جماليات التلقي في مسرحية فطيم
أفنان مندوره – السعودية
ملخص مسرحية فطيم
تدور أحداث مسرحية فطيم للكاتب السعودي عباس الحايك عن فتاة تدعى فطيم تخرج إلى الشاطئ دائما لاستقبال الصيادين ليلا، تحب البحر وشجرة القرم، لديها أخ أصغر منها اسمه حسن يحبها لأنها ترعاه وقت النوم وعند الأكل، والدها صياد ومهنة الصيد هي مصدر رزقه، وعند خروجها للشاطئ يزورها عازف الناي الذي يسكن البحر ويخرج لها من بين أشجار القرم، يعزف لها ألحانا حزينة، ولكن لا أحد يراه أو يسمعه غيرها، حتى عندما تحكي لوالدها عن عازف الناي يخبرها بأنه غير موجود وأنها تتخيل وجوده، ويظهر دينار في حياتها وهو شاب من نفس القرية، يحبها ويرغب الزواج منها، ولكن هي تبغضه ولا تطيقه، وعندما يخطبها الحجي شهاب لولده دينار ترفضه، فيغضبا على هذا الرفض ويعتبرانها اهانة، ويتوعدان فطيم ووالدها بتجفيف البحر الذي يصيد منه، ودفنه بالتراب، وتحويله إلى أرض سكنية تحوي بيوت مسلحة وشوارع مسفلته، ولكن تظل فطيم على قرارها لا تغيره وهو رفضها الزواج من دينار، فينفذ والد دينار مشروعه، وعندما يبدأ عماله بتشغيل الجرافات تتعلق فطيم بإحدى شجرات القرم في وسط البحر، فيحاول والدها اقناعها بالابتعاد خوفا عليها من أن يدفنوها في البحر مع شجرات القرم، ولكن بدون فائدة، إلى أن تموت حزنا وهي ممسكة بشجرة القرم، فتبقى الشجرة تذكر أهم القرية بفطيم.
# الشخصيات الرئيسية في المسرحية:
فطيم: فتاة جميلة وذكية في الخامسة عشرة من عمرها.
أبو حسن: والد فطيم، صياد، في الأربعينات من العمر.
دينار: شاب ثري في منتصف العشرينات من العمر.
الحجي شهاب: تاجر عقار، حاد الطبع وطماع، في الخمسينات من العمر.
# الشخصيات الثانوية في المسرحية:
عازف الناي: رجل في الأربعين من العمر.
حسن: أخو فطيم في السادسة من عمره.
صيادون أهل القرية (ثلاثة).
سكان الحي (ثلاثة).
جماليات التلقي
يحاول البحث اظهار ما وضعه بعض ممثلي نظرية التلقي أو التقبل أو جمالية التلقي، وهم هانز روبرت ياوس وفولفغانغ إيزر، اللذان جعلا القارئ محور نشاطهما واهتما بدوره – أي القارئ – في تلقي النصوص الأدبية ودراستها وتأويلها، “والمتبصر في نظريات التلقي والتأويل يقف أمام مصطلح (المتلقي) ومفهوم (التلقي) وقفة حيرة، فمن المقصود بهذه التسمية؟، أهو المتلقي العادي؟، أم المتلقي الكفء المثقف؟، أم أنهم جعلوا كل من يحاول دراسة النص متلقيا فعددوا مراتب التلقي حينها وقالوا بالمتلقي العادي والذكي والخبير العالم؟” ([1])، وقد وضح باتريس بافي في معجم المسرح (جمالية التلقي) بأنها “تدرس وجهة نظر المشاهد والعوامل التي أدت إلى تلقيه بطريقة صحيحة أو خاطئة، وفق توقعه الثقافي والأيديولوجي، وسلسلة الأعمال التي سبقت هذا النص وهذا المسرحية، وطريقة الإدراك، بصورة متباعدة أو انفعالية، والرابط بين العالم الخيالي والعوالم الحقيقة للحقبة التي يجري تمثيلها كما المشاهد” ([2])، وهي من الاتجاهات التي عرفت باسم (ما بعد البنيوية) حيث ظهرت جمالية التلقي من رحم البنائية مع السيمولوجيا والتفككية والتأويل، فكانت هذه المناهج تدرس بنية النص وشكله، فقد “قيل في اتجاهات ما بعد البنيوية إنها جاءت لتصحح أخطاء وقعت فيها البنيوية، وأبرزها سجن النص وموت المؤلف وإهمال حركة التاريخ” ([3])، ففي الستينات ومن جامعة كونستانس بألمانيا ظهرت جمالية التلقي على يد هانز روبرت ياوس، الذي اهتم بالعلاقة بين التاريخ والأدب، “وكان هدفه المحدد هو العمل على إعادة التاريخ إلى المركز من الدراسات الأدبية” ([4])، فقد ألقى محاضرته في الجامعة عام 1967م عرض فيها عدة مقترحات كانت البداية لظهور نظرية التلقي، ويرى ياوس كما أن للكاتب خلفيته النفسية والاجتماعية واللغوية التي تؤثر على أفقه الفكري والجمالي أثناء الكتابة، فإن للقارئ أيضا خلفيته التي تؤثر على أفقه الفكري والجمالي أثناء القراءة، ([5]) وقد حاول ياوس المزج بين مزايا الشكلانية والماركسية والابتعاد عن التنازع بين النظريتين، حيث “إن هاتين المدرستين تتفقان حول نقطة واحدة، وهي رفضها المشترك لما تتسم به النزعة الوضعية والميتافيزيقية الجمالية لتاريخ الأفكار من تجريبية عمياء” ([6])، فنشأت “علاقة جديدة بين المقاربة الجمالية والمقاربة التاريخية” ([7])، بالإضافة إلى ذلك قدم فولفغانغ إيزر مجموعة من الافتراضات التي تصب في نفس الاتجاه.
اقترح ياوس مفهوم (أفق التوقعات) أو (أفق انتظار القارئ)، وهو عبارة عن مجموعة من التوقعات الأدبية والثقافية التي يتمتع بها القارئ أثناء قراءته للعمل الأدبي، حيث يتبنى في ذهنه أفق توقعات للأحداث الموجودة في النص، فيكون دوره إنتاج معاني جديدة عن طريق التأويل، قد تكون هذه التوقعات متوافقة مع النص وقد تكون الأحداث مخيبة لتوقعاته، ليظهر مفهوم (كسر التوقع) أو (خيبة الانتظار) وهنا تبرز جمالية التلقي وإظهار فعاليتها. ([8]) “وإذا ما نعت بعض الدارسين نظرية التلقي بأنها (انطباعية جديدة) وكانوا يقصدون بذلك التقليل من شأنها وجدواها، نجد الأمر على العكس من ذلك، ففي هذا (الاتهام – الدعوة) ضرب من التدليل على جدوى هذا المنهج في التعبير عن ذاتية الناقد، ولكن الذاتية هنا هي (ذاتية نصية)” ([9]). وقد استخدم ياوس مصطلح (الأفق) بشكل غامض، ولم يوضح بدقة ما يعنيه هذا المصطلح عنده، كما استخدم العالمان كارل بوبو وكارل مانهايم مصطلح (التوقعات) قبل ياوس، فكان له علاقة بالشؤون الثقافية، ([10]) فقد “اعتمد ياوس على بديهية القارئ لفهم اصطلاحه الرئيسي مفهوم (أفق التوقع)، حيث إن الاصطلاح وجد في مجموعة كلمات ومقاطع مركبة: (أفق التوقع)، (أفق خبرة الحياة)، (أفق البناء)، (التغيير الأفقي)، (الأفق المادي للحالات)” ([11])، وبما أن أفق التوقعات يسمح للقارئ باستكمال الفجوات في النص وتعبئتها، فقد ظهر مصطلح آخر وهو (المسافة الجمالية) وتعني المسافة بين أفق توقعات النص وأفق توقعات القارئ، ([12]) وعند توافق الأفق يحصل اندماج الأفق، ويسمي جادامير ذلك “بأنه (انصهار آفاق) أي أفق النص وافق المؤول (المتلقي)” ([13]).
برز فولفغانغ إيزر في السبعينات بعد إلقاء محاضرة له في جامعة كونستانس أيضا، حيث كان يعمل بالتدريس فيها، “ولقد كان إيزر يشارك ياوس تدعيم ركائز نظرية جماليات التلقي بحيث عدت أفكارهم ومقترحاتهم على مشارف السبعينات تأسيسا لنظرية جديدة في فهم الأدب” ([14])، ورغم اهتمام ياوس وإيزر بإعادة تشكيل النظرية الأدبية من خلال التركيز على علاقة القارئ بالنص، إلا أنهما اختلافا في مناهجهما، حيث اهتم إيزر بالنص المفرد وكيفية تلقي القارئ للمعنى ارتباطه به، وجعل العوامل الاجتماعية والتاريخية لاحقة بالمسائل النصية، فانتقل التركيز من النص كونه موضوعا إلى فعل القارئ كونه نشاطا عمليا. ([15]) “هناك أربع طبقات تتكون منها البنية الأساسية لأي عمل أدبي هي: طبقة صوتيات الكلمة – طبقة وحدات المعنى – طبقة الموضوعات المتمثلة – طبقة المظاهر التخطيطية” ([16])، وقد اهتم إيزر بطبقة المظاهر التخطيطية أو طبقة التخطيطات، وطورها إلى مفهوم الفجوات والثغرات، فظهر مصطلح (ملء الفجوات)، ويعني أن النص قد يتضمن بعض الفراغات بأن يكون غير محدد أو غامض فيعمل القارئ المتلقي على ملئها وتعويضها بالتفاصيل والدلالات والتعليق والرد لتتم عملية التفاعل بينه وبين النص. ([17])
يصف إيزر ما يحصل من تفاعل بين القارئ والنص من خلال مفهوم (القارئ الضمني)، في محاولة منه لإبراز هذا المصطلح عن تصنيفات القراءة المختلفة، حيث يسعى إلى صنع حالة تجعل الكاتب يستحضر القارئ أثناء الكتابة دون أن يعرض النص على قراء حقيقيين فعلا، وفي هذه الحالة يضع الكاتب مجموعة من الأفكار والاستراتيجيات تجعل تلقي القارئ للنص ممكنا. ([18]) ولأن جماليات التلقي هدفها البحث عن العلاقات الضمنية، فقد استخدم إيزر مصطلحات مختلفة، مثل (السجل النصي) ويقصد به “مجموع الاتفاقات الضرورية لقيام وضعية ما، أي أن النص لحظة قراءته ولكي يتحقق معناه يتطلب إحالات ضرورية لحصول ذلك التحقق، وتكون الإحالات إلى كل ما هو سابق على النص مثل النصوص الأخرى، وكل ما خارج عنه مثل أوضاع وقيم وأعراف اجتماعية وثقافية” ([19])، كما استخدم إيزر مصطلح آخر وهو (الاستراتيجيات النصية) وهي “عبارة عن عدد من الإجراءات المقبولة تمثل مجموع القواعد التي يجب أن توافق تواصل المرسل والمرسل إليه كي يتم ذلك التواصل بنجاح، أي أن النص نتيجة لضرورة استناده إلى سجل يتمثل في ما انتفى من اتساق في ضوء العلاقة مع المحيط الاجتماعي والثقافي” ([20]). وأيضا ظهر مصطلح آخر وهو (مواقع اللاتحديد) و”تسمى أيضا الفجوات أو الفراغات أو المسافات البيضاء” ([21])، استخدمه إنكاردن وأخده عنه إيزر، فعند التقمص والانفعال يكون دورها الربط بين النص والقارئ، ولكن ليست هي ما يحرك التحقق بل الانفعال الأصلي، حيث على المواقع غير المحددة أن تملأ فقط. ([22])
إن حدوث شي غير متوقع في النص يجعل القارئ يعيد توقعاته التي كانت مرتبطة بالحدث المتوقع حدوثه وبالتالي يعيد تفسيراته لمعنى النص، لذلك حاول إيزر أن يستخدم مصطلح (وجهة النظر الجوالة) التي تساعد القارئ على التعمق في النص، وتشكيل وجهة نظر للقارئ تجعله يشارك في عملية انتاج معنى للنص، ويتم بذلك بناء التآلف بينهما، ([23]) فالقارئ الآن هو الذي يستخرج معاني النص ليضيف إليه “فيحوله من نص قرائي إلى نص كتابي” ([24]).
جماليات التلقي في مسرحية فطيم
يقدم النص رسالة إنذار، لقضية التوسع العمراني على البحر في فترة منتصف الثمانيات، وما يسببه هذا التوسع من تدمير للطبيعة الخضراء، وقتل للأسماك والكائنات البحرية، وتهجير للنوارس والطيور التي تعودت على الشواطئ البحرية، وقد خص بالذكر أشجار المانجروف أو القرم التي تعيش على سواحل الخليج العربي، وتحتضن الكثير من القشريات كالروبيان، وتعيش عليها الطيور البحرية بحثا عن الغذاء والحماية، ودورها المهم في تنقية الماء والأجواء في البحر. ويقوم هذا البحث على منهج القراءة والتلقي لتقديم معان لهذا النص، بوصفها قراءة في مستوى ما من مستويات أفق التوقعات، بحيث يبني المتلقي – ويقصد به الباحث – أفق توقعات أثناء القراءة، أي يتبنى في ذهنه أفق توقعات للأحداث القادمة، في محاولة منه لملء الفجوات وسد فراغات المعاني الغامضة ليحصل التفاعل مع النص.
في بداية المسرحية يظهر (عازف الناي)، والناي آلة موسيقية ارتبطت في ثقافات الشعوب بالحزن، وكان الاسم القديم لهذه الآلة (نا) بالأكادية و(نابو) بالكلدانية، وكان (النا) أو (النابو) يستخدم في الألحان الحزينة، وقد أصبحت هذه الكلمة تعني الحزن في اللغة الأكادية، ومع ظهور عازف الناي تتعالى معه آهات بصوت أنثوي تصدر من شجرة القرم، فيأتي ثلاثة من أهل القريبة ويقتربون من عازف الناي في غضب وانزعاج من هذه المعزوفات الحزينة ومن هذه الآهات المخيفة، وهنا فضل الكاتب أن لا يكون لأهل القرية أسماء واكتفى بذكر الأول والثاني والثالث، فليس المقصود شخص بعينه بقدر ما يكون أشخاص كان لهم دور في قضية التوسع العمراني على البحر حتى وإن كان بطريقة غير مباشرة، فيقول الثالث: “شجرة تتأوه طوال الليل، وعزف حزين على الناي. من يستطيع النوم؟. صار أولادنا يخافون المرور بالشجرة” ([25])، ويقول الأول: “صار الأطفال يتخيلون جنيا يسكن الشجرة” ([26])، ليرد عليهم عازف الناي: “ليس جنيا من يسكن الشجرة، إنها روح فطيم. فطيم التي سكنتم جسدها” ([27])، فيكون موقع عازف الناي هنا كالراوي الذي يرصد الأحداث ويعرف خفايا الشخصيات، وينقل للمتلقي استرجاع الأحداث في ذهنه عندما قال لأهل القرية: “لأذكركم أنكم تعيشون على جسد فطيم، تعيشون فوق بحر مدفون اغتلتم فيه السمك وجوعتم الطيور” ([28])، فهو يعلم بكل مجريات الأحداث، ويستمر في سردها بضمير المخاطب، فيقول: “أنتم شاركتم في الخطأ، من الذي حول البحر إلى بيوت؟!” ([29])، ويقول أيضا: “أنتم من اخترتم، خياركم أن يدفن البحر لتعيشوا عليه، فتحملوا ما يجيئكم” ([30])، لنجد المتلقي في هذا المشهد خارج الأحداث وانعدمت الإشارة إليه، وكانت وظيفته التلقي. ويأتي المشهد التالي لينتقل الزمان من الحاضر إلى الماضي، أي يعود بالزمن حيث تعيش فطيم.
إن اسم فطيم من المفطوم أي المقطوع عن الرضاع، وهو الذي انقطع عن الرضاع وأصبح يأكل بنفسه، قد يكون سبب اختيار هذا الاسم كون بطلة المسرحية فطيم عاشت بدون أم، ولديها أخ أصغر منها مسؤولة عنه، وأب ترعاه، وهي في عمر الخامسة عشرة، وهذا يتجسد في الحوار الذي دار بين حسن وفطيم في المشهد الثالث:
“حسن: ألن تغني لي لكي أنام؟.
فطيم: (تضحك) أكيد. أعرفك، لا تغمض عيناك بدون أغاني أختك التي تحبك.
حسن: (يحتضنها) وأنا أحبك يا فطيم.
فطيم: (تنهض وتمسك يد حسن) هيا، لندخل الغرفة لتنام.” ([31])
وفي المشهد الثالث أيضا يتضح بأن الأم متوفاة، حيث لم يذكر في بداية المسرحية أي دور لأم فطيم، ولكن يظهر دورها في تأثيرها على ابنها حسن وتذكره لعصيدة أمه حتى بعد وفاتها، وهذا يتجسد في الحوار الذي دار بين حسن وفطيم:
“حسن: متى ستصنعين لي العصيدة؟، أنت وعدتي.
فطيم: (تضحك) لا أدري من أين تعلمت حبك للعصيدة.
حسن: من أمي.
فطيم: الله يرحمها. تتذكر العصيدة التي تصنعها؟.
حسن: (بتلذذ) أمم، كانت لذيذة. إذا ستتصنعين لي كعصيدة أمي؟
فطيم: لا بأس، لقد جلب الوالد دبسا من تمر الخلاص. الآن يجب أن تنام.” ([32])
فالعصيدة طبق شعبي يفضله أهل الأحساء في فصل الشتاء، ويطلقون عليه العصيدة الحساوية، تتكون من الدقيق والدبس والتمر والزعفران والفلفل الأسود المطحون والزبدة والماء، ولا تختلف كثيرا عن العصيدة القطيفية، أما تمر الخلاص فهو من أشهر أنواع تمور الأحساء، وهذا يفسر ذكرهما في النص، كون الكاتب من مواليد القديح وهي بلدة سعودية تقع شمال غرب مدينة القطيف، وكانت القطيف والأحساء تعيشان حياة متشابهة.
عازف الناي الذي يرافق فطيم كلما ذهبت إلى شاطئ البحر، ويتناسب عزفه مع لحن غناء فطيم، فهي تنتظر عودة الصيادين لتنير لهم طريقهم بالفانوس، لتظفر بهدايا البحر، ولكن الغريب أن لا أحد يراه أو يسمعه غيرها، كأنه من وحي خيالها، وعندما سألته عن السبب أجاب: “أنت وحدك من يسمع صوت الحزن في نايي بروحك، قد يسمعني بقية الناس، لكن وحدك من تشعرين بهذا النغم” ([33])، فهما يجتمعان على حب البحر ويشتركان في الحزن على ما أصابه وما سيصيبه من تدمير، فالبحر بالنسبة لهما جالب الخير، كما يقول عازف الناي: “من يعيش على شاطئ بحر لا يجوع” ([34]). ومع عودة الصيادين من البحر تأتي معهم الخيرات، فيهدون فطيم عدد من السمكات، من نوع شعري، صافي، قرقفان، وهي أنواع تعيش في بحر الخليج العربي، وهذا مشهد يبين كيف يسعد الصيادون برؤيتهم لفطيم، وأنها مصدر تفاؤل بالنسبة لهم، وهنا تتحول شخصية فطيم من شعور الحزن مع عازف الناي إلى شعور السعادة بوجود الصيادين.
تأتي شخصية دينار الذي يرغب من الزواج بفطيم ولكن ترفضه، وشخصية والده الحجي شهاب التاجر الطماع، ليجسدا في هذه المسرحية جشع بعض تجار العقار، يقول شهاب: “أنا يهمني كم من ربح سيدره علي هذا المشروع. تعرفني حياتي كلها مشاريع. حتى فكرة زواج دينار من فطيم قد يكون مشروعا وإن كان خاسرا. أنا لا يهمني رفضك. لأني سأزوج ولدي ممن تناسب مكانتنا” ([35])، وظف الكاتب شخصية الحجي شهاب الذي يرمز للطمع واستغلال النفوذ للمصلحة الشخصية، هذه الشخصية التي عبرت عن واقع بعض التجار في الثمانينات الذين يسرقون متعة البسطاء والفقراء واستفزازهم.
كتبت المسرحية باللغة الفصحى البسيطة، لا تحمل مفردات صعبة أو معقدة، حتى عندما استعان الكاتب في المشهد التاسع بأبيات للشاعر ياسر المطوع، وهو شاعر سعودي معاصر، يعيش في مدينة الأحساء، لتتغنى بها فطيم وهي جالسة على شاطئ البحر، اختار أبيات سهلة.
يحدث حوار بين عازف الناي وفطيم في المشهد التاسع، حيث يخبرها: “يا فطيم، يمكن أن تجدي الفرح لو رضيت بما هو مقسوم. يمكن أن تعيشي الفرح لو رضيتي بدينار. وعشتني حياتك مثل نساء القرية“، فتجيبه فطيم: “لا، لا أظن أن الحياة مع دينار تجلب الفرح” ([36])، ولكن هذا الموقف يتبدل ويتغير في المشهد الخامس عشر والأخير، حينما تتساءل فطيم قائلة: “وهل سنقف مكتوفي الأيدي؟، هل سنسكت عن الظالم؟، هل سنترك البحر نهبا في يد الطماعين؟، يا عمي، هل السبب لأني لم أوافق على الزواج من دينار؟، لو وافقت، هل سيتركونه“، ليرد عليها عازف الناي: “لا يا فطيم، الطمع قديم، انهم يحتجون بقصة الزواج. حتى لو قبلت بدينار لن يتركوا البحر” ([37])، إذن المواقف قد تتبدل وفقا للظروف التي تتطلب ذلك، ففي البداية كانت فطيم ترفض وبشدة، ولكن حين أصابها اليأس أصبحت مترددة وتائهة، حتى وصل بها الحال إلى تغيير قرارها. وعندما يبدأ عمال الحاجي شهاب بالعمل، تتشبث فطيم بشجرة القرم، خوفا عليها وظنا منها إنها ستحمي البحر وباقي أشجار القرم من مشروع الحجي شهاب ومخططه، ولكن روحها تلبست في شجرة القرم التي تحبها. وتختم المسرحية بالانتقال إلى الزمن الحاضر كما حدث في المشهد الأول، ويظهر عازف الناي ليقول كلمته الأخيرة: “فطيم بقيت لتذكرهم أن تحت بيوتهم حياة دفنوها، دفنوا أغاني البحر وأحلام الصيادين، دفنوا حاضنات الأسماك ومبايض الروبيان وأعشاش الطيور المهاجرة” ([38])، هنا يعود عازف الناي إلى دوره كراوي ليخبر المتلقي بالرسالة التي تريد المسرحية ايصالها.
مسرحية فطيم هي محاولة لتمرير رسالة إلى المجتمع للمحافظة على البيئة، والاهتمام بالثروة البحرية، تجسدت في شجرة القرم التي ظلت بين البيوت تذكر الناس بما فعله بعضهم بالبحر، وقد دمج عباس الحايك بين الخيال والحقيقة، فجعل عازف الناي يراه الناس ويسمعوه بعد أن كان لا يراه ولا يسمعه سوى فطيم فقط، كما جعل النهاية ميتافيزيقية بتلبس روح فطيم في شجرة القرم، التي ظلت تذكر أهل القرية بما خسروه ودفنوه تحتهم من أسماك وروبيان وطيور، كما استعان الحايك بأشياء من محيطه كالعصيدة وتمر الخلاص وأسماك الشعري، الصافي، القرقفان، حتى استعانته بأبيات الشاعر ياسر المطوع الذي يعيش معه في نفس المنطقة دليل على التقارب الفكري والثقافي بينهما.
([1]) خيرة بن علوة: أفق التلقي بين الوصف البلاغي والتأويل الجمالي قراءة في المحايثة والتأويل (رسالة دكتوراه)، جامعة وهران 1 أحمد بن بلة، وهران 2014م – ص 6 (ب).
([2]) باتريس بافي: معجم المسرح، ترجمة ميشال ف خطار، المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2015م – ص 222.
([3]) بشرى موسى صالح: نظرية التلقي أصول وتطبيقات، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء 2001م – ص 20.
([4]) روبرت هولب: نظرية التلقي مقدمة نقدية، ترجمة عزالدين إسماعيل، المكتبة الأكاديمية، القاهرة 2000م – ص 97.
([5]) هانس روبرت ياوس: جمالية التلقي من أجل تأويل جديد للنص الأدبي، ترجمة رشيد بنحدو، كلمة للنشر والتوزيع، تونس 2016م – ص 13.
([10]) هولب: مرجع سابق – ص 105.
([11]) علي بخوش: تأثير جمالية التلقي الألمانية في النقد العربي، مكتبة عين الجامعة، (د.م) (د.ت) – ص 8.
([12]) عبدالناصر حسن محمد: نظرية التلقي بين ياوس وإيزر، دار النهضة العربية، القاهرة 2002م – ص 19.
([15]) هولب: مرجع سابق – ص 134.
([16]) صالح: مرجع سابق – ص 38.
([18]) هولب: مرجع سابق – ص 136.
([19]) محمد: مرجع سابق – ص 42.
([21]) فتحية بلحاجي: الأدب التفاعلي وجماليات التلقي فعل القراءة وإعادة بناء المعنى، المجلد 7، العدد 1، مجلة مقاربات، جامعة الجلفة، الجزائر 2021م – ص 54.
([22]) فولفغانغ إيزر: فعل القراءة نظرية جمالية التجاوب في الأدب، ترجمة حميد لحمداني والجلالي الكدية، منشورات مكتبة المناهل، فاس 1987م – ص 107.
([23]) هولب: مرجع سابق – ص 144.
([24]) ملاذ علوان وديلم سهيل: التلقي والتأويل في النقد العربي، العدد 37، مجلة كلية التربية، جامعة واسط، الكوت: 2019م – ص 165.
([25]) عباس الحايك: مسرحية فطيم، العدد 28، دورية الراوي، النادي الأدبي الثقافي بجدة، جدة 2014م – ص 183.
([27]) الحايك: مرجع سابق – ص 183.
([32]) الحايك: مرجع سابق – ص 184.