محمد علي شمس الدين يترك أقدم جروح الغيب مفتوحاً

0 2٬756

حوار – الدكتور محمد ناصر الدين – لبنان*

ناصر الدين: “هو القلب أم حفنة من دخان القرى؟/ قال لي صاحبي: نشأنا معاً/ وضحكنا معاً/ وشربنا معاً وحلَ أقدامنا/ فهل أنتَ مثلي، غداً، ميت في المدينة؟/ قلت هذا اتجاهي/ من النهر حتّى احتراقاته في الخليج/ جنوباً/ جنوباً/ جنوباً/ وكلّ الجهات التي حدّدتني/ غدت واحدة./ قال لي:/ أنت لا تعرف الأرض والآخرين؟/ قلت أمّي نهتني عن الموت إلا على صدرها/ قال: خذ رقم قبري…/ وغابْ/ ولمّا التقينا/ بكينا معاً فوق صدر التراب.”

في عدد ممتاز من فصلية الشعراء – الصادرة عن بيت الشعر الفلسطيني في العام 2004 – مخصص للشاعر محمد علي شمس الدين، بعنوان المنشد الجنوبي، يقول الشاعر اللبناني عباس بيضون في محور شهادات:” يتميز محمد علي شمس الدين بشيء أشبه بالتأسيس، نوع من الريادة في استلهام فضاء لغوي وثقافي ومكاني، أظن أن الجنوب اللبناني بكل ما تتابع عليه تاريخياً ولغوياً ووجدانياً مصدره، إذ يبدو لي أن مخاضاً ثقافياً وعاطفياً أمكن له أن يتحول إلى رافد فريد في القصيدة المعاصرة”. في قصائد محمد علي شمس الدين (اقتحامات جنونية)، نجدها في “قصائد مهربة إلى حبيبتي آسيا” (الطبعة الأولى، الآداب 1975)، وصولاً إلى كتابه الأخير “آخر ما تركته البراري” الصادر عن دار النهضة العربية مطلع هذا العام. هل تغير الفتى “ميم” الذي قال في أحد كتبه الأولى وهو “كتاب الطواف” (دار الحداثة – بيروت 1987):

“تستوقفني أحياناً/ وأنا أجلس في بيتي/ أصوات لا أعرفها/ تأتي من زاوية لم تكشف للشمس حواشيها/ أسأل نفسي: هل لحجارة هذا البيت فمٌ/ يختزن الأصوات ويُحييها؟/ هل لنوافذ هذا المنزل ذاكرةٌ/ تذكرُ أرواحَ محبِّيها؟”

ما هي أحوال الاحتكاك الأول للقلب الجنوبي مع الشعر في الضباب والأرض المفتوحة على الشعر والدم. بعد خمسين عاماً هل “لا أنت انت، ولا الطريق طريق” كما يقول أدونيس. ما معنى الحداثة الشعرية؟ وهل يمكن قول الشعر في زمن الموت والشر والتفاهة؟ “في الشعر العظيم خيط القلق الدائم ومن سماته ألا يقول اليقين” يخبرنا بها صاحب “أناديك يا ملكي ويا حبيبي“، والشعرية هي مزيج غير منفصل بين الحماس والإحساس بين الرؤية والرؤيا؛ فضلاً عن الإحساس بالموسيقى وغريزة اللغة. أردناها بالتنسيق مع دار الرافدين، مقابلة شعرية في صميم الشعر والحداثة مع أحد أبرز الأصوات على خارطة الشعرية العربية. اليوم، نسأله عن كل شيء حول “إنانا” التي يحاورها في الكتاب الأخير بصرخة مدوية: “واحر قلباه/ كان ينبغي لي ألا أفتح هذا الدفتر/ وأن تظل إنانا نائمة تحت الطين”، محمد علي شمس الدين.

شمس الدين: ” قلت هذا اتجاهي/ من النهر حتّى احتراقاته في الخليج ْ” (بالسكون)”/ جنوباً/ جنوباً/ جنوباً/ وكلّ الجهات التي حدّدتني/ غدت واحدة.” لماذا بالسكون؟ لأنه يجب أن نحافظ على الإيقاع حين استعماله.

ناصر الدين: سوف نتحدث عن الإيقاع لاحقاً.

شمس الدين: لا. عفواً. لأنه ورد (في المقدمة) غير ذلك.

ناصر الدين: سنبدأ الحوار بسؤال أول – والحوار سيرتكز حول الحداثة، والحداثة في الشعر- ما معنى أن يكون الشاعر (حداثوي)؟ نحتاج إلى قاموس تعريفي لبعض المصطلحات. ماذا تعني مصطلحات حداثة وما بعد حداثة لشعر عربي؟ خصوصاً، أنه تم ضبط بنية هذا الشعر بالأوزان الخليلية منذ أكثر من (1000 عام).

شمس الدين: دعنا نبدأ من النقطة الملتبسة. الحداثة تماماً قريبة من الشعر بذاته. إنها فراشة الضوء التي لا يمكن الإمساك بها. الحداثة مسألة نسبية وشبحية، أيضاً كالشعر؛ لأنه منذ أن سُمِّي شعراء العصر الأموي والعباسي بشعراء حداثيين، أي خارجين على النسق، خارجين على ما كان يُسمى عمود الشعر العربي – سأدخل بتأصيل الحداثة عربياً قبل أن انتقل إلى معناها الغربي، وانعكاساتها على احوالنا الان – كان “الحديث” عندهم هو عكس “القديم”. هو افتراع أو افتراء على النسق؛ فالشعراء المحدثون مثل أبي نواس، ومطيع بن أياس، ومسلم بن الوليد، وبشار بن برد كان لديهم خيال ضخم، ولننتبه لهذا القول لبشار بن برد ، الشاعر الأعمى الذي عاش قبل ألف عام:

إذا ما غضبنا غضبة مضرية            هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما

يمكن أن نشتق من النثر قصيدة، ولكن الشعر ليس قصيدة النثر فقط

(هتك حجاب الشمس وأن تقطر دماً) معنىً صادمٌ غير تقليدي، غير مسبوق؛ فهؤلاء غيّروا ما يسمى عمود الشعر. ما هو عمود الشعر؟ هو التراتبية البصرية في القصيدة، والتراتبية السمعية الموسيقية، وتراتبية المعنى. التراتبية البصرية تعني الشكل الخطي للقصيدة، ونجد ذلك مرتبط بالصحراء؛ وأما التراتبية الموسيقية فهي رتابة الوزن؛ وأما التراتبية المعنوية (المعاني) هو اتفاقهم على أن يبدأ الشاعر بالأطلال – أي الطللية – وهي جذر أساسي للشعرية العربية، ثم بعد ذلك الغزل بالمرأة، ثم سائر الأغراض. هذا النسق “العمود” كسروه؛ فكانوا محدثين أي كاسرين للنسق. الحداثة دائماً تتصل بـ: أولاً، الخروج على الرتابة؛ ثانياً، ابتكار الجديد؛ ثالثاً، وضع الصدمة؛ رابعاً، البقاء دون القبض الكامل على الحقيقة. لذا أقول إن الحداثة بشكل أو بآخر شبحية. أما الحداثة في الغرب تختلف عن ذلك. الغرب طوّر هذا المعنى، ثم انتقلت إلينا مع العصور الحديثة.

ناصر الدين: هذا مدخل للسؤال الثاني. هناك رأي يقول إن الحداثة قد حصلت عند جملة بودلير الشهيرة أو سؤاله: “هل يمكن أن نشتق من النثر قصيدة؟”. وهذا يدخلنا إلى سؤال آخر: هل هذه الحداثة غربية، طبعها غربي بامتياز؟ وبالتالي، حين استخدمها الشعراء العرب كانت بمثابة جواز سفر مزيف، ونسف لتراث من الشعرية العربية ضارب في التاريخ؟ أم أن الحداثة ضرورة للمعاصرة سيتأثر بها الشعر حكماً؛ فجينات الشعر ومناعته ضعيفة ومباشرة سيتأثر بها؟ ما رأيك في جدلية التراث والمعاصرة؟

شمس الدين: بودلير ليس شخصية هيّنة. كان معاصراً لفيكتور هيوغو وتأثر به، وقال يريدون منا أن نترك النظم الجميل لكلاب النثر السوداء. حدث صراع قوي جداً على (سن الحداثة)، والآن الصراع على (سن الحداثة)، وهو صراع مفتوح بالمناسبة؛ الحروب الشعواء بين هذا وذاك، بين الحديث واللاحديث، بين “من” و”ما”. بودلير شاعر وزن وديوانه “Les Fleurs du mal” (أزهار الشر) مكوّن من قصائد موزونة على d’Alexandrie (الإسكندري سداسي التفعيل)، وكثير من شعره بمعظمه موزون على d’Alexandrie. عندما كتب Spleen de Paris (سأم باريس) – متأثراً بشخص آخر، أخذ منه وسطا عليه – لأن بودلير كان قوياً – جاء بهذا الفتح “هل يمكن أن نشتق من النثر قصيدة؟” وهذا تحدٍ خطير. الجواب التاريخي والمختصر بعد الجدالات التي لا تزال مفتوحة – التي اعتقد أنها حسمت – نعم، وألف نعم، يمكن أن نشتق من النثر قصيدة، ولكن الشعر ليس قصيدة النثر فقط. قصيدة النثر هي تفصيل في هوية الشعر العظيمة التي تمتد من أعمق أعماق التاريخ؛ من الكتابة على الكهوف، مروراً بأولئك الجاهليين العظماء بإيقاعاتهم وبربط الشعر بالسحر، انتهاءً بنا نحن.

محمد ناصر الدين: في هذا السياق نقرأ جملة “رامبو” الطرف الثاني مع بودلير يقول: يجب أن نكون حداثيين أو حداثويين بالمطلق. هل هذ يعني القطع مع الماضي؟ هل نستطيع القطيعة مع الماضي ام هناك حاجة لنقطة وصل؟

بودلير
بودلير

شمس الدين: لا. هذا خطأ يجب الانتباه له. في أوربا، ظهرت حداثة وما بعد الحداثة. قبل ذلك، يجب التفريق بين التحديث والحداثة التي وقعت في الغرب. “التحديث” هو ترجمة لـ “Modernisme”، والـModernisme”” غير ” Modernité”. “Modernisme” (التحديث) ارتبط بعصر النهضة والتصنيع وعصر الأنوار. ” Modernité” هي الحداثة في الفن التي اشتعلت بعد الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، ومازالت مشتعلة حتى الآن. الحداثة أكسير صعب التحديد، وصعب الإمساك به. أحياناً، تطل برأسها من أقدم القديم؛ وأحياناً، كما نرى الآن نثريات يفترض كاتبها أنها هي الحداثة؛ بمعنى الذهاب إلى أماكن مهملة أو تناول الإفرازات، وكثيرون يظنون بأن من شروط الحداثة أن تقول الأشياء بإفرازاتها، ولدينا أصدقاء يفعلون ذلك. Lautréamont (لوتريامون) فعل ذلك في أغاني مالدورور (Les Chants de Maldoror)، وقال له هنيئاً لك هذا العرش من ذهب وغائط. الحداثة هي أن تأتي بالجديد المدهش، وأنت لا تستطيع أن تحدد مكاناً معيناً ووحيداً لانبثاقه. مثلاً، أنا أسأل نفسي: هل الشاعر يكتب المجهول؟ أم ينطلق من المعرفة والمعروف؟ من أين يبدأ الشعر من المجهول أم من المعلوم؟ الإجابة أنه يبدأ من نقطة ملتبسة بينهما، وحتى المعلوم غير معلوم نهائياً؛ بمعنى أن الحداثة – باختصار وهو تعريفي لها – هي لا نهائية الأشياء.

ناصر الدين: سوف انتقل لمنطقة أخرى. سأقرأ من كتابك الأخير “آخر ما تركته البراري”، شيئاً ملفتاً حول الإيقاع. في الصفحة 15 تقول: “أدور في البلاد أبحث عن الإيقاع ولا ينتهي البحث أبداً لأني لن أجده أبداً، لكن أجبني الشمس قديمة أم حديثة؟ هل تهرم الشمس؟ فلا تُخدع ممن يقرأون الأشياء منذ آباتها، فالإيقاع أصيل وغامض كالروح، وحين تجادلني في الوزن فإنه لم يعد له ضرورة في شعر اليوم؛ لأن الحداثة طردته طرداً مبيناً. تعجب من أن أحد الشعراء ناقش هذا الأمر أيضاً، وقال بيننا وبين الخليل أمر من الزمن الطويل، وضع البحور لجيله؛ أتراه يلزم كل جيل؟”، تعود في الصفحة 11، ولست أعرف إن كان هذا جواباً؛ مما يزيدنا حيرة: “أحذرك من سطوة الإيقاع الذي يغري بالـمناخوليا، لكني أرى المسألة على غير ما ترى. المسألة تتعدى الصوت إلى ما خلفه إلى ميتافيزيقا الوجود”. هذا يرجعنا إلى جدل كبير وجملة  Paul Valéry (بول فاليري) بين الصوت والمعنى. بالمقابل، يُتهم محمد علي شمس الدين – بناء على ما قرأناه – بأنه متعصب للإيقاع الموسيقي في الشعر. أي موسيقى هذه هل هي “المستفعلن فعلن”؟ هل هي الموسيقى الكونية؟ هل يسكنك الإيقاع؟

شمس الدين: الشعرية عندي أبعد من الإيقاع، وأن الإيقاع فيه شيء ميتافزيقي أكثر مما هو نقر أو حركة وسكوت؛ لأن الإيقاع باللغة العربية هو للموسيقى وللغناء. الوحيد الذي استعمل مفردة الإيقاع في الشعر هو الفيلسوف ابن سينا ويقصد بها الوزن. ثمة فرق بين الوزن ” mètre”، والايقاع “rythme”. كل الشعراء بلا استثناء منهم Octavio Paz (أوكتافيو باث) مثلاً، وكذلك T.S. Eliot (توماس ستيرنز اليوت)، قالوا إن مسألة الإيقاع تتجاوز العد المنتظم للحركة والسكون، وبول فاليري في كتابه عن بودلير، حين قال إن الشعر هو ذاك التوالي بين الصوت والمعنى، وحين ينتهي هذا التوالي تقع القصيدة في النثر. لا، فاتته الشيء الكثير. أنا أقول: الشعر هو ذاك التوالي بين الصوت والصمت، والتوالي بين الصوت والصمت أعمق بكثير من التوالي بين الصوت والمعنى؛ لأن مساحة الصمت بالشعر ليس فيها لا نثر ولا وزن. هي عمق الشعر. أما الإيقاع فهو ضروري لكل قوام: الكارثة لها إيقاع؛ النثر له إيقاع؛ الوزن له إيقاع؛ إذاً الشعر هو ذاك الكل الموسيقي الذي يُكوّن نفسه بنفسه كما تَكوّن الوجود من “Magma” (الصهارة المتمازجة أو عجينة اللب) الأساسية. القصائد تتكون بسر عجيب غريب، لا يتصل فقط بموسيقى الخارج، ولا بعدد النقرات، بل يتصل بالسحر. أصل الشعر هو السحر أو الغيب؛ هذا كل الموضوع. أنا أكتب القصيدة المرتبة. من يتابعني يعرف أن الوزن أداة من أدواتي، أو روح من أرواحي؛ وأن ذاك السرد الجميل هو جزء مما أكتب. أقرأ: “تعبنا يا شهرزاد تعبنا/ وركضنا طويلاً خلف أعمارنا/ حتى انحدرت دمعتان من عنق الحصان/ فماذا لنا/ سوى أن نكتشف ثانيةً/ أن هذا الخط الذي يبدأ في طرف الكف/ لا ينتهي في أطراف الأصابع/ وأننا شريدان مثل خطّي سكة الحديد في الزمان”. هذا النص ليس فيه وصف أبداً. هذا سرد شعري راقي. القصيدة أبعد من شكلياتها، وكل النظريات مجرورة وراء نص ابداعي عظيم. بالنسبة لي، بعض قصائد الماغوط لست في حاجة لأناقش أحداً فيها؛ بها من الحقيقة الشعرية الساطعة لدرجة أنها تفحم كل الناس.

ناصر الدين: أود أن أسأل عن تفصيل حول اللغة العربية. في مقابلة قديمة قلت: اللغة العربية لغة موسيقية، والاشتقاق فيها يختلف عن اللغات الأخرى. هل ممكن أن تفصل قليلاً حول علاقة اللغة العربية بالموسيقى.

شمس الدين: تلاحظ أن الأوزان الستة عشر، وكل الابتكارات الشعرية – في تاريخ الشعرية العربية– هي خروج على القاعدة؛ خروج على النسق، كلها حتى الآن. في اللغة العربية، لا يمكن الحديث عن الشعر من دون الحديث عن أمرين: اللغة والخيال. بالنسبة للغة، العربية تركيبتها متصلة ربما بالصحراء، ومتصلة على ما اعتقد بما هو أبعد من الصحراء. نحن نعتقد أن الله كلّم محمد عليه الصلاة والسلام بالغيب. عند النظر إلى التركيب في اللغة العربية؛ والإصغاء بانتباه للقرآن، ولأشعار المتصوفة بالذات؛ نرى العربية في اشتقاقاتها الأساسية – وهذا قالها لي الشيخ عبد الله العلايلي – أن كل كلمة لها سرير: فاعل تؤدي لمعنى، مفعول تؤدي لمعنى، مَفعلَة تؤدي لمعنى، مِفعلَة لمعنى آخر؛ إذاً شئت أم أبيت وأنت تتكلم – وتواصل الكلام على سجيتك – تتكلم أوزاناً. هذه خصوصية للغة العربية، وغير موجودة بأي لغة أخرى؛ لهذا عندنا ستة عشر وزناً، بينما اللغات الأوربية لديها وزن واحد أسمه d’Alexandrie. هذا يعني أن اللغة العربية بتركيبها التاريخي، وأصولها وينابيعها مشقشقة موسيقياً. هذا لا يجب أن نهمله، ويجب ألا نغمض العين عنه؛ لنقول إن الفرنسية مثل العربية. لا، الفرنسية ليست مثل العربية. والفارسية ليست مثل العربية. أنا كتبت حافظ الشيرازي باللغة العربية (كتاب شيرازيات)، وقال لي أساطين في اللغة الفارسية إن الشعر عندك أجمل بكثير مما هو عند حافظ الشيرازي؛ بالرغم من تقديسهم له. لماذا؟ هذا من عبقرية اللغة العربية. هذه هي اللغة العربية التي لا تقبل الكسر، إلا إذا نحن أردنا ذلك.

ناصر الدين: نعود إلى حديث الحداثة، في محاولة تأصيلٍ لها. كيف تقيم الفترة التي بزغ فيها فجر مجلة “شعر” في بيروت؟ وهل كانت “شعر” مختبراً للحداثة الشعرية العربية؟ هذا السؤال سيتفرع عنه سؤال آخر – لتغطية هذه المرحلة نقداً – هل كانت تلك الفترة ضرورية لنقل الشعر العربي من أفق لآخر؟ أم أن محصلتها هي ما أوجزه الشاعر الراحل أنسي الحاج “بأننا أطلقنا الأفاعي من صندوق “بندورا”؟ ولكن أليس في صندوق بندورا متعة الاكتشاف والتجربة؟

شمس الدين: مرحلة مجلة “شعر” أعرفها. لم أنشر عندهم لأني كنت صغيراً حينها، لكن إذا قرأتَ مجلة “شعر” التي بين يدي ستجد على كل صفحةٍ صفحةً مقابلة من تعليقاتي. ناقشت أنسي الحاج في المجلة حين ترجم لـ Antonin Artaud (أنطونين أرتو)، وكتب مقالاً عنه قال فيه أنه رائع جداً، ومن جملة تعليقاته: ” أنطونين أرتو يربض عليّ”، فكتبت له ضمن نقاشي معه ولم أزلْ صغيراً: “أقتله”. مجلة “شعر” شيء جديد بالتأكيد – هناك مجلة “الآداب” مثلها أيضاً جديدة – ، بعد ذلك انتقلت شعر لـ”مواقف” وانتقلت لـ”حوار” ولملحق “النهار”، وملحق “الأنوار” خلال مرحلة زمنية، ثم ملحق السفير. خارج لبنان، كانت هناك مجلة “إبداع” المصرية، ومجلات كثيرة بالعراق. مجلة شعر هي مجلة “أم”؛ جاء بها يوسف الخال من أمريكا وبنفس الاسم، أحضر الاسم والفكرة. كانت لديهم أفكار منذ العدد الأول. أنسي الحاج لم يبدأ شعراً أبداً. بدأ بالنقود: نقد عبد الوهاب البياتي، نقد محمد الفيتوري، وقسى على سليمان العيسى وشعراء “الخفة” القومية، بعدها نشر قصيدة من قصائده. مجلة شعر قرأتها كلها عدة مرات، ولي ملاحظات عليها، وكتبت مقالاً طويلاً حولها. بدأت بنوع من التجريبية. كانت تنشر شعراً قديماً مع نصوص حداثوية، إضافة إلى الترجمات التي استندت أساسياً عليها؛ وتوالى على التأثير عليها أولاً يوسف الخال، بعدها أدونيس، بعدها أنسي الحاج، ثم شوقي أبي شقرا، ثم انتهت بالسكوت. مجلة شعر أهميتها باختصار – وبدون تفصيل – أنها كانت مجلة اختبارية لشعر الحداثة، وأنها ترجمت بعض مقالات نقدية في الحداثة، هذا من الجانب النظري الذي يجب أن نتحدث عنه؛ لأننا في أمس الحاجة للحديث عنه. كما أنها نشرت تجارب حقيقية -تبعاً لمفهومي عن الحداثة وهي اللانتهاء – إبداعية جميلة، مع نصوص أخرى لا طائل منها ولا معنى لها. هذه المجلة تحتاج إلى دراسات.

ناصر الدين: ماذا عن صندوق بندورا وإطلاق الأفاعي؟

شمس الدين: كانت علاقتي بأنسي الحاج رحمه الله به عن بعد، ولكني كنت أراقبه، وهو يراقبني؛ لسنا بعيدين عن بعضنا بالمطلق. لماذا ابتعدت عن أنسي الحاج وعن أدونيس خلال تلك الفترة؟ ببساطة، لأني لا أحب المشيخات الشعرية. منذ صغري لدي اعتداد بشعريتي، ولهذا يسمونني نرجسياً، نعم بهذا المعنى أنا نرجسي. ابتعدت عنهم لأنني أمتلك كياني، والدارسون يعرفون ذلك. هناك (26) أطروحة دكتوراة حول شعري، وبها مقارنات مع أنسي الحاج ومع أدونيس. أنسي الحاج كتب عن ديواني “النازلون على الريح” – الذي أرسلته له دار الآداب – مقالاً مفصلياً في فهمه للشعر نشره في ملحق كلمات بجريدة الأخبار. بدأ بمقاطع من شعري، ثم قال مباشرة أستطيع أن أذكر لكم صفحتين أو أكثر من هذا الشعر؛ إن محمد علي شمس الدين يفاجئني من ديوان لآخر. بعد ذلك، ذكر مقاطع موزونة مئة بالمئة. قال أنا لا أجد الآن من يكتب مثل هذه الكتابة بمثل هذا المستوى الذي أتمناه إلا محمد علي شمس الدين. بعدها، انتقل للغموض عندي ثم انتقل بالنتيجة لأشخاصي في الديوان، فقال إن النازلون على شعر محمد علي شمس الدين هم ضيوف محسودون، ثم انتقل ليقول أعتذر مئة مرة وألف مرة – أنا وأدونيس – بشأن قصيدة النثر، وبشأن أولئك الذين أطلقناهم حولنا؛ وكأننا أطلقنا الأفاعي من علبة ميندورا الأسطورية اليونانية. إذاً، انتهى أنسي إلى أن يقول جملة خطيرة – وأنا احترمه – ” الشعر وكل أشكاله”. لم يكن يعتقد هذا الاعتقاد على امتداد معظم عمره. وأنا أعرفه وأتابعه، وأحبه وأحب المشاكسة معه. في النهاية، انتهى إلى هذا الكلام. ماذا يعني ذلك؟ يعني ما أقوله أنا أن الشعر هو بكل أشكاله. أنا أحب “الوليمة” لأنسي الحاج؛ أحب الماغوط في “حزن في ضوء القمر” (الطبعة الأولى، دار مجلة شعر – بيروت 1959)؛ أحب السياب في ايقاعه، أمتلئ بالمتنبي وأمتلئ بالمعري وأمتلئ بابلو نيرودا، وأحب رامبو جداً، أحب بودلير، أحب نفسي أيضاً. إذاً، الشعرية واسعة وشاسعة. الشعر من الأعاجيب. ليس لنا أن نحشره في قصيدة النثر أو باللانثر.

ناصر الدين: قلت لي مرة أن في المخيال الشعري العربي ما يفوق المخيلة الغربية بأشواط. استشهدت بالشيخ الأكبر محي الدين بن عربي في الفتوحات المكية، حين اعتبر الشعر من خلال اللغة نوعاً من الخلق – شبيهاً بخلق الخالق – وليس محاكاة، وذلك من خلال الخيال الذي يُوجِد به الشاعر ما ليس موجوداً. هل تفصل لنا في هذا الموضوع؟

شمس الدين: هذا تفصيل خطير يجب أن ينتبه له كل قراء العربية ويستعيدوه. من أخطر النظريات في الشعر، وفي الابداع نظريةُ الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي – الرحالة الأندلسي المولود في الأندلس والمدفون في سفح جبل قاسيون بدمشق – هذا الشيخ عجيب غريب. رحّالة مدهش، ليس في فقط الآفاق الإسلامية، بل رحّالة في النفس، من قاع إسلامي صوفي. قال في كتابه الفتوحات المكية ما يلي:” الأساس هو السماع” يقصد بالسماع الصوت. “اقرأ” هي صوت، وينطلق من جذع قرآني دائماً، وينتهي إلى أن الشعر سماع، الغناء سماع، حتى الرسم سماع؛ بمعنى كل الفنون سماع. ويقول هنا محوران في السماع – في الشعر بالذات – المحور الأول هو اللغة وتشققاتها العجيبة التي تتبعها بشكل مدهش. مثلاً، عندما يفسر “ألم” – كله من قاعدة قرانية من جذع قرآني– عندما يبحر في تفسير “ألم”، أو عندما يقول “عقدت قراني على نجوم السماء” في إحدى جمله في خياله العجيب. هل هناك أجمل من هذا في الفرنسية؟ أو من قال أجمل منه؟ لا بودلير، ولا رامبو ولا غيرهما. نحن لدينا كنوز، لكننا مُغمضون أعيننا عنها بسبب التخلف. عندما نرجع لابن عربي بما قاله عن الشعر – قبل كانط فيلسوف الخيال الألماني، وقبل هيدغر ونظرته للغة على أنها بيت الكائن أو بيت الشاعر، وقبل نيتشه – قال ابن عربي أن الشاعر يشبه الإله بكل بساطة؛ وسأل نفسه لماذا؟ عزا ذلك إلى الابتكار من خلال الافتراع اللغوي للشعر، وقال إن الشاعر عنده الخيال، وسأل نفسه ماذا يعني الخيال؟ فأجاب بكل بساطة الخيال هو أن يوجد الشاعر ما ليس موجوداً، وهذا هو الخلق. إذاً، هو بشكل أو بآخر على صورة الله عز وجل. هذه مسألة إسلامية، وابن عربي لم يجدف. طبعاً، المتزمتون حاكموه لاحقاً، وأحرقوا كل التراث الاسلامي العظيم. هو يقول لماذا الشاعر مبدع وليس مقلداً، وأجاب لأنه من خلال الخيال والكلمات يُوجِد ما ليس موجوداً. شجرة الأنوار ليست موجودة في الطبيعة، ولكنها موجودة في القصيدة. “اليأس من الوردة” عنوان ديواني، لن تجده في الطبيعة، لكن إذا حققت في قصيدتي ستجد اليأس في الوردة، وهكذا. هذه النظرية في الخيال أنقذت الشعر من الصلافة اليونانية.

ناصر الدين: أنقذته من المنطق.

شمس الدين: من المنطق الصلف اليوناني، منطق أرسطو وسقراط وأفلاطون حين اعتبروا الشعر محاكاة ومحاكاة للمحاكاة، ووضعوه في أسفل سلم المدينة، ثم قتلوا الغرائز كلها، ومجّدوا الشعر “الأبولوني” على حساب الشعر “الدنيوسيسي” مُعتبِرينه ساقطاً، فجاء نيتشه بضربة على رؤوسهم جميعاً. يجب الانتباه أن النظرية العظمى هي لابن عربي، وأعتقد أن نيتشه وهيدغر متأثران بابن عربي، لأن الألمان تأثروا كثيراً بالصوفيين العرب. كمثال على ذلك غوته في الديوان الشرقي الغربي متأثر جداً بابن الفارض والمعلقات وهذا شيء معروف. هكذا كنا؛ فلا نستهنْ بأنفسنا. أنا أنظر إلى أعماقنا بتقدير كبير، وأعرف الغرب جيداً: أعرف بودلير ورامبو، لوتريامون قرأته حتى شبعت؛ إنما بعظمة أفكار ابن عربي وبأعماق العقلية للمعري وافتراع الحكمة من جذورها العميقة الملتبسة عند المتنبي، كل هذا ليس موجوداً لديهم نهائياً. نحن ملوك الشعر.

ناصر الدين: لك تعريف في الشعر عجيب هو “جرح من جروح الغيب”. هو تعريف ملفت، وكأنه يحيل إلى تجربة قدسية نجدها عند إليوت، أو عند ماتيس الذي يقول إن كل فن هو ديني بالضرورة أو قدسي. هل يمكن أن نخوض في هذا التعريف؟ ماذا يعني أن الشعر جرح من جروح الغيب؟

شمس الدين: طبعاً لإحساسي أولاً، ولاطلاعي ولابتكاري؛ قلتُ ذلك حين سُئلت في محاضرة من المحاضرات – هذه المحاضرة موجودة في كتابي الذي سيصدر قريباً عن دار الرافدين– قلتُ في تعريف الشعر إنه “جرح من أقدم جروح الغيب”. لماذا؟ ببساطة وتفسيراً، “جرح”: لأن الشعر “كلمة” في اللغة؛ ويذكر ابن منظور والفيروزآبادي  أن “كلم” هي “جَرَح”؛ إذاً “الكلمة” “جُرْح”، وماذا يعني الجرح؟ الجرح يكشف، يفتح اللحم المصمت، يفتح الجسد المقفل، ليُنظر إلى داخله، ويُستخرج دمه أي حقيقته. وهكذا الشعر بالنسبة لكل الأشياء، من أول يوم في التاريخ حتى الآن. أنت تقول القصيدة إذاً أنت تجرح الوجود؛ هذا معنى أن الشعر جرح. “من أقدم الجروح” لأنه قديم جداً؛ بمعنى أنه مرافق للإنسان الأول. الشعر الأول هو الإنسان الأول. هذا موجود في أدبيات العرب. الطبري وابن الأثير يقولان في تاريخ الشعر أن أول من قال الشعر هو آدم ورد عليه إبليس. هذه الأدبيات البدائية – وهي ليست حقيقة تاريخية ولكنها دلالة- تقول أن الشعر هو للإنسان الأول؛ هذا معناه “من أقدم جروح الغيب”. ولماذا “الغيب”؟ الغيب يبدأ من المستور الذي لا تعرفه، الغائب عنك، وينتهي بالله عز وجل، الذات الإلهية. “يسألونك عن الغيب قل الغيب من أمر ربي”

ناصر الدين: يسألونك عن الروح

شمس الدين: الروح والغيب متلازمان، وسئل محمد عليه الصلاة والسلام عن تفسير “يسألونك عن الغيب”، فقال: “ما المسؤول بأعلم من السائل”. أي أن الغيب هو ذاك السر الذي لا يُفسَّر، هو المجهول هو المفاجئ هو الحداثة.

ناصر الدين: هو الشعر، من أين يأتي الشعر؟ سأقلب لك السؤال وأضع كرة النار في حضنك؟ من أين يأتي الشعر من المعلوم أم من المجهول؟

شمس الدين: هذا السؤال سألتُه سابقاً، وخطر في بالي: أنا من أين أكتب الشعر من المجهول أم من المعلوم؟ من المعرفة أم من الرغبة؟ أعتقد أنه يأتي من مكان آخر بين المعلوم والمجهول. كالغيب كالوحي كطقوس السحر. الشعر سحر، دين، غيب. أنا أتحدى من يقول لي من أين يأتي الشعر. لا أعرف من يُنبِئني من أين يأتي. أنظرْ منذ الشعر الأول، حتى الآن. التخيل كما عند عنترة – منذ تقريباً 1500 سنة – هو شاعر عربي أسود وكان عبداً، ماذا يقول لعبلة، وانتبه أين تذاكرها:

“ولقــد ذكرتـك والــرماح نواهـــل             مني وبيض الهند تقطر من دمي”

بينما دمه سائل على الرماح في الحرب، انتبه لما يريده:

“فوددت تقبيــل السيوف لأنهــا             لمعـت كبــارق ثغـــرك المتبسـم”

شيء مدهش. من أين أتى هذا الرجل بهذه اللحظة في الحب، على حد الموت؛ على حد السيف، الحب يقطر دماً. هل أحد غير الله يعرف كيف أتت هذه اللحظة؟ إذاً، فمصدر الشعر كمصدر الوحي. مهما قلنا عن الواقعي واليومي والنافل وغيره، والبعض الذي يكتب إفرازات يبقى السر البعيد للشعر وراء الظاهر.

ناصر الدين: كنا نتحدث عن قدسية التجربة الشعرية. توجس نبي الإسلام من الشعر، إذا كان الشعر يحتمل البعد القدسي أو الديني.

شمس الدين: عند رأي في هذه المسألة، ليس لأني أخاف قوله، ولكنه خطير. برأيي، القرآن روحه شعرية بكل حالاته. به عجائب الخلق غير المفهوم. ما هي الشجرة، شجرة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار (الكلام عن الآية 35 من سورة النور). بالتفسير المنطقي سواء الجاهلي أو الحالي، ما أين هذه الشجرة؟ لا شرقية ولا غربية ليست هناك جهات. تشتعل بدون نار. أليس هذا عمق خارج من قلب الخيال، واتساع الرؤية بشكل مبهر. أنا هذا أسميه شعراً. محمد عليه الصلاة والسلام طبعاً ليس بشاعر. جاء بتسمية أخرى، الشعر جزء “جوّاني” منها. أتى بالذكر قال له الله أنت نبي. أضحت هناك ثنائية نبي / شاعر. المتنبي أراد أن يصنع من نفسه نبياً فلم يستطع. محمد أراد أن يكون شاعراً فلم يقدر. هل لاحظت هذه الثنائية. هما لا يتقاتلان باستمرار، بل يتكاملان. أتعرف من أنجز المصالحة بين النبوة أو الذكر مع الشعر؟ وهي مصالحة غريبة عجيبة. المتصوفة؛ كل نظريات ابن عربي حول الشعر وأصله هي من أصل قرآني. المتصوفة أنجزت تلك المصالحة القوية في التاريخ كله. القرآن ليس ضد الشعر، والنبي محمد أراد نوعاً من الشعر الوظيفي مثل ما يسمى اليوم الشعر الملتزم، كالكيفية التي يكتب بها الفلسطينيون مثل درويش وغيره، وكشعراء المقاومة وظيفياً، أما العمق لا. أنظر لشعراء إيران من يمتلكون الأعماق؛ حافظ الشيرازي أو جلال الدين الرومي، شعرهم ليس “تبشيرياً” أبداً، يتعاطون مع عمق المعرفة الشعرية البشرية، ويعتبرونها جزءاً من أصل العرفان، ويسمونه العشق.

ناصر الدين: نعود إلى الحداثة، وأسأل هل من الممكن وجود حداثة من دون نقاد؟ في زمنه، كان ابن جني مقابل المتنبي، وإلى جانب بودلير ورينيه شار نجد نقاداً كثر مثل سوزان برنار ولاحقاً تودوروف ورولان بارت وباتاي وبلانشو. نحن في الثقافة العربية، الناقد العربي أشبه إما بشرطي سير أو بممارسة دوره فيلم الراقصة والطبال، التطبيل وألعاب السلطة بقلب الشعر، ما رأيك هل هناك حداثة بدون نقد؟

شمس الدين: سابقاً مررنا بزمن ذهبي “الزمن الفلسفي”، بعد ذلك انطوى كل شيء. انطوى ما أسميه الحس الفلسفي والنقدي. نحن منذ عصر النهضة، وحتى الآن ليس لدينا حس فلسفي، ولا حس نقدي؛ لذلك الحس الفني الجمالي مبعثر ومشعث، وغير منظور إليه نظرة نقدية إبداعية فلسفية. أنا أعوّل على التاريخ والفلسفة. نحن نظريتنا النقدية العربية عظيمة جداً، وكل من يفهم الشعر والتراث العربي يعرف ذلك. حازم القرطاجني وصل لأبهى مراكز (النقد)، كذلك عبد القاهر الجرجاني. نحن الآن من مطلع النهضة في فراغ حقيقي. الفرق بين “حداثتنا” والحداثة الغربية أن الحداثة الغربية نشأت بنظرين، بكفتي ميزان؛ لم تنشأ عرجاء. الحداثة الغربية هي المدارس الحداثية والابداعات. الابداعات في الموسيقى، الابداعات في الرسم، الابداعات في الشعر. والمدارس الشعرية ابتداءً بالدادائية، ثم بعد ذلك السريالية، ثم المستقبلية والمدارس الأخرى البنيوية والشكلانية هي إشارات إبداعية وبنفس اللحظة هي إشارات نقدية. مثلاً، إلى جانب بول ايلوار ترى رولان بارت وجوليا كريستيفا، إلى جانب بيكاسو وسلفادور دالي وأوجين يونسكو، ترى منظرين تودوروف مثلاً. هم أيضاً بذاتهم الشعراء أو المبدعون كل شخص منهم لديه (نظرته النقدية)، اندريه برتون شاعر وروائي وصاحب نظرية، و”نادجا” الملازمة له، وغيره. إذاً، في الغرب كان هناك توازن بين الإبداع على تنوعه وتطوره، والمدارس النقدية التي هي في نفس اللحظة فلسفية. لو ذكرنا جان بول سارتر يُعدّ روائي وجودي وفيلسوف وجودي بنفس الوقت. نحن نفتقد ذلك. لدينا الميزان بكفة واحدة. لدينا تجريد ابداعي خاصة شعريٌّ كثير، من فجر الحداثات، منذ لويس عوض ومن قبله جبران وجذوره وبعدها صعوداً لجماعة مجلة شعر وقصيدة النثر وجماعة مجلة الآداب. كل هذا التنويع الإبداعي من السياب للماغوط لمحمد ناصر الدين. كل هذا حقل ابداعي متنوع جداً جداً، ولكن غير منظور له نقدياً. بمعنى ينقصنا العرق الفلسفي للنقد الإبداعي. من هنا، أدعو لمن لديهم القدرة على التنظير أن يكتبوا، أرى فقط كتباً محدودة.

ناصر الدين: قبل قليل تحدثنا عن أنسي الحاج. كان رافضاً للقصيدة العمودية لفترة، وبآخر حياته اعترف بها. في المقابل، صقور في المعسكر الآخر – منهم أحمد عبد المعطي حجازي – يرفضون قصيدة النثر جملة وتفصيلاً. كان لك مع حجازي حوارٌ حول الماغوط وقصيدة النثر في مصر. أوجز لنا هذا النقاش.

أنسي الحاج
أنسي الحاج

شمس الدين: الحوار كان حامياً جداً وليس في مصر، بل في الكويت أثناء احتفالية لمجلة العربي، كنت أنا وجابر عصفور على المنبر وصلاح فضل وأحمد عبدالمعطي حجازي. عرضتُ للشعرية العربية بكافة اتجاهاتها وانتقدت طرفي المعادلة. أحدهما الطرف الذي ينكر انكاراً باتاً وبلا دليل قصيدة النثر العربي، ومنهم أحمد عبد المعطي حجازي في كتاب كان قد صدر له حديثاً (حينها) عن دبي الثقافية أسمه “القصيدة الخرساء”، وفي العنوان لؤم. حجازي لا يقبل نهائياً رأياً آخر؛ وقد ناقشته – دون نقاش في النظرية؛ لأن قصيدة نثر العربية الجميلة موجودة، ووسعت الشعرية العربية وهذا لا جدال فيه- بأننا نريد معرفة منهم الشعراء وما هي القصائد. هذا ما ينقصنا وليس نقاشاً في النظرية. قال لي: لا. قلت له: سأعطيك مثلاً، ماذا تقول في “حزن في ضوء القمر” لمحمد الماغوط؟ فسكت قبل أن يقول: آآه كان يمكن أن يكون “حزن في ضوء القمر” شعراً لو كُتب بالوزن. أجبته: لا، سيفقد الشعرية تماماً، ستخرج أوزان رتيبة مملة ومعيقة للشعرية. ليس الوزن دائماً منشطاً للشعرية، ولا النثر دائماً منشطاً للشعرية. الشعر هو الشعر، والشاعر ساحر وفنان حر يستعمل ما يريد. أنت كتبت كتاباً كاملاً أسميته “القصيدة الخرساء” حول هجاء قصيدة النثر، ومثَّلتَها بلعب كرة سلة دون شبكة إلى آخره، ولم تذكر ولو نموذجاً واحداً من قصيدة النثر. لم يجبني. هذا الحوار الذي دار بيننا. وأدونيس قال إن محمد علي شمس الدين لم يكن ضد قصيدة النثر. محمود درويش ضد قصيدة النثر، ولا يقبل بها، ولكن بعض المرات كان يساير؛ لأنه يخاف من الصحفيين، فهو لم يكتب أي قصيدة نثر. أنا ربع انتاجي قصائد نثر. “حلقات العزلة” قصائد نثر، وعشرات القصائد، وهي جزء من تجربتي، ومن نظرتي للشعر بأنه ذلك الكل المركب.

ناصر الدين: يقول أفلاطون حين تتغير المدينة تتغير الموسيقى. ألم تكن قصيدة النثر دخولاً للمدينة من خارج اللغة الريفية الترميزية؟ أي اكتشاف المدينة لا كاستعارة، وإنما كحياة. ألم يكن ذلك الارتطام بالمدينة هو ما صنع مفاجئة الماغوط في اغراء المونتاج والكولاج؛ في حياة الصعلكة والتسكع في المدينة؟ أليست قصيدة النثر -أنا أحاول ن أكون محاميها هنا – لغة مفارقة ودهشة وسحر؟ بمعنى هناك من يتهم بأن قصيدة التفعلية لم تعد تقبض على الزمن.

شمس الدين: لا. لا. أنا أنتقد السائل. مرة في مصر انتقدت الجمهور. رأيته يصفق عشوائياً لأيّ كان. قلت لهم علامَ تصفقون. صفقوا حين يجب أو حين ينبغي. هناك خلط كبير. حين أقول قصيدة النثر، فأنا أقول قصيدة أولاً، أي فيها بين الـ”لا” والـ”نعم”، بين الغموض والسحر، فيها غصص اللغة، فيها الايقاعات الخفية، ذاك الايجاز البرقي القاطع، أي كل العناصر التي كتبتها سوزان برنارد وغيرها، – وسوزان أصبحت الآن قديمة – هذه هي قصيدة النثر التي أحبها كثيراً وأتوضأ بها. وهناك قصائد بأشكال أخرى مكتملة أكثر منها، وربما مثلها؛ بإيقاعات وبكسر الايقاعات. ” ناوليني حذائي وقلبي / ناوليني العصا وقِربَة ماء الحياة / ناوليني السفر / إنني داخلٌ في فضاء الحقول البعيدة”. هذه القطعة لي. إذاً، دعنا نتفق أن القضية ليست قصيدة نثر أو قصيدة وزن؛ هذا أسخف تقسيم للشعر. لا التفعيلة تصنع شعراً، ولا كسرها يعمل شعراً. الشعر هو من يصنع نفسه. هو من يعطيك الإشارة لتعمل كذا وكذا. إذاً الشعر نزع لإسراره، والإيقاع يُدرس؛ لأن قصيدة النثر قامة على كسر الوزن “” mètre، لكنها لم تقم على كسر الإيقاع. كل قصيدة نثر لها إيقاعاتها. كل قصيدة نثر لها سحرها الخفي، لها المضمر في الكتابة، لها الغائب في الكتابة، وكل قصيدة عاطفية إذا كنت قادراً على هذا الاكتمال الهائل. أليس القرآن مكتمل؛ إذا كنت في الشعر قادراً على أن أكون مكتملاً صوتاً وصمتاً، صورة حذفاً وإيجاباً. هل يستطيع أحد أن يقول لا؟ أيجب أن اذهب لكتابة قصيدة النثر؟ لا، أنا أكتب قصيدة. بعد ذلك أنظروا فيها وأنظروا ما هي عناصرها. هذا صراع وهمي وأنا لا أوليه أهمية. أنا أحب القصيدة بعريها الأساسي. كما خلقت مثل وردة تولد فجأة. هكذا الشعر.

ناصر الدين: هيدغر يقول التفكير لم يبدأ بعد. هل الشعر لم يبدأ بعد؟

شمس الدين: هذا هو سؤالي. نحن في هذا اليوم هنا والآن، هل نبدأ من مجهول أو من معلوم؟ لم نعطِ جواباً. الشعر بدأ ولم يبدأ هذا هو جوابي.

آخر إصدار للشاعر صدر هذا الشهر عن دار الرافدين
آخر إصدار للشاعر صدر هذا الشهر عن دار الرافدين

ناصر الدين: هل تخاف من انقراض الشعر، السمفونية انقرضت تقريباً.

شمس الدين: لا. القادرون يستطيعون كتابتها اليوم. ليس هناك شيء انقضى وانقرض “لا شيء ينتهي، لا شيء يولد؛ كل شيء يتحول”، كل ما أمامنا كسر. التاريخ كله كسر. أنت ابنِ مَبْنَاك، ليس هناك شيء انتهى. هناك شعراء صوتهم جميل، لكنه ليس مفتوحاً على البحر بشكل واسع. صوتهم ساقية بسيطة جميلة. هناك شعراء اللمحة أو البرق الشعري، وهذا جميل جداً، لكن أنا أستطيع أن أقدم لك ليلاً من البروق في قصيدة واحدة. أقرأ قصيدة “يوم الأحد الواقع فيه صمتي“، التي أقول فيها: “في زحمة السير نحو الله”. هذه رحلة لها بداية وليس لها نهاية. يجب أن لا يُرسم مسارات للشعر مثل أن يقال اختصروا، واكتبوا شعر “هايكو” ياباني، أو اكتبوا كذا. في الشعر، ليس فيه “قل” أو “لا تقل”. أعطني قصيدة فقط؛ والمنظرون سينظّرون، وبعدها انتظروا خروج الفلسفات حول جذع القصيدة. القصيدة سابقة العالم؛ وانتهى الموضوع. في عرقها ترتبط النظرية والنقاد والجمهور الذي يتحرك هنا وهناك. كل شيء في طرف القصيدة، وعلى سنّها تنشأ المعارك. نحن في معركة مع إسرائيل هي معركة في الشعر، نحن معركتنا مع داعش هي معركة في الشعر، نحن الآن معركتنا مع الكورونا هي معركة في الشعر. في كل معاركنا القومية والدينية وغيرها، عُدْ للإبداع، لأصل الإبداع، ومعنى الحرية، ومعنى الخلق. هذه بعض ملامح القصيدة. عد للغة، عد للغة.

* بالتنسيق مع دار الرافين، ولهم كل الشكر، ننشر هذا الحوار، وهو نص اللقاء الذي أُجري مع الشاعر العربي محمد علي شمس الدين، يوم الخميس 2/5/2020، خلال الفعالية السادسة عشر من موسم الرافدين الثقافي، الذي امتد من 22/4/2020 إلى 21/5/2020.

 

  بالإمكان مشاهدة فيديو الحوار كاملاً هنا على حساب دار الرافدين على الفيسبوك.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.