر من النماذج التي يُكلف الطلبة بترجمتها من العربية وإليها.

سألت الطلبة في أولِ لقاء بيننا عما يعرفونه عن عالم الترجمة في خارج جدران قاعاتهم الدراسية، فهالني جهلهم المؤسف بالمترجمين والمترجمات وبالكتب المترجمة حديثها وقديمها وبدور النشر المعنية بترجمة الكتب من لغات العالم المختلفة. الانفصال بين الجانبين النظري والتطبيقي في الدرس الأكاديمي أحد جوانب الخلل ولا بد من معالجته إذا أردنا وضع الأمور في نصابها الصحيح-على قدر تعلق الأمر بالغاية من تدريس مختلف أنواع الترجمات في القسم الذي أعمل فيه. وفي محاولة لردم هذه الفجوة، ولو قليلًا، أخبرتهم عن تخصيصي الدقائق العشر الأولى من كل محاضرةٍ للحديث عن مترجمٍ لامع مع التركيز على المترجمين العراقيين. كُنت أضع أمامهم صورة المترجم وقائمةً بأعماله المترجمة ومسيرته المهنية العامة، وفي أثناء ذلك، كُنت لا أكف عن الإشادة بهم والثناء على جهودهم، فهم حاملو لواء التواصل بين المجتمعات والثقافات، ومقدمو المعارف إلى أبناء لغتهم الأم. وشجعني ما لحظته من حماس الطلبة واهتمامهم- الممزوج أحيانًا بدهشة من وجد كنزًا أمامه- بتلقف المعلومات عن المترجمين العراقيين على اقتراح فعالية تُعزز هذا الاهتمام وتنمي روح الشغف بالترجمة فيهم؛ وهذه الفعالية هي إقامة معرض صورٍ في اليوم الثقافي للقسم الذي وافق اليوم العالمي للترجمة إسهامًا منا في تعريف الطلبة بنتاجاتهم. وقع اختيار إحدى الطالبات على الأستاذ تحسين، وحينما سألتها عن سبب اختيارها له، قالت: “اخترته لجمال ابتسامته التي تبث التفاؤل في روحي،” فأجبتها: “أحسنت الاختيار، عزيزتي.”

وهكذا، كان تدريسي للترجمة الأدبية وتعريفي بالمترجمين وإقامتنا لمعرض الصور هي النوافذ التي تعرفت من خلالها على المنجز الترجمي المَهيب للأستاذ تحسين الذي أرى فيه امتدادًا للمترجم الراحل طيب الذكر، سامي الدروبي، صاحب الفضل في تعريفنا بأمات النصوص الأدبية الروسية-وإن كانت ترجماته عن لغةٍ وسيطةٍ. من منا لم يبدأ مسيرته في القراءة الأدبية بأعمال ديستوفسكي وبوشكين وليرمنتوف التي ترجمها الدروبي، من منا لا يتذكر الأخوة كارامازوف وذكريات من منزل الأموات وفي قبوي والفقراء والشياطين، وهل بقدرتنا أنَ ننسى السعادة الزوجية والحرب والسلام لتولستوي؟ وها نحن الآن نقرأ لجيل جديدٍ من النصوص المترجمة مباشرةٍ من اللغة الروسية على يد مجموعةٍ من المترجمين المهرة الذين يقف في مقدمتهم الأستاذ تحسين.

لا أظن أنَ الأستاذ تحسين في حاجةٍ إلى تقديمٍ، فهو المنتج الدائب الذي ما برح يتحفنا بالبِاهر والجميل من النصوص المترجمة. وبالمثل، لا أظنَه بحاجة إلى مديحٍ مع استحقاقه له. حسبه تلقف القراء لما يجود به من ترجمات ومتابعتهم له وثقتهم برصانة أسلوبه ودقة اختياراته. وما كلماتي المتواضعة بحقه هنا-في هذه المساحة المحدودة- سوى تذكير بأهمية الفعل الثقافي كتابةً وتأليفًا وترجمةً في زمن غلب عليه الازدراد السريع لكل ما تقذف به وسائل التواصل الاجتماعي، وتشجيعًا للأجيال القادمة على الإقبال على الترجمة لِما فيها من الخير العميم للمجتمعات بعامة.

يُبدي الأستاذ تحسين شغفًا أغبطه عليه في ترجمة النصوص سعيًا منه إلى تعزيز التثاقف بين المجتمعين العربي والروسي، أولًا، واستكشاف عوالم جديدة يقود فيها القارئ إلى تلمس مواطن الرفعة والجمال، ثانيًا. إنَ ترجماته شجرةٌ وارفة الظلال يستظل بها القارئ من قيظ السطحية في الاختيار والتعثر في التعبير. كلُ نصٍ يترجمه يأخذ بيد القارئ إلى مؤلفٍ أو معلومةٍ أو كتابٍ جديد؛ ولأنَه النص البداية الذي ينطلق منه الكاتب نحو آفاق لا حد لامتدادها.

ما يُحسب للأستاذ تحسين التنوع والدقة في الاختيار، اللذين يُمكن لأيَ متتبع لترجماته أنَ يرصدهما بسهولةٍ ويسرٍ. تنقله في الترجمة ما بين المقالات الفكرية والدراسات اللسانية والإنسانية والحوارات هو مؤشر أكيد على سعة الاطلاع ومتانة القدرة والرغبة بتقديم فكرة شاملةٍ عن الحراكين الأدبي والثقافي في روسيا. إنَه مشروع متكامل قادنا فيه من ’منشأ اللغة والكتابة‘ إلى ’تجليات التصوف الروسي‘ و’الفن المسرحي‘ عند تولستوي‘ و’الإلهام في السياق التاريخي‘، مرورًا بـ ’الملامح الرئيسة للمنهج الإدراكي في دراسة اللغة‘ و’فلاديمير أورلوف بين الرواية والمقالة الصحفية‘، و’يوري ماملييف بين السرد والشعر والفلسفة والمسرح‘.

ولم يغفل الأستاذ تحسين عن أهمية ترجمة الحوارات التي اصطحبنا فيها إلى عوالم الكتاب والمفكرين والرسامين والمفكرين الروس، ومواقفهم واشتغالاتهم، فتعرفنا عن طريقها إلى الكاتب المسرحي ليونيد زورين والمخرج الروسي كارين شاخنازاروف وفيكتور بليفين ويفغيني غريشكوفيتس وإدورد ليمونوف ولودميلا أوليتسكايا وميخائيل شيشكين والكاتبة التترية غوزيل ياخينا والصربية ياسمينا ميخائيلوفيتش.

أما ترجمته للروايات فيمكن عدَها-بلا مبالغة- جوهرة العُقد في مشروعي الترجمي. روايات (الطيار) و(مورفين) و(صبية من متروبول) و(يوميات رجل ميت) و(لاوروس) و(ميديا وأبناؤها) و(الجنازة المرحة) بشخصياتها وأحداثها تتناول قصصًا عالمية في تفاصيلها وتداعياتها؛ إنَها ذلك النوع من القصص الذي يتجاوز المحلي الضيق ليحلق فاردًا جناحيه فوق شتى أرجاء المعمورة في تذكيرٍ للناس بِأنَ المعاناة الإنسانية واحدةٌ، وأنَ الهموم والمواجع واحدةٌ.

ما يفعله الأستاذ تحسين هو محاولة محمودة ومُلهمة للتعريف بالإرث الإنساني والأدبي الضارب في القدم الذي وصفه فلاديمير نابوكوف ذات مرةٍ بأنّه “الألعاب النارية التي أضاءت عالم الأدب العالمي بأنوارها المبهرة” كما ورد في مقالةٍ للمترجمة المبدعة لطفية الدليمي، ووصفه الكاتب الساخر جورج برنادرشو بـ (القصر) موازنةً بينه والأدب الإنكليزي الذي شبهه بـ (الكوخ)، هذا للذين يتقنون اللغة الروسية. أما من لا يتقنها، فالترجمة عزاؤه، إذ لولاها لما سطعت في سماء حياته هذه الأنوار مُضافًا إلى أنَ ما يقدمه الأستاذ تحسين في ترجماته هو مرآة عاكسة تكشف لنا عن التغيرات العاصفة التي شهدتها روسيا مثلما تجسدت في الأدب بدءًا من الحقبة القيصرية إلى الثورة البلشفية وسيطرة الحزب الشيوعي بإملاءاته الأيديولوجية التي فرضها على المفكرين والكُتاب وصولًا إلى مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي إلى الوقت الحاضر بأزماته السياسية والاقتصادية والنفسية المتلاحقة.

الواقع أنَ ما يفعله المترجم تحسين هو نموذجٌ لما يفعله المثقف والمتنور الفاعل الذي يحق لنا أنَ نفتخر به ونقتدي بمسيرته. في اتصال هاتفي لي معه تحدثنا فيه كثيرًا عن الترجمة الجامعة بيننا، نصحني أن أخوض غمار ترجمة الروايات والمجموعات القصصية عن الإنكليزية بالطبع لسعة دائرة قرائها وعناية دور النشر بها. غامرت وترجمت بضع قصص، وما يزال الأمل يحدوني في أنَ أتمكن يومًا ما من ترجمة رواية، وربما سأتخذ من ترجمة النصوص الأدبية مسارًا لي في المستقبل بعد طول عهدي بترجمة النصوص الفكرية والاجتماعية. تحية صادقة وعميقة مني لكل المبدعين-والأستاذ تحسين من بينهم- الذين لم يبخلوا علينا يومًا بجميل صنائعهم التي جعلت حياتنا تحتشد بالمعاني الإنسانية الجميلة وأحالتها إلى بستانٍ زاهرٍ من أطايب المعارف والعلوم.

 

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.