في حضرة مرام المصري

0 1٬437

 

حاورتها: سحر عبد الله-سماورد

مرام مصري أسم شعري أنثوي فرض حضوره وبريقه، دون تصنع ودون ضجيج محلي أو عالمي. تلك الحالمة الطالعة من بحر اللاذقية  لتخترق باريس بدون ماكياج وعطور. انتظرت طويلاً كي يغفو الأطفال، مطلقة شعراً يجول الآن في العالم بين فرانسيسكو والمكسيك وإيطاليا وفرنسا وفي الأندلس. عادت مرام، بلا صولجان أو تاج،  تردد  أصداء الماضي برقة وحنان. لا يمكن الحديث عن تجربة الشعر الحديث في سوريا دون أن تكون مرام اسماً ملهماً للمتعة والبحث. في قصيدة تعتبرها قصيدة الجميع وللجميع وبلسان الجميع. أنثى تحترق باحتراف في محراب الشعر والحب، وقد سخرت كل طاقاتها لذلك. وإن كان للأنوثة من بيان يصاغ، فلن يكون أجمل وأرق مما تقوله مرام في كل قصائدها. كان لي معها وعبر الفضاء الافتراضي هذا الحوار:

سماورد: هل كان الشعر صدفة؟ أم رغبة قوية بممارسته كأداة  للتعبير وللتأثير بنفس الوقت؟  وهل لوجود أخ شاعر في البيت علاقة بذلك؟

مرام: الحياة نفسها صدفة التقاء البويضة بواحدة من مليون نطفة، جعلتنا ما نحن عليه. هكذا كان الشعر بالنسبة لي في البدء.على الرغم من أنه تحول فيما بعد كأداة للتعبير والتأثير وجزءاً لا يتجزء من وجودي. لكون منذر قد خطى في هذا الدرب كان له من غير جدل العامل الأهم في تركيبتي العاطفية والذوقية والشعرية. كان منذر وسيظل المعلم الأول. يقول سارتر كل شيء يأتينا من الآخرين. ومنذر هو من أتى بالآخرين إلي: برخت، بناظم حكمت، الخنافس، سارتر وبوب ديلون.. نعم أعطاني مكتبته، ألوانه، أصدقائه. منذر رباني، ولا أدري ماذا كنت سأكونه لو لم يكن. في نفس الوقت لا أدري فيما إذا نجحت بعد 28 سنة من البعد الجغرافي، إن خرجت عن صراطه كما يفعل الأبرار عادة؟

سماورد: هل تصنفين قصيدتك كقصيدة نثر حديثة؟ وما رأيك بالتجارب الشعرية العربية الحديثة والسورية خاصة؟

مرام: طبعاً. وما هو الاسم الآخر الذي يصلح لها ؟ على الرغم من أن سؤالك ناتج لما قيل كثيراً بأنني لا أنتمي إلى مدرسة معينة أو معروفة لقصيدة النثر. والواقع عندما كتبت قصائدي الأولى لم أكن أعرف ما هي قصيدة النثر. كتبت ثماري وحسب. لم أقلد أحداً ولم أدعي أي شيء. لم يكن لدي أي إطلاع على ما يجري من حروب وتحولات في  القصيدة.

والآن، أكتب قصيدة متحررة من القالب الكلاسيكي، من التفعيلة وما إليه، على الرغم من أن لها  شكل. نرى الآن كتب شعر ذات نصوص نثر كلاسيكي ومع هذا يسمونها شعراً. نعم علينا أن نقبل الشعر في تحولاته المتعددة، في وجوهه المختلفة. أما فيما يخص التجارب الأُخرى، فصعب علي تقييم تجارب الآخرين أو المصارحة بما أظن. كلٌ يقدمُ تجربتهُ كأفضل تجربة، ومصدقاً نفسه. الشعر كالغابة بالنسبة لي، فيها السنديان وفيها الأعشاب والزهور، الشوك. أما من هو أهم من الآخر؟ فلكل أهميته في  تشكيل الغابة.  طبعاً، أنا اطلع باستمرار على منتجات الآخرين، بفضل الإنترنت الذي يزودني بأسماء وقصائد وآراء. وبفضل المهرجانات الثقافية التي تجمعني بالآخرين.طبعاً لا يحق لي أن أضع الجميع في حرز واحد. هناك الصالح كما أن هناك الطالح. أحياناً أتعجب من ملاحظات الأصدقاء وتعليقاتهم. الجميع مبدعون، والجميع لهم معجبات ومعجبون. ولكن في النهاية ثمة نصوص تبقى في الذاكرة، تدل على نفسها، وتؤثر بما توحيه وبما ترمي إليه،  وما تتركه من آثار، وما تقوله من حقائق إنسانية.

سماورد: إلى أي درجة تؤثر الحياة الشخصية في أشعار مرام أو في طقس الشعر، وأنت الأم التي صمتت شعرياً عقدين من الزمن كي تنشئ أسرتها؟

مرام: كثيراً. الذاتي هو العالمي  في ذات الوقت. أكتب لأؤكد انتمائي للإنسانية. اختلافنا هو تشابهنا وانضمامنا إلى إنسانية واحدة. الأدب الشعر والرسم كما كل أنواع الفن هو عرض الداخل. الفكر، تماماً كدور المرآة أو الانعكاسات، ما ساعد البشر على معرفة أجسادهم، والوعي للأنا. الأدب هو تصورنا لذاتنا. أحيانا بل غالباً ما أصاب بدهشة عندما أقرأ قصيدة أو قصة. الشخصية الخفية تظهر لي. أرى جنائن وأنهار الآخر. أرى غناه وفقره أيضاً. بدون الكتابة والكلام لما عرفنا ذاتنا، ولما عرفنا الآخر. صمت طويلاً، وددت حقاً أن أمنح نفسي تماماً لهذا الدور العظيم . كان علي أن أنضج وأن أوطد علاقتي مع العالم، أن أعيش ما عشت من أفراح وأحزان لأكتب .

سماورد: لديك الكثير من المعحبين عبر العالم، وهذا واضح عبر مدونات الفيس بوك: بماذا تشعرين والشهرة تأتيك من خارج لا من داخل بلدك- مثال عليها تكريمك مؤخراً، في فرنسا،  بوضع اسمك على جسر الفن في باريس محفوراً على الرخام؟

’’عندما كنت صغيرة كنت أظن بأن الآخرين يحبونني لأنني رائعة. اليوم أظنهم يحبونني لأنهم رائعون’’

مرام: الفيس بوك؟ يا له من اختراع ووسيلة أيضاً لاكتشاف الآخر! بفضله تعرفت على شاعرات ليس لديهن كتاب واحد، ولهن من قوة النص ما يعادل نصوص  شاعرات أكثر شهرة. وتلك الرغبة القوية للبوح. أعتبره منطقة عبور. والحقيقة أخجل بل لا أستطيع رفض صداقة.لدي ألف طلب ينتظر . بت لا أرفض ولا أقبل. ثم بدون أي وهم أعرف أنها مملكة نظرية باستثناء الشتائم من أجل كرة القدم، الناس هنا موجودة للحب وللثناء والتمجيد.

عندما كنت صغيرة كنت أظن بأن الآخرين يحبونني لأنني رائعة. اليوم أظنهم يحبونني لأنهم رائعون. صحيح أن كتبي  تنشر بالإسبانية والإيطالية والفرنسية قبل أن تصدر بلغتي العربية الأم؛ لكن المهم أن هناك من يحب شعري. قالوا لي يوماً أنهم سيسمون جائزة في اللاذقية باسمي، لم يحصل. ثم عندما قرأت  أشعاري في (مقهى قصيدة نثر) في اللاذقية،  أتى البعض من دمشق لسماعي، وكم أثر ذلك بي .

سماورد: قصدت الاعتراف الرسمي مقارنة بالاعتراف الفردي. بالتأكيد لك معجبون على امتداد العالم ومنها سوريا، لكن شهرتك خارج بلدك جاءت أجمل ومحتفى به أكثر ومعلن، مع أنه كما أوضحت أتت عبر أفراد. وهذا فرق جوهري وحيوي بين شعوبنا والشعوب الغربية، حيث الفرد أو المجموعات الصغيرة فعالة بعكس الأوطان المهمشة. الأفراد والمجموعات ضائعة ومريضة بشلليات وعلل عديدة. ويبقى حتى المثقف الكبير بحاجة للاعتراف الرسمي للدولة لسيطرتها المطلقة على كل شيء بما فيها منابر ومنابع الثقافة.

مرام: أنا معك أحيانا اشعر بغصة لعدم انتمائي لسلطة رسمية تدافع عني وتدفع بي . حتى في فرنسا أنا لست معتبرة كشاعرة فرنسية على الرغم من الجنسية، وفي سورية أيضا لست من الشاعرات السوريات على الرغم من أنني سورية .ولكنني في نفس الوقت أشعر بحرية  المتشرد. الأنظمة تتغير ويبقى الشعر. مشكلتي أنني خارج سوريا منذ زمن طويل، الآن  وكما يقال لا كرامة لنبي في وطنه.

لقد تمتعت بكثير من الاهتمام في الخارج. ففي انكلترا خصصت التايمز مقالا عن كتابي، في إيطاليا، في فرنسا والآن أنا مرشحة لجائزتين!  أشعر حقا بأن هناك نجمة تأخذ بي وبشعري،  أو أماً حانية تعتني بوجوده. طبعا أشعر بسعادة لتحليل قصائدي، ولكن ما يؤثر بي هو ما يمنحنني إياه.

سماورد: مع رواج مصطلح الجنوسة في الأدب ما رأي مرام مصري في مثل هذه التصنيفات؟؟

مرام: لست معه ولست ضده بالوقت نفسه. إذا توقفت التسمية على جنس الكاتب، وليس للتقليل من أهمية الكتاب. أكتب شعر نسائي لا أجد في ذلك أي تقليل من أهمية كتابتي. أنا امرأة أكتب للنساء حتماً، ولكن همي أيضاً أن أكتب للرجال، للإنسانية كلها. العالم بحاجة لصوت النساء؛ بحاجة أن يعرف ما في داخلهن. إن لم تكن المرأة هي ذاتها من تتحدث بلسانها فمن سيفعل؟  العالم حتى الآن لا يزال مرئياً من منظور الرجال،. قليل من النساء من نجحن بإيصال صوتهن، وتغيير بعض الأشياء. الرجل بحاجة لأن يكتشف العالم الغامض والمركب للمرأة وهذا سيكون دائما لصالحهما معاً.

سماورد: هل تتابعين أعمال الشعراء الشباب في سوريا؟ وهل تلمسين تطوراً في قصيدة النثر، أم مراوحة في المكان، ومحاولات تقليد فاشلة لتجارب الرواد في الشعر العربي الحديث، أو سواهم في الشعر العالمي؟

مرام: طبعاً تطورت برأي القصيدة، ولكن ربما وصلت إلى ذروتها. ماذا سيتغير بها؟ هناك نصوص متينة. هناك نصوص لا يزال فيها شبح الماضي من حب للتفعيلة وما إليه. إنها تتأرجح بين نص حر، وما سبق من كل أشكال القصيدة المعروفة. قرأت، بل شاهدت أيضاً، تجارب تجديدية في شكل القصيدة مدهشة، كنت أستهجنها ثم أجبر نفسي لأقبلها ولأستوعبها ولآخذ منها ما يؤخذ. كل شيء هو تربية: الذائقة النظرية والسمعية والحسية  في الغرب، شعر السلام والراب، وما إليه من انجازات صوتية وجسدية ترافق لتأليف قصيدة مختلفة، وهناك القصيدة الشكلية، قصائد وقصائد، كل يحاول ابتكار وتجديد تجارب ناجحة وأخرى عابرة.

سماورد: هل تعتبرين نشر أشعارك باللغات الأجنبية أوصلك للعالمية، أكثر مما لو كنت بقيت في سوريا أو اكتفيت بالكتابة بالعربية؟

مرام: لم أتصور أنني سأصل لهذه الدرجة طبعاً، وأظن لو أنني بقيت في سوريا لربما اختلفت حياتي بكاملها. ولربما كتبت شعراً آخر؛ وربما كان أفضل أو أسوأ. ربما  كنت أصبحت سفيرة أو غير ذلك.

 أكتب فقط بالعربية. أحياناً أكتب بالفرنسية، ولكن ما ينشر هو ترجمة؟ ما حدث لشعري هو أمر غريب حقاً: الترجمات الانكليزية. أنت تدرين بأن ناشري ليس أي ناشر.  الناشر الإنكليزي،  كما الأميركي، هما من أفضل الناشرين. نشر لي بالفرنسية والإسبانية أربعة كتب والخامس سيصدر قريباً. كرزة حمراء أعيد طباعته أربع مرات. وكذلك للإيطالية وللماسيدونية وللصربية وللكورسيكية وللأمازيغية ولليونانية والآن التركية والكاتالانية (القشتالية). حقاً غريب! كله مصادفة. لو حدثتك كيف ترجمت أشعاري، وكل قصة وراءها. ليس هناك جهة تدفع بي، كلها قصص لمترجمين أحبوا شعري ولناشرين أحبوه ووجدوا فيه ما يستحق المغامرة، فنشر كتاب هو مغامرة حقيقية، مالاً وجهداً.

سماورد: لمن تقرأين هذه الأيام؟ وهل لديك قصائد جديدة؟

مرام: أترجم شاعر فرنسي اسمه جان كلود مارتان، وبالإضافة إلى ذلك أقرأ أبو نواس بالفرنسية. البارحة أهداني شاعر صديق، هو فرنسيس كومب، روايته مارك وليلى،. وأقرأ قصة لالكسندر نجار عن حرب بيروت أحببتها كثيراً. وذكريات عاهراتي الحزينة لغارسيا مركيز.

لدي قصائد جديدة طبعاً. أهم بإخراج كتاب عن حياة باريس الميترو والقطار، بين الشعر والنثر قصص. منذ زمن طويل لدي  قصائد تصلح لتكون نواة كتاب كبير. الكتاب أشبه بطفل، يبدأ علقة ثم العظم واللحم وإلى آخره. علي أن أعمق النظر وأبحث عن تفاصيل.

سماورد: كيف تنظرين إلى إشكالية الهوية كإنسانة مغتربة وشاعرة؟ هل يعتريك هذا الالتباس بأنك فرنسية أكثر من سورية، بالسلوك اليومي مع البشر والحياة وفي الكتابة أيضاً؟ أم أن الشعر كلغة وكفعل حررك من هذه التساؤلات؟

مرام:  للأسف، ولحسن الحظ، لدي من السنيين في فرنسا أكثر مما لدي في سورية.  أتذكر أول مقابلة لي على الراديو في سورية، سئلت ما هو الوطن؟  كان جوابي بأنه البشر الذين يعيشون فيه، أهلي، أصدقائي والأغاني. لم يكن يعنيني الوطن أبداً كمكان جغرافي. الوطن هو ما يوفر للإنسان كرامته وراحته.  بقيت سنتين بدون بيت؛ أستطيع القول أن الوطن هو البيت،  البشر والشعر، الأغاني والطعام. لقد اتسعت رؤيتي وأصبحت قادرة أن استوعب الهويتين اللتين أحملهما. أشعر أحيانا أنني كبالون قد أفلت من يد طفل، ولا يزال يطير. أحيانا أرسو، لتأخذني ريح أخرى لمكان آخر. نعم أشعر أحيانا بتعب، وأحسد من لم يذق  طعم الحرية. من لم يسافر، فولد وعاش ومات في قريته، ولكن أي حياة لهؤلاء؟ أحاول أن أتخيل من منا السعيد وهل السعادة مبغى حياتي؟

بعد كل هذا أتركك تسائلين كيف أن الشعر حررني واستعبدني في الوقت ذاته.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.