التراث في المسرح
سعاد خليل – ليبيا
يعتبر الفن من أهم جماليات الثقافة داخل أي كيان اجتماعي، ويعتبر أيضا تعبير له علاقة مباشرة بالاتجاهات الثقافية السائدة، وله منطور إبداعي للرؤية داخل المجتمعات بكل شرائحها. بمعنى الفن هو وجود حي تتراكم داخله خبرات ذلك الكيان الاجتماعي التي من خلالها يعبر عن ثقافتها ويتفاعل بها بوجوده المتميز.
والتراث في الفن يعتبر دليلا على الأصالة والتمسك بالجذور الوجدانية للشعوب، وأيضا تأكيدا للذات بما فيه من تمسك بالهوية والإبداع الخاص، الذي يميزه عن باقي الإبداعات الإنسانية الأخرى. إنه الخصوصية التي لا تتناقض مع الأخرى، وانما هو محاولة للإضافة والمساهمة في اثراء الوجدان الإنساني والمشاركة الإيجابية في إبداعات الآخرين بإبداع متميز ومتفرد وأصيل. هذا هو ما أعنيه بالأصالة في التراث. عندما نتحدث عن التراث، فإننا نجمع كل ما يختص بهذا الإرث الثقافي من الحكايات الشعبية إلى الحكاية الشفوية إلى الاسطورة والشعائر الدينية القديمة، إلى الحكواتي والاراجوز، وخيال الظل… إلخ. كل هذه تؤكد أننا كعرب عرفنا التمثيلية الدينية أو الشعائر التمثيلية مثل ما كان يعرف بتمثيلية ايبدوس قبل الالف الثانية أو الثالثة قبل الميلاد وهي كانت تعرف في مصر القديمة، كما ذكر الباحث الاردايس نيكول في كتابه الدراما في العالم. وهذا الموروث يمثل عنصرا هاما من عناصر التطور بالنسبة للإنسان؛ ولو فكرنا في ثقافتنا وعاداتنا وطرق حياتنا وعقائدنا لوجدنا أننا مدينين لأجيال سابقة أورثتنا هذه العادات والعقائد. إن الانسان ميز عن غيره من المخلوقات بظاهرة الموروث الشعبي أي التراث. فالموروث ينتقل من السلف إلى الخلف ومن جيل إلى جيل. إن الموروث الشعبي هو ميراث شفوي تتناقله الشفاه وتحفظه الذاكرة الشفهية؛ بمعنى آخر هو التراث غير المادي والمقصود به المعتقدات والأساطير وأشكال التعبير اللفظي، وهذا التراث الثقافي غير المادي يتوارث معتمدا على الذاكرة التي تقوم بتلك العملية، ونحن من خلال هذه الذاكرة التي حافظت على هذا التراث الغير المادي أو الشفوي يمكننا أن نتعرف على أهم الاحداث التي تم توثيقها وحفظها عن طريق الاشعار والفنون المغناة أو الأمثال الشعبية أو المعتقدات. كانت هذه الوسائل تحفظ للثقافة الرائجة حينئذ.
هذا فقط بعض التعريف لبعض المصطلحات من التراث موضوع هذا المقال وكيف نسخره في الأعمال المسرحية سواء كان تراثا شفويا أو غيره مما يزخر بها موروثنا الثقافي.
وفي دراسة للأستاذ محمد ابو العلا السلاموني يبين أن رجل المسرح، خصوصا الكاتب المسرحي المبدع لا يستطيع أن يجهل أو يتجاهل تراث المسرح بدءا من عصر الأغريق حتى عصرنا الحديث؛ بل يرى ميزة كبرى في أننا لم نعرف المسرح في تاريخنا بشكله المعاصر، وعليه فإننا لم نعد مقيدين بشكل مسرحي تقليدي كما هو الحال مثلا في الشعر العربي، فلعل عدم مواكبتنا للحركة الشعرية المعاصرة بشكل مؤثر هو أدى إلى العناء الشديد الذي كابده شعراؤنا للتخلص من قيود الشكل التقليدي للقصيدة العربية، وما رافقه من المعارك الأدبية منذ سنوات. بينما ما حدث هو العكس في شكل فني آخر لم تكن لنا به صلة أو تجربة أصيلة؛ وهو شكل الرواية والقصة، فقد تحقق لروائيينا وقصاصينا، بحكم حريتهم في أن ينهلوا من فن القصة العالمي، أن حرية الأبداع وانطلاق في الموهبة، ولعل الثمرة قد نضجت حين اعتر ف العالم بفننا الروائي والقصصي بحصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل في الادب.
إن التمسك بالتراث في الفن يجب أن يكون مدروسا دراسة عميقة؛ حتى لا نقع في ما يسميه البعض الشكلية أو الغوغائية الشكلية، التي اعتمدت في عروضها المسرحية على مفردات الشكل التراثي وأهملت النص كمضمون مسرحي. بمعنى أن لا نركز على العرض ومفرداته التراثية بإغراقه بعناصر الفرجة المختلفة الغنائية والاستعراضية على حساب النص المسرحي؛ فهو بالدرجة الأولى يعتبر الأساس في ما يطرحه ويقدمه من خط درامي متسلسل.
إن التراث ليس إلا وسيلة لإحداث الإلتحام بوجدان الجماهير، وجذبها من خلال فرجة شعبية ومتعة فنية تحقق في مجمل العرض ونهايته مضمونا محترما، لابد وأن يصل إلى عقل وضمير الجماهير. إننا لسنا مهرجين ولسنا عارضي أزياء ولسنا مطربي نوادي أو حفلات. وعليه، أن نحاول أن لا نقع في هذه الشكلية التراثية، وليظل النص المسرحي هو الأساس ليكون عاصمنا من الوقوع في اغراء أي شكلية مشبوهة؛ تلك هي القضايا المهمة الذي علينا أن نتحاشاها عندما نقدم عملا مسرحيا يعتمد على تراثنا.
كانت هذه بعض السطور من دراسة كتبها محمد ابو العلا السلاموني عن التراث في المسرح.
إن المسرح العربي يجهد ذاته بحثا في أعمال لاوعي الإنسان، مفتشا عن خصائص تكوينه، مفردا تلك الآلام التي صنعته، ويكتبها حتى لا يتصادم معها يوميا، مؤكدا أن الإنسان الحالي ليس إلا محصلة سيكولوجية واجتماعية وفكرية لتراث حضاري ضخم، ولن يستطيع هذا الإنسان أن يغزو غده القادم إلا بتسلحه بموقف علمي جاد من تراثه وواقعه ومستقبله.
في إجابة للدكتورة هدى وصفي عن كيفية الاستفادة من الأشكال المسرحية الحديثة في استلهام التراث، تقول:
التراث هو الواقع المعاش في بعض مظاهره، ذلك أننا نحيا من خلال بعض الموتيفات الحية، والتي تلازمنا في الحياة اليومية. واستلهام التراث هذا لا يعني أننا ننظر إلى الماضي السحيق، بل ننظر إليه على أنه يستطيع أن يكون فاعلا في المستقبل، فنحن نرجو من التراث الإضافة فارتباطنا بالتراث ليس ارتباطا اركيولوجيا، ولكنه ارتباط يبحث في المقومات الحية من أجل صياغتها والاستفادة منها وهذا يجعلها حامية للشخصية ولديها القدرة على حماية شخصية الفرد؛ أما الاجتياح الشديد لأساليب الحياة الحديثة، والتي تتشابه بسبب الوسائل الإعلامية، ولا يمكن مواجهة هذا إلا بالبحث عن العناصر الفعالة التي تعين الفرد على الاستمرار في حياة أرقى.
إن الاستفادة للعرض المسرحي الذي يستلهم التراث من النص والسينوغرافيا ولغة الجسد والفن التشكيلي الذي يعتمد عليه في افراز العصر الذي نعشيه هذا من خلال السينوغرافيا التي تعتبر فلسفة، اضافة إلى الكتابة التشكيلية على خشبة المسرح يجب ان تكون مرتبطة بخصوصية الاشكال العالمية التي هي من افراز اناس وافراد.
ان الاستعانة بالتراث في أعمالنا المسرحية يجب أن يكون في سياق صحيح، فكل الإبداعات والتجديدات الحقيقة لابد ان تتم بارتباطها باللحظة التاريخية، وتستحق الاحتفاظ بها؛ فإذا نحن نستلهمها علينا أن نزرعها في تربة قادرة على استيعابها وتمثلها.
إن العناصر الثقافية تأتي من تراثيات مختلفة. فالمسرح شأنه شأن كل الثقافات، وهو مصدر تراكم كمي لعدة مفردات للهوية، وتأكيدا لملامحها الإنسانية والتاريخية؛ فعندما نريد أن نقدم عملا مسرحيا مستلهما من التراث فهو محاولة لاستعادته وإعادة إكسابه حيوية جديدة تتلازم مع متناقضات العصر والذوق العام. وعلى الكاتب المسرحي الذي يحاول توظيف التراث في أعماله وكتاباته، عليه أولا إعادة قراءة التراث ليس لأجل تقديمه، بل يقرأه قراءة تفصيلية يتناول فيها تفسيرا دقيقا حتى يتمكن من الغوص بالجذور، وليقدم إبداعًا برؤية جدية لهذا التراث ومن منظور مغاير ومختلف عن الطريقة التقليدية. فأحياؤنا لتراثنا بشكل جديد، يعتبر أسلوب لإبداع جديد بمعاني جديدة، ويعني أنه يقدم دلالات شفيفة لا تقدر الكتابة المباشرة الباردة المفككة البوح بمعانيها.
إذن، التراث هو الميراث العظيم حين نستدعيه في أعمالنا، فإننا نحقق من خلاله كل ما يضيئه من أساليب ومفاهيم متعددة حتى نكون قد أكدنا هويتنا في مسرحنا.
إن احياء التراث في أعمالنا مع مواكبة العصر يمثل إحدى أهم القضايا في زحام المتغيرات الثقافية المعاصرة، حتى لا تندثر ثقافتنا أمام الثقافات الأخرى، وعلينا إبراز دوره في التأسيس والتأصيل والاعتزاز به وبأصالته وعراقته، فهو يعتبر واجب قومي ووطني، ومعيار لأصالة الأمم، وله علاقة مباشرة بعراقة الشعوب؛ فعلينا طرحه في أعمالنا مع محاولة تحديثه عبر آليات المعالجات العصرية وتشجيعه لأنه يشكل هويتنا وتاريخنا.